حريٌ بأبي محمد الجولاني أن يتواضع كثيراً وهو يتحدث عن حاضر الشام ومستقبلها، وعما يريده أهلُها ولايريدونه. وأكثرَ من ذلك، حريٌ به أن يراجع كلامه ألف مرة ومرة عندما يتصدى للحديث عن مشروع الجهاد في الإسلام، والذي قال إنه مشروع جبهة النصرة التي يترأسها، وهو مشروعٌ حسب قوله: «ليس وليد اللحظة، بل نتاج تاريخ طويل من الجهاد، يعود إلى زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته فهم ينتظرون من ذلك الوقت هذه اللحظة ومن بعد سقوط الدولة العثمانية لإعادة سلطان الله على الأرض»! لم تقم الثورة السورية إرضاءً لأحدٍ في الشرق أو الغرب، ولا نتخذ، كسوريين، مواقفنا منها ومن أحداثها وأطرافها تجنباً لغضبِ فلانٍ ورضا علانٍ كائناً من كان. من هنا، ورغم الموقف الدولي القانوني المعروف من جبهة النصرة، لم نكن نُشير في نقدنا إليها بالاسم، بل كنا نشير إلى بعض ممارساتها وممارسات أشباهها بثقافة (مابالُ أقوامٍ) النبوية الحضارية. وما ذلك إلا لتواتر أخبارٍ عنها من أرض الواقع كانت تُرجح أن كُلﱠ همها يتركز على محاربة نظام الأسد، وأنها لم ولن تتدخل من قريبٍ أو بعيد في خيارات السوريين السياسية والثقافية والاجتماعية، وأنها تتجنب الظهور الإعلامي وتسعى إلى أداء مهمتها بصمتٍ وهدوء. أما وقد خرج علينا الجولاني في لقاء تلفزيوني لمدة ساعةٍ كاملة، يجول فيها ويصول متحدثاً عن حاضر سوريا ومستقبلها، وعارضاً لما يريده أهلها ولما يرفضونه، وشارحاً لمشروع الجهاد، ومقدماً لمواقف حاسمة حول كثيرٍ من القضايا الأساسية التي تبدأ بجنيف ولاتنتهي بوضع الأقليات في المستقبل، فإن الأمر يدفعنا لوقفةٍ معه نطلب منه فيها أول مانطلب أن يحترم الشام وتاريخها وحضارتها وإنسانها، وقبل هذا وبعده، فهمها المتألق والعفوي للإسلام ولطريقة تنزيله على الواقع. لم يأتِ هذا الفهم عبثاً وإنما تكوﱠن من وجودٍ تاريخي مستمر لرموز دينية وفكرية وثقافية واجتماعية متميزة على أرض سوريا، ومن انتماء هؤلاء للحضارات والأديان الكبرى في التاريخ، ومن التفاعل المستمر بينهم من جهة، وبينهم وبين متغيرات الواقع من جهةٍ أخرى. وللتذكير، فإن سوريا مثوى لعدد كبير من الأنبياء والصحابة والأولياء الصالحين، ومن ذلك مقام نبي الله هابيل، ونبيه إبراهيم الخليل، وأهل الكهف، وأم المؤمنين السيدة (أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان، زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والسيدة زينب، والسيدة رقية، ابنتا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وذكر ابن سعد في طبقاته مايزيد على مائة رجل من الصحابة الكرام دخلوا الشام منهم: أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأحد العشرة المبشرين بالجنة سعيد بن زيد، ومؤذن الرسول الكريم بلال بن رباح، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وزاهد الأمة أبو الدرداء، وأحد النقباء عبادة بن الصامت، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، وابن عم الرسول الكريم الفضل بن عباس، وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وأبو أمامة الباهلي، وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعمرو بن عنبسة، والعرباض بن سارية، وحجر بن عدي، وخالد بن سعد، وغيرهم كثير. أما التابعون والعلماء فكان منهم مثلاً لاحصراً كعبُ الأحبار وابن قدامة المقدسي وغيره من المقادسة، والأوزاعي، و شيخ الإسلام ابن تيمية، و ابن القيم، و ابن كثير، والنووي، والطبراني، والذهبي، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والفارابي، وغيرهم كثير. وبمناسبة اللقب المُعبر للجولاني والذي يسبق اسمه، بكل تواضع، وهو (الفاتح)!؟ نذكر أن ممن عاشوا في سوريا أمراء وخلفاء واستحقوا ألقابهم دون حاجةٍ للتعريف بهم وبإنجازاتهم الناصر صلاح الدين، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، وغيرهم كثير. والذي يبحث في سيرة وكتابات وممارسات هؤلاء الذين تكونت ثقافة سوريا وتاريخها، بناءً على عطائهم وعطاء أمثالهم من رموز الإسلام، يرى إسلاماً ينبض بالحياة والكرامة والحرية والعدالة والتسامح والمحبة والبناء، يختلف بالتأكيد عن الإسلام الذي نفهم أن الجولاني يؤمن به، ويراه الأصلح لسوريا ولأهلها، ولحاضرها ومستقبلها. ثمة كثيرٌ يمكن نقده ونقضه في حديث الجولاني ومقولاته لقناة الجزيرة مما لايتسع له هذا المقام. والمُفارقةُ تكمن في حقيقة أن أي طالب علمٍ جدﱢي يمكن له أن يقوم بتلك المهمة، وبسهولة. لكن المُفارقة تبلغ حد المأساة حين ندرك أن الجولاني يضع نفسه رغم ذلك عملياً، وبغض النظر عن كل شعارات التواضع، في مقامٍ أكبر منه بكثير، لأنه بمنطق القوة يؤثر بشكلٍ أو بآخر في مصير بلدٍ كامل، ليس كأي بلد، هو سوريا. قد يكون للجزيرة عذرٌ في بحثها عن سبقٍ صحفي يبحث عنه الإعلاميون المِهَنيون في كل مكان. وقد يكون ثمة تبريرات لدى تيسير علوني وهو يحاول أن يسند ضيفه من هنا وهناك، ويعيد عليه السؤال عشر مرات حتى يفهمه، ويحاول جاهداً توجيهه ليُعطي الإجابات التي (يجب) أن يُعطيها. لكن المقابلة بأسرها تبين بجلاء أن رجلاً يضع مستقبل بلاده على المحك لايرقى لأن يكون تلميذاً للأعلام الذين صنعوا تاريخ سوريا وحضارتها وذكرنا بعض أسمائهم أعلاه. نعلم أن هناك دائماً فرقاً بين الإخلاص والصواب. وهاتان صفتان لاتجتمعان بالضرورة لدى كثيرٍ من الناس. لكن المأساة تظهر، مرةً أخرى، حين يكون هذا حالُ إنسانٍ يضع نفسه في موقعٍ يؤثر في البلاد والعباد، وهو يجهل تلك الحقيقة. من هنا، نقوم بواجبنا، ونؤكد على أن الصواب يجانب الجولاني إلى درجة كبيرة، وكبيرةٍ جداً. وعلى أنه يرتقي مركباً صعباً، ويضع نفسه أمام مسؤولية نؤكد أمام الله والتاريخ أنه لايعرف حجمها. كما نُشهد الله والسوريين على هذا الكلام. لكن هذا لايمنعنا من أن نقول: إذا كان لدى الجولاني إخلاصٌ يشعر المرء به من طريقة كلامه ورنة صوته، فإنه مدعوٌ لأن يقوم، ببساطة، بكثيرٍ من المراجعات. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :