جوليانا لوفييه تروديل تستوحي من تجربتها 'خريفا' من البساطة والعاطفة

  • 6/5/2024
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

بعيدًا عن الأجزاء الناطقة بالفرنسية في كيبيك الكندية، تستقل بطلة رواية "الخريف" للكاتبة الكندية جوليانا لوفييه تروديل عدة طائرات في طريقها إلى بلدة سالويت الصغيرة أقصى الحدود الشمالية للمقاطعة، وذلك بعد سنوات قليلة من زيارتها الأخيرة، في هذا الوقت مع تلاشي شمس الصيف وبدء نسيم الخريف اللطيف، حيث تُغطى سهول التندرا بالفواكه الحمراء الصغيرة اللامعة، وتبدو أيام الصيف لا نهاية لها، ولكن ربما ليست طويلة مثل ليالي الشتاء الباردة. المياه الشاسعة وألوان سماء الليل تجعل من المكان ذا جمال هائل، ولكن هناك أيضًا حزنا كبيرا مختبئا في هذه البلدة الصغيرة على ساحل البحر القطبي الشمالي. تحكي الرواية المستوحاة من التجربة الشخصية لـ "جوليانا" في نونافيك، قصة معلمة شابة تقيم معسكرًا كل صيف لأطفال بلدة سالويت، هذه البلدة التي يعاني سكانها "الإينويت" الأصليين أحفاد الشعوب الأولى في القطب الشمالي، من الاهمال الحكومي وانتقاص حقوقهم، لقد تركوا لأنفسهم دون راعية وتحت وظأة من موظفيها الفاسدين والعمال الصيفيين القادمين من الجنوب بحثًا عن المكاسب.. إنها ساخطة على الاهمال والفقر والعجز والظلم وضياع الحقوق، ومن ثم تبحث عن آثار للأمل والضوء في ضحكات الأطفال وحكمة الكبار. تقترح حياة جوليانا تدريجيًا: ندمها، غياب والدتها، الفجوة التي تكبر بينها وبين صديقها غابرييل، على الطرف الآخر من الهاتف.. لقد أثرت في شخصيتها كثيرًا. أعجبني هذا النوع من التكريم لأمهاتنا، وبشكل عام لأولئك الذين نحبهم والذين لم نتمكن من توديعهم. يعجبني أيضًا هذا البحث عن منزل عندما تختفي اتجاهاتنا بمرور الوقت: بالنسبة لها، جسد غابرييل منزلًا جديدًا بعد وفاة والدتها المأساوية. معلمتها الأولى "أبتلع الهواء بجرعات كبيرة، على أمل أن أذيب الكتلة المتماسكة التي استقرت للتو في جوف حلقي. لا أستطيع أن أفعل ذلك مع الوداع. كتلة التفكير على الصدر؛ الشعور بأن هناك فخًا مختبئًا في مكان ما، وربما يكون هذا وداعًا مقنعًا". تترجم جوليانا في الرواية قدسية الطبيعة واحترامها والعادات المبنية حولها. وهكذا تمكنت من الدخول في أسلوب حياة لا تعرف عنها سوى القليل: فهي تصف الشعور الذي تواجهه بقصر الأيام مع اقتراب فصل الشتاء (حيث لا يمكن للأيام أن تستمر إلا خمس ساعات في منتصف الشتاء) والجمال. من الشفق القطبي الشمالي في الليالي المتجمدة. إنها قصة مريحة، معزولة عن العالم، وتأخذك في رحلة عبر الكلمات. إن المكان غريب للغاية ولكن أهالي مجتمع الإينويت ليسوا معفيين من المشاعر والتجارب التي تؤثر عليهم. يتم هناك فك رموز الكثير من الأسماء والحياة والهويات: مثل دراسة اجتماعية، تتحدث الراوية عن أولئك الذين تقابلهم البطلة في سالويت؛ وهكذا نكتشف حياة حافلة بالأحداث تتسم بالحب أو الفرح أو الحداد أو المخاوف. تقول جوليانا عن تجربتها التي استوحت منها الرواية "عندما قمت بإدارة برنامج المخيم النهاري الخاص بي في بلدة سالويت، حاولت التجذر في قلب المجتمع، من خلال استقطاب المراهقين أبناء المنطقة، وفي وقت لاحق، عندما بدأت العمل في منظمة المثابرة المدرسية، بدأت في طرح أسئلة حول شرعية لغة الإينويت "الإنكتيتوتية" التي يستخدمها السكان الأصليون، والرغبة في تعزيز وتقوية التحدث باللغة الفرنسية. ومن خلال الورش الشعرية، أردت أن أسمح للناس بالتحدث والاستماع دون محاولة توجيه آرائهم أو نواياهم. وقد أنتجت الورش أعمالا رائعة". وتوضح "لمدة سبع سنوات، كنت أتلقى دروسا أسبوعية في معهد باريسي يقوم بتدريس لغة الإينويت للعاملين في مجال الصحة الذين يعملون في الشمال. وأعتقد أن جميع سكان كيبيك يجب أن يعرفوا أساسيات اللغة الأصلية للأراضي التي يحتلونها. وينبغي أن يكون ذلك جزءا من المنهج المدرسي. على المستوى الشخصي، سمح لي ذلك بفهم ثقافة الإينويت وطريقة رؤية شعبها للعالم وحتى طريقتهم في التحدث باللغة الفرنسية بشكل أفضل". تقوم جوليانا عبر بطلتها تلك المعلمة الشابة القادمة من مونتريال، والتي تعلمت اللغة الأصلية لمجتمع الإينويت حتى تتمكن من التواصل مع من تعرفهم هناك، باستكشاف جمال هذا المكان البعيد جدًا، جمال المناظر الطبيعية، بالإضافة إلى جمال ونقاء سكانه، صغارًا وكبارًا، وعادات لا تزال مجهولة في حياة مجتمع الإينويت. وهي الصورة التي تمكنت من تقديمها من خلال هؤلاء الأطفال الذين عرفتهم سابقا وقد أصبحوا الآن مراهقين، هؤلاء الذين تقيم لهم ورشة لكتابة الشعر، ومن ثم تطالبهم بأن يكتبوا قصائدهم الشعرية البسيطة التي تجلي نضج مشاعرهم وأحاسيسهم التي يعيشونها في مجتمع "الإينويت"، هذا المجتمع الذي لا يشبه قاموسه أي قاموس آخر، كونه ممتليئا بروح الشعر التي تنعكس على الطريقة التي يصف بها العالم. ومن هنا تقوم بترجمة القصائد نتاج الورش. تقدم جوليانا رواية عن الطبيعة واللغة والشعر وتجليات الوجود الانساني لواقع الحياة في تلك البلدة البعيدة سالويت في قلب منطقة الإينويت الثلجية، كاشفة عن نقاء شخصياتها الشابة التي تبحث عن نفسها؛ ماجي وسارة ولويزا وإليزابي وناثان وميكابيل، وتخرج معهم في نزهات صيد الأسماك أو الذهاب لصيد طائر الترجمان لعدة أيام. تصغي لأسرارهم وجروحهم التي يحكونها متجاوزين طفولتهم التي تتبخر تحت الأضواء الشمالية. إنها رواية فريدة من نوعها، قصة نادرة: البساطة والعاطفة هما شعارها، على النقيض من تعقيد قصائد الإينويت الموجودة في النص والناتجة عن الورشة الشعرية، فالمقاطع بلغة "الإنكتيتوتية" تفتتح بشكل فعال منظور نماذج جديدة، وطرق جديدة لفهم العالم وترسيخ وجود الفرد في ما هو أكثر عمقا، في ما هو أكثر شعرية: الأرض والعواطف.. مقتطف من الرواية "مجرد أن تكون في بيتك هو مصدر للسرور، فالبيت يجلب السلام. ولا شيء يضاهي أن تكون في بيت أمك؛ فالمنزل يتغير كثيرًا عندما تكون الأم غائبة عنه، فهو يبدو وكأنه قد فقد مصدر دفئه.. أشتاق إلى ذلك البيت الذي جعلني لا أحتاج إلى أحد حب الأم هو حجر الأساس للبيت". في نهاية المكالمة، بقي "جابرييل" صامتًا لفترة طويلة ثم قال: - إنها رائعة. طلب سماعها مرة أخرى، فقرأتها مرة أخرى وأضَفتُ النسخة الأصلية المكتوبة بالإنكتيتوتية: "أنيراسيماجياق أريانارتوق إيلو سايمانارتوق أنانوب أنيرانجا أسيقانجنجيتوق إيلو أسيتچيسوق نيبيتساقاتوچاراني أنانا إيلوميجونايتوارمات أناناما أنيرانجانيك بينجنجوبونجا إيلويتوسونجوجاما أنيراريسيماجاكو أنانوب نالينينجا أنيراتواق". أراد "جابرييل" معرفة من كتب هذه القصيدة.. -ـ كَتَبَتها فتاة من الصف الخامس، بكلماتها المفضلة. في البداية، اختارت "انجراق"، وهي تعني "بيتي"، كان بإمكانها أن تختار "إلو"، وهي تعني "منزل"، لكن كلمة "انجراق" مختلفة. كرر "جابرييل" الكلمة بلطف: ـ "انجراق"، إنها كلمة جميلة. وضعتُ ورقة القصيدة على الطاولة المجاورة للسرير، مستندة إلى تمثال الفيل البحري، وانزويتُ في سريري، في الغرفة الصغيرة، تضيء تماثيل الحيوانات الحجرية في الظلام الدامس. لا أعلم ما إذا كان هناك كلمة مضادة لكلمة "انجراق" تُعَبِّر عن ألا يشعر المرء بدفء السكن. ـ أتمنى أن يكون لديَّ "انجراق". سكت "جابرييل" للحظة، وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال: ـ أتفهم افتقادك لبيتك. قُمتُ لآخذ التماثيل، ووضعتها في صف على حافة الوسادة وتساءَلتُ كم من الوقت استغرق نحتها، وهل حدث من قبل أن يفقد النحات الصبر ويتمنى لو يقذف عَمَله غير المُنتَه باتجاه الحائط؟ ـ ربما نحن لم نصل بعد إلى هذه النقطة، ولكن هل تعتقد أنه سيكون لدينا بيت يجمعنا أنا وأنت يومًا ما؟ لم يجب "جابرييل" على الفور، تخيلته يبحث عن الكلمات المناسبة وينقح جملته بعناية. ـ أعلم أنني قد قلت لك هذا من قبل، لكن أحيانًا أشعر أنك ترغبين في بيت يجمعنا، فقط لاستبدال ذاك الذي فقدتِه.. نظرتُ إلى الحوائط المجردة واسترجعتُ ديكور غرفة طفولتي في ذهني، غرفتي ذات ورق الحائط المزهر والمكتب الصغير الذي شهد بداياتي في الكتابة، بالإضافة إلى رسومات الدلافين على كل أغراضي: ملابسي ومجوهراتي والتُحَف. كان "جابرييل" دومًا ملجأً للآخرين؛ إنه يعرف ماذا يعني أن تكون في حالة غرق. ـ هل تعلم أنه في اللغة الإنكتيتوتية، هناك زمن للفعل يسمى "الشك"؟ إنه جزء يُضاف إلى الفعل لتطرح سؤالًا غير مباشر، مثل القول: "لا أعرف إذا، أتساءل لو، أود أن أعرف.." هذا الزمن مفيد لو أرَدتَ طرح سؤال بطريقة غير مباشرة، إنه مثل "لا أعرف إذا.." أو "أتساءَل لو.." أو أود أن أعرف.." وهذا مفيد لنا نحن الاثنين. ضحك "جابرييل" بشدة، وضحكتُ أيضًا، فضحكاته مُعدية على الرغم من الغصة التي في حلقي. ضحكتُ معه، وأنا أشعر بالارتياح للحظة بتقاسم الملجأ نفسه. تتلاشى الضحكات تدريجيًّا ويسود الصمت مرة أخرى، وهذه المرة يسود لفترة أطول. ـ هل أنتِ بخير؟ في بعض الأحيان عندما تكونين حزينة لعدم وجود بيت لكِ، يكون هذا مرتبط بوجود شيء آخر يزعجك. أخذ قلبي يضغط على ضلوعي بشدة. شعرتُ أنه ثقيل جدًّا، وقد تضخمت حنجرتي لدرجة أنها بالكاد تسمح بمرور النفس. ـ لقد عادت "ماري"، كانت مصابة بالتهاب رئوي حاد، هي الآن أفضل حالًا، لكن.. فهم "جابرييل" جملتي التي لم أكملها وأسمعني بضع كلمات بصوته المُطَمئن، تجمعت الدموع في عينيَّ ثم أصبحت أكثر غزارة. اغرورقت عينيَّ بالدموع بشكل يثير الشفقة وسالت على وجنتيَّ كأنهار خليج "هدسون" وسط تنهيداتي المتتالية. لا أعلم متى سيتوقف كل هذا البكاء. لا أعلم إذا ما أصبحتُ كئيبة وقد فقدتُ "طبيعتي السعيدة" للأبد، هكذا كانت تصفني أمي برقة، بابتسامة في صوتها الذي بدأتُ أنساه. لم يضِف "جابرييل" أي شيء، ولكنه بقي معي على الخط، وصمته الحنون كان بمنزلة إذن لي للتحدث بلا خوف.

مشاركة :