جغرافياً. كانت تركيا، ولاتزال وستبقى دائماً، نقطة اللقاء والعبور والتواصل بين الشرق والغرب. لكنها أعطت العالم أيضاً تجربةً على صعيد حوار الحضارات ولقائها، خلال العقدين الماضيين على الأقل، بات صعباً التكهنُ بمصيرها اليوم. من ملامح تلك التجربة معهد العلوم والفنون في إسطنبول، الذي أسسه رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، بمنهجٍ للبحث قائمٍ على ثلاثة مبادىء رئيسة، تحكم بشكل صارم أي عملٍ وإنتاج ونشاطٍ فيه، وهي: 1) امتلاك رؤية عالمية والانطلاق منها، 2) اعتماد المدرسة التكاملية البَينية في العلوم وطرق البحث Interdisciplinary لفهم الظواهر الاجتماعية ودراسة طرق التعامل معها، 3) الحياد وعدم الدخول أبداً في عالمي السياسة والاقتصاد، وإنما العمل على إثراء المجالين من جانب، وإثراء إنتاج المعهد من خلال دراستهما المستمرة من جانب آخر. أسسَ المعهدُ بعد ذلك جامعةً اسمها Istanbul Ṣehir University، وعندما تنظر إلى فقرة (رؤية الجامعة) تقرأ مايلي: «من الممكن إنشاء نظام عالمي حيث تكون العلاقة بين الفرد والمجتمع والعلاقة بين المجتمع والطبيعة في غاية التناغم والانسجام المتبادل. يهدف معهد العلوم والفنون [من إنشاء الجامعة] إلى توفير أجواء أكاديمية وثقافية حيث يمكن للمرتكزات المعرفية والروحية والفنية لمثل هذا النظام أن تُبحث بحرية». هل يبقى ممكناً استمرارُ التجربة التركية خلال الأشهر والسنوات القادمة وفق الروح والمعاني الكامنة في المبادىء والرؤية المذكورة أعلاه؟ تبدو الإجابة على هذا السؤال في غاية الصعوبة بعد أسبوعين من محاولة الانقلاب العسكري فيها، رغم أن الإجابة تحمل في طياتها الكثير من الدلالات، ليس فيما يتعلق بمستقبل تركيا فقط، بل بإمكانية وجود حوارٍ حقيقي للحضارات في عالمنا المعاصر، أو استحالة تحقيق ذلك الحوار، بكل مايترتب على هذا الفشل من آثار كارثية على الإنسانية بأكملها. ثمة ضغطٌ هائل على أهل التجربة التركية يُؤخذ بعين الاعتبار عند التفكير في القضية. ورغم أهمية الجوانب السياسية والأمنية لذلك الضغط، لكن الضغط النفسي المُصاحب لمجريات الأمور يبدو عنصراً هاماً لايمكن إغفاله على طريق أي محاولةٍ للبحث عن إجابات. وفي مثل هذه الأوضاع يُصبح الحفاظ على التوازنات بين المثالية والواقعية بدورهِ مهمةً صعبة. فمن ناحية، لايمكن تجاهل المشاعر التي تخلقُها في أي جماعةٍ بشرية أحداثٌ يراها هؤلاء بمثابة «تصفية حسابات» كبرى على المستوى الحضاري العالمي. وهذا مايجعل المطالبة بتجاوز الضغط النفسي، والإصرار على المبادئ والرؤية أعلاه، حتى في هذه الظروف، نوعاً من الترف والمثالية بالنسبة للكثيرين. لكن قوانين الاجتماع البشري، من ناحيةٍ أخرى، تفرض على من تصدى لمسؤولية المساهمة الفعالة في حوار الحضارات أن يستحضر مُقتضيات تلك المسؤولية. وهذا أمرٌ لن يفهم المُستقيلُ من مثل تلك المساهمة سبباً للحديث عنه أصلاً. سيكون مفيداً هنا التذكير ببعض ملامح التجربة المختلفة التي نتحدث عنها. فقبل كل شيء، كانت التجربة تحاول إلغاء كل مايمكن إلغاؤهُ منطقياً من الثنائيات التي تسيطر على عقل الإنسان في الغرب والشرق على حدٍ سواء. فالعلم لايتناقض مع الإيمان، والسياسة لاتتضارب مع الدين بفهمه الحضاري. وهذان مبدآن شائعان في العالم المعاصر ليس من السهل تحديهما نظرياً وعملياً. وفي نفس الإطار، لم يشعر أهل التجربة أن الانفتاح على جميع شرائح المجتمع يعني تمييعاً للانتماء الديني والعقدي. بمعنى، أن الانتماء الوطني لايتضارب بالضرورة مع أي انتماءٍ آخر. لهذا، لم يكن غريباً أن يكون في أعضاء حزب العدالة ومسؤوليه من يقول إنه مسلم ملتزم ومن يقول إنه علماني ومن يقول إنه قومي، بشرط أن يكونوا جميعاً ملتزمين بمبادىء وبرنامج الحزب التي تتمحور حول تنمية الإنسان والمجتمع، وتحقيق مبادىء العدل والحرية، وصيانة الوحدة الوطنية، وحفظ المصلحة العليا للبلاد. وكان يمكن لأي إنسان أن يرى مصداق هذا حتى في مقرات الحزب في أنقرة وإسطنبول مثلاً، حيث يمكن رؤية من يمثلون جميع تلك التوجهات. فترى المحجبة وغير المحجبة، والحليق والملتحي، والمرأة والرجل، وأشخاصاً تعود أصولهم لجميع المناطق التركية، ولمختلف المذاهب والانتماءات، وغير هذا من التنويعات. هل ثمة مجالٌ لاستمرار التجربة بمثل هذا المنهج بعد الآن؟ هذا، مرةً أخرى، سؤالٌ له تداعيات على مستقبل تركيا، ومستقبل العرب والمسلمين، ومستقبل علاقتهم بالعالم، ومستقبل هذا العالم بأسرهِ نهايةَ المطاف. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :