تميز العرض القطري "غجر البحر" ببساطته وعمقه معا، بساطة على مستوى الإخراج الذي خلى من الانفعالية والتكلف والتصنع، وعمق على مستوى النص ورسالته التي تطرح العديد التساؤلات،وقد قام على ثنائيات ثقافية وإنسانية: العقل/الوهم، الحب/الخيانة، الخوف/الاستقرار والأمان، الثراء/الفقر، الخير/الشر، القوة/الضعف، وكلها ثنائيات لها دلالات مشتركة لا تنفي ما تحمله كل منها من دلالات خاصة. العرض الذي قدمته فرقة قطر المسرحية فكرة وإخراج وسينوغرافيا ناصر عبد الرضا وتأليف طالب الدوس، وعرض على خشبة مسرح الشارقة ضمن فعاليات مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي في دورته الرابعة، أرسلت تشكيلاته الفنية والجمالية رسالة تحذير من تغييب العقل وفتح المجال لسيطرة الوهم والتخاريف عليه، وللأسف انتهى مآل العقل إلى العجز ومن ثم الركون إلى الأرض والارتجاف خوفا وإيثار السلامة في القول، نتيجة التربص والتآمر على صوته الداعي لموجهة الوهم والخرافة والشعوذة والدجل ورفض العنف. نحن أمام زوجين من الغجر يعيشان على ما يمنحه لهما كبار الصيادين من سمك ومال مقابل رقص الزوجة "غجرية" لهم، كون الزوج "بحر" يعاني من هلوسات وهواجس وأوهام الخوف التي تطاره في صحوه ونومه، إنه يخاف البحر حتى ليصيبه ذلك بالعته والجنون، لذا فهو لا يقرب البحر بل لا يخرج من البيت، ومصدر للسخرية والاستهزاء من جميع الصيادين، تعوله "غجرية" بما تتحصل عليه من أجر من الصيادين نظير رقصها لهم. يفتح العرض بـ"بحر" كابوسا يصارع فيه أمواج البحر، بينما عدد من سادة الصيادين بينهم رئيسهم يستمتعون برقصات "غجرية" وبينما هي ترقص، يقوم "بحر" مفزوعا ليقطع على السادة متعتهم بالرقص، فيرفضون دفع المال لـ "غجرية" مستفسرين عن ما رأى "بحر" في كابوسه، "بحر" الذي يصرخ "ارحل يا بحر"، ويرحل البحر، وينقطع مده، فيتصور سادة الصيادين أن هذا بفعل السحر ويتجادلون في كون "بحر" ساحر أو صالح كرامات، وهنا تتجلى أصوات ممثلي العقل والخوف والجهل والحب، تستغل "غجرية" هذا الوهم وما يحدثه من انقسام في ظل ضعف صوت العقل في المواجهة وتمكنها من صوت الحب، لتبدأ في المساومة أن تجعل زوجها الساحر/ أو صاحب الكرامات أن يرد إليهم البحر مقابل ربع ما يتحصلون عليه من الصيد، تتصاعد إلى النصف، وتنتهي بالحصول على الكل، ليصبح هؤلاء السادة أجراء لديها، وهنا يشتد الانقسام ويأتي القرار بقتلها وزوجها للتخلص من لعنتهما، فيذهب الحبيب ليحذرها فتتهمه بالخيانة، وترتب أمرها حين يجتمعون ليقتلونها وزوجها، أولا تدفعهم لقتل الحبيب بأيديهم بتهمة الخيانة، وثانيا تشعل النار في قوابهم، وهنا يسلمون بالأمر الواقع، لك ما أردت، فتعطي إشارة إخماد النار، وتطلب أن يتم نبذ الممثل للعقل وتجريده من الاختلاط المجتمعي "لا سلام ولا كلام معه"، بل تواصل التنفذ والسيطرة عبر عملية إذلال لهؤلاء الذين كانوا سادة وأصبحوا أجراء، فتأمرهم بالقدوم بزوجاتهم للرقص لزوجها "بحر" حتى لا ينام فتتوقف كوابيس التي تطالب البحر بالرحيل. ونشير هنا إلى أن "الغجر" بشكل عام ومن بينهم "غجر البحر" عانوا من التهميش والتمييز والنبذ، وربما لذلك شكلوا العديد من رؤى العديد من الكتاب والمبدعين في مختلف مجالات الإبداع خاصة الرواية والمسرح والفن التشكيلي، وحظوا باهتمام كبير من قبل المؤرخين وعلماء الأنثوبولوجيا، وهم ـ أقصد غجر البحر ـ كان من بين المهن التي يشتغلون بها السحر والكهانة والعرافة، من هنا فإن ما عمق خوف الصيادين معرفتهم السابقة بذلك، كما أن لجوئهم للزوجة ـ غجرية ـ يرجع إلى أن المرأة لدى الغجر حكيمة ولا تتزوج إلا من قبيلتهاوتجيد الرقص والغناء وتمتهنهما أحيانا،وأيضا ذات مكانة عالية وكلمة مسموعة لدى زوجها. وهكذا فإن المؤلف ـ فيما يبدو ـ لديه معرفة جيدة بالغجر ومكونهم الإنساني والطبائعي، وهو الأمر الذي بدا واضجا في أحداث العرض. فـ "غجرية" رفضت خبانة زوجها والاستسلام لإغواء الحب الذي أظهره لها أحد الصيادين المتنفذين، بل ضحت بهذا الصياد وأوقعته مع أصدقائه واتهمته بخيانتهم فقتلوه، وهي أيضا من رأت خطر العقل والتفكير فأشارت بنبذ وإقصاء صاحبه. بساطة حضور عناصر ومفردات السينوغرافيا على خشبة المسرح، وثبات الديكور وعدم ازدحامه المتمثل في بيت الزوجين غجرية وبحر، ومكان جلوسسادة الصيادين، وبرج المراقبة الخشبي يطل على البحر، وملابس المجموعة الراقصة المتموج الألوان في كامل الجسد والذي تتدلى من أعلاه ما يشبه أذرع الأخطبوط، هذه البساطة ربما كانت مقصود تجنبا لتشتيت المتلقي عن الرسالة الرئيسية للعرض، مع ملاحظة أن مخرج العرض هو صاحب فكرة العرض وصانع سينوغرافيته، الأمر الذي يؤكد تلك القصدية. لكن مع هذه القصدية في استهدف تنوير وتبصير المتلقي بخطورة نفي العقل والاستسلام للأوهام واللجوء إلى العنف أو الاستكانة، كان العرض سينوغرافيا وديكورا وموسيقى وتصميم رقصات وأداء جسديا للمجموعة لافتا من حيث القوة التعبيرية والبصرية وأيضا تجلى ذلك في الاستعراضات التي لم يشب حركاتها الجسدية أي عشوائية بل شكلت حيوية الحركة المدروسة قوة، أما الأداء التمثيلي بكل المقاييس كان أداء رائعا من الجميع سواء فيصل رشيد ورولان حلاوي وأحمد عقلان وناصر حبيب ومحمد الملا ومنذر ثاني، الأمر الذي يؤشر إلى أنهم تكونوا تمثيليا بشكل جيد.
مشاركة :