الحروب لم تعد امرًا طارئًا في البيئة الإستراتيجية العالمية، اذ اضحت تمثل احدى المسلمات الاعتيادية لدى القوى المتصارعة؛ لكونها انتقلت من بيئة العمليات العسكرية إلى بيئة العمليات المختلطة، اذ انتقلت مضامير الحروب في القرن الحادي والعشرين من ساحات المعارك التقليدية إلى داخل البنية المدنية للدول "الفكرية، الاقتصادية، السياسية، التكنولوجية"، ومن ثم تراجع هنا العمل العسكري "الصلب" في الحروب الحديثة لصالح الوسائل غير المقيدة، التي مثلت بديل نوعي واستراتيجي عن تلك الوسائل التقليدية، التي اضحت تشكل عبئًا استراتيجيًا لا يمكن تخطي تداعياته. وفي هذه الدراسة "تكتيكات الحروب الحديثَة الأمن السيبراني والحروب المعززة والهجينة" للباحثين د.علي زياد العلي د.علي حسين حميد والصادرة عن دار العربي للنشر، تنطلق فرضيتها من فكرة مفادها ان بيئة الحرب في القرن الحادي والعشرين تأثرت بجملة من المتغيرات "الفكرية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية" التي بدورها انتهت بظهور وتطور نماذج حديثة من الحروب بعيدة كل البعد عن تلك المتعارف عليها، اذ اسهمت بشكل مباشر في تغيير نسقية علاقات القوى الفاعلة في البيئة الإستراتيجية العالمية. تتحدث الدراسة عن الحروب الفاعلة بين القوى العالمية المتصارعة (الولايات المتحدة الأميركية، الصين، روسيا الاتحادية، القوى الاوروبية)، حيث ان الدافع للحروب قد تغير هو الاخر بشكل كبير تزامنًا مع التغيير الذي اصاب منظومة الحروب الحديثة، ولم يعد الهدف الإستراتيجي من شن حرب على الخصم؛ من اجل القضاء عليه وشل قدراته عسكريًا، وانما تغيير الدافع ليصل إلى مديات اوسع واكثر عائدية كتلك التي تتعلق بضرب منظومة الأمن الفكرية لدى الخصم، وشل اقتصاده، والتلاعب بمنظومات الشبكات والتواصل السيبراني، وغيرها من وسائل التأثير اللامتناهية. ويرى الباحثان أن الصراعات انطوت في البيئة الإستراتيجية العالمية، ولاسيما بين القوى العظمى، على الرغبة في مراجعة هيكلية الحروب بشكل أساس ورصد فعاليتها الإستراتيجية، لاسيما تلك المتعلقة بتطور تكتيكات الحروب، التي باتت تشكل ظاهرة لها خواص نادرة في الشؤون الدولية، لاسيما على المستوى العملياتي وعلى مستوى ادارة الصراعات، اذ باتت تدمج بعدًا إستراتيجيًا طويل المدى في النزاعات الدولية، فالحرب الحديثة بشكليها (الهجين، السيبراني)، يمكن أن تكون مجموعة شاملة من التكتيكات والوسائل التي يتم توظيفها حيال مجموعة من الاهداف المدنية والاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ لذا ابلجت لنا جيل جديد من الحروب ووسائل تأثير اكثر عائدية من تلك التقليدية المتعارف عليها، فالتأثير السياسي ببعده الاعلامي والدعائي لتشجيع التغيير من داخل العمق الإستراتيجي للدول، وزيادة الضغط الاقتصادي عن طريق توظيف ادوات الاكراه الاقتصادي، مثل: العقوبات والحروب التجارية، وتوسيع افاق الحرب السيبرانية بأبعادها الشاملة، فضلًا عن دمج الجهات الفاعلة غير الحكومية في النزاعات السياسية والعسكرية، كل هذه الابعاد تمثل احدى سمات الحروب الحديثة في القرن الحادي والعشرين. وأضافا ان درجة الاعتماد على المدنيين والجهات الفاعلة من غير الدول تجعل الحرب في القرن الحادي والعشرين معقدة بشكل كبير، اذ لم تعد تدور في مضامير الاشتباك التقليدية (العسكرية)، بل أصبحت الآن مجتمعية في نطاقها من حيث الأهداف المقصودة والدول التي تشارك فيها. اذ نشأت الفكرة الحديثة للحروب العصرية جزئيًا من دراسات الحرب الأميركية التي تأثرت بإدراك بلورته أحداث الحادي 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، فأصبح الصراع الدولي معقدًا بشكل متزايد فيما يتعلق بعدد ونوع المتحاربين والأدوات المتاحة لهم، فضلًا عن ذلك، فإن الحروب الحديثة لها معنى بالنسبة لتلك الدول والتحالفات المنخرطة مع الجهات الفاعلة الفرعية الأضعف والأكثر مرونة من الناحية التكتيكية التي تعتمد أساسًا على التهديد وتركز على فكرة (حرب غير المقيدة)؛ لذا اتضح لنا احد أهم الدوافع لتبني هذا النهج من الحروب هي الامكانات العالية التي تتيحها لتجنب المساءلة القانونية وتلافي الردع الإستراتيجي. ويؤكد الباحثان أن الحرب باتت تشكل احد اكثر الادوات في البيئة الإستراتيجية تطورًا وتقلبًا، اذ اخذت تتأثر بجملة من التغيرات التي طرأت في البيئة الإستراتيجية، لاسيما تلك المتعلقة في الجانب التكنولوجي والاستراتيجي المعني بالعقائد العسكرية، هذه المدخلات اثرت بشكل كبير في اسلوب التعاطي مع الحرب، كونها ظاهرة تغيرات ملامحها لاسيما تلك المتعلقة بالجانب العسكري (الصلب) واتجهت نحو الشكل الهجين الذي لا يتخذ من الملامح العسكرية الصلبة منحنى توظيفي لها. ان طبيعة التطور لظاهرة الحرب متأتية منالحتمية المترتبة؛ نتيجة موجة التطورات التي عصفت بالبيئة الإستراتيجية العالمية، اذ تطورت اجيال الحروب المتعاقبة لتلبي الاحتياجات المتزايدة لإدارة الصراعات العالمية، وبذلك انتقلت عجلة التغيير لأشكال وملامح الحروب من مرحلة إلى أخرى، حملة أفكارًا ورؤى أدت إلى تحديث كل منظومة الحرب من تدريب الأفراد إلى نوعية السلاح المستعمل إلى النظريات والخطط العسكرية المتبعة فيها. ومن هذا المنطلق صنف خبراء الفكر العسكري الحروب، تصنيفات مختلفة، اختلفت بحسب توجهات كل مفكر لكنها تدور في فلك واحد، وبدأت بنمط الجيل الاول والمتمثل بالحروب التقليدية العسكرية حتى وصل التغيير إلى الجيل الرابع والخامس والمتمثل بالحروب "الهجينة - السيبرانية". ويشيران إلى أن مفهوم الحرب الهجينة ينطلق لوصف اساليب وادوات مرنة ومعقدة يتم توظيفها في ساحات القتال غير التقليدية، اذ تتخذ من الفضاءات المدنية مضمار للاشتباك والتأثير على الخصم، عن طريق توظيف جملة من ادوات التأثير مثل:(الحرب بالإنابة، جماعات مسلحة، عمليات ارهابية.... وغيرها) مع الوسائل غير المتماثلة (الحروب السيبرانية، الاعلامية، الدعائية والنفسية.. وغيرها) في وقت واحد عبر الصراع في إسترتيجية موحدة الامر الذي يدفع بالكثير من القوى الفاعلة في التوجه نحو شن مثل هذه الحروب في صراعاتها مع القوى الاخرى، وخير مثل على ذلك الحرب الهجينة التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية على الصين في الوقت الحاضر. ومن جهة أخرى يتمحور مفهوم الحرب السيبرانية لوصف عمليات الكترونية تجري في بيئة الفضاء السيبراني عن طريق قيام دولة او منظمة او حتى فرد بشن هجمات سيبرانية على مرافق إسترتيجية حساسة؛ من اجل التسبب بضرر او سرقة معلومات او التأثير في البيئة الإدراكية لمجتمع الدولة المستهدفة، فمع تزايد الاعتماد على ربط البنية التحتية مع الفضاء السيبراني ظهر ما يعرف بـ (البنية التحتية السيبرانية)، مثل: قطاعات الطاقة، والاتصالات، والنقل، والخدمات الحكومية والمالية والتجارة الإليكترونية،.... وغيرها، الامر الذي ادخل بيئة الصراع بين القوى الفاعلة في دائرة جديدة تتخذ من المضامير المدنية اهدافًا لعملياتها كما هو الحال في الحرب السيبرانية التي تشنها روسيا الاتحادية على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ويلاحظ الباحثان ان حجم التطور الذي عصف بالبيئة الإستراتيجية العالمية، لاسيما في الشق التكنولوجي والاستراتيجي والفكري قد انعكس بشكل كبير على الاساليب التي تتعلق بطبيعة توظيف ادوات الحروب، اذ تغيرت النظرة للمستقبل مع تطور الفكر الإستراتيجي وشكل التنظير للحرب، فضلًا عن التطورات التي شهدتها الحروب والتقدم الهائل في التكنولوجيا العسكرية، والمتمثل في ظهور الأسلحة النووية، وتطوير الأسلحة التقليدية الأخرى، ناهيك عن التطـور الكبيـر الذي حدث فـي مجال الاتصالات ونقل المعلومات، مما ساعد على إحداث تغيير في أنماطها وطبيعة ادواتها، بمعنى اخر أن التطورات التي حدثت في قيمة العامل العسكري وممارسة السلوك التصارعي بين القوى قد اعطى الفرصة لقوى أخرى لممارسة هذا السلوك من دون استخدام القوة العسكرية (الصلبة) وتحديدًا عن طريق ما أصبح متعارفًا عليه في الدراسات الإستراتيجية بـ"حروب الجيل الخامس". ويثبت الباحثان الفرضية التي انطلقت منها دراستهما مؤكدين "ان بيئة الحرب في القرن الحادي والعشرين تأثرت بجملة من المتغيرات: التكنولوجية والفكرية والاقتصادية والسياسية، التي بدورها انتهت بصعود وتطور نماذج حديثة من الحروب بعيدة كل البعد عن تلك المتعارف عليها، اذ أسهمت بشكل مباشر في تغيير نسق وتراتبية علاقات القوى الفاعلة في البيئة الإستراتيجية العالمية ومن ثم بات توجه معظم القوى الفاعلة في البيئة الإستراتيجية العالمية يسير نحو توظيف (الحرب الهجينة، الحرب السيبرانية)، في اشتباكها الإستراتيجي مع القوى المتنافسة معها".
مشاركة :