'مقدِّمة للتَّجْربة الأدبية في الجزائر' من مخلوف عامر

  • 3/7/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يكشف المشهد الإبداعي الجزائري الراهن عن كون التجربة الأدبية خطتخطوات سريعة، حيث استطاع الكُتَّاب في ظرف قياسي أن يجرِّبوا أحدث فنيات الكتابة في الشعر وفي الكتابة السردية. فقد جرَّبوا الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر وصولاً إلى الهايكو. بالإضافة إلى الكتابة الروائية المعهودة، ظهرت محاولات في الرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي وإن بقيت إلى الآن محصورة في نماذج قليلة جداً. كما ظهرت مجموعة من الباحثين الشباب احتكُّوا بالمناهج النقدية المعاصرة. وإنه، وإن بقي كثير منهم في حدود تكرار النظريات الوافدة إلينا من الغرب. إلا أنَّ أقلية منهم مؤهَّلون- فعلاً- لاستثمار منجزات هذه المدارس وليجعلوا لها امتدادا في الممارسة النقدية ومقاربة النصوص الأدبية في ضوء هذه المستجدَات. هذا ما يؤكد عليه الناقد د.مخلوف عامر في كتابه "مقدِّمة للتَّجْربة الأدبية في الجزائر" الصادر عن دار فكرة كوم ويضيف "غير أني أجد أن أكثر كُتَّاب النص السردي من الناشئين يستسهلون شأنه ويغرُّهم التسرُّع في النشر ويحرِّكهم الطمع في الجوائز أحياناً. وهناك قدامى ظلوا يكتبون على مدى عقود ويتوهَّمون أنهم يكتبون الرواية وقد أصدروا من هذا الذي يسمونه رواية عشرات الأعمال ولم يكلِّفوا أنفسهم لحظة يتوقَّفون فيها لمراجعة وضعهم.علْما بأنهم يدَّعون اطِّلاعهم على روائع الأدب العربي والعالمي. فينبغي على هؤلاء وأولئك أن يعرفوا بأن نجاح نص ممَّا يستحق أن يُسمَّى إبداعاً، إنما يُقاس بمدى ما يكسبه من مقروئية. وإذا كان (غارسيا مركيز) يرى أنه يجب ألاَّ نقرأ إلا الكتب التي تُجْبرنا على أن نعيد قراءتها، ففي تقديري أن المشكلة ليست في إعادة القراءة، بل هي في القراءة الأولى أساساً. يناقش عامر التجربة الأدبية في الجزائر من السبعينيات إلى أيامنا، محاولا أنْ يلملم شتات الأفكار ليحصر أهمَّ المحطات التي مرت بها التجربة الأدبية الجزائرية والقضايا التي أثيرت خلال مسارها؛ من ذلك علاقة الأدب بالواقع وصلة الأديب بمقولة الالتزام وأثرها في الكتابة الأدبية، كما يتجلَّى ذلك في أدب السبعينيات. بالإضافة إلى أن اللغة كانت منذ الاستقلال تشكِّل سلاحاً في معترك السياسة والهوية، سواء بوضعها في صراع (عربية أو أمازيغية أو فرنسية) أو بإعطائها طابعاً متحزِّباً انعكس سلباً على المردودية في المنظومة التربوية، لأنَّ هذه المنظومة بدورها لم تبْقَ بمنأى عن التجاذبات السياسوية. ويرى أن الكِتاب الذي لا يشدُّ القارئ منذ الصفحات الأولى سينتهي حتْماً إلى سلَّة المهملات.لأنَّ القارئ يجد أمامه اليوم- بفعل التطور التكنولوجي المدهش وما عرفته وسائل التواصل- فُرَصاً كثيرة تُغْنيه عن الكتاب، ناهيك عن انشغالاته ومشاكله الخاصة.لذلك، فإنَّه إذا هو لم يُفضِّل الهايكو أو قصة قصيرة أو قصيرة جداً أو خاطرة، فإنه سيلهو مستلقياً على فراشه ليسمع ما شاء له أنْ يسمع من المحاضرات والندوات أو يشاهد فيلماً أو مقابلة رياضية وغيرها، ما من شأنه أنْ يزيد من التراجع في الإقبال على الكِتاب. ويؤكد عامر إن أكبر كذبة أدبية أسمعها من كاتب، أنه إذا أحسَّ بأن سلعته أصابها الكساد، يصرِّح بأنه إنما يكتب لنفسه أو لأجيال أخرى قادمة.فهو لا يريد نقداً ولا يبالي بالنقاد.لكنه في الواقع يلهث وراء اصطياد المجاملات. لذلك نجده يحيط نفسه بعصابة من المريدين المتطفِّلين يكيلون له المدح الزائف ويبادلهم المجاملات حتى لا تُصاب بضاعتُه بالبوار. ثم هناك نموذج آخر من الكُتاب، يبدو نسخة مصغَّرة من أيِّ حاكم عربي مستبِد، فإذا هو حقَّق شهرة عالية تسكنه نرجسية مُفرطة إلى حد قد يصاب فيه بجنون العظمة، فينتهي حتْماً إلى ممارسة الإقصاء ضد كل مَن يتوسَّم فيه علامات النجاح. إنها أوْجه من أمراض أصيب بها بعض الأدباء عبر التاريخ، لكن غربال الأيام لم يحتفظ بصورة جميلة للمرضى الذين اختفوا في كهوف التاريخ المظلمة، بل نقل إلينا صُوَراً إنسانية مشرقة لأولئك الفنانين الذين "كانت حياتهم خير تعليق على إبداعهم، وإبداعهم خير تبرير لحياتهم". يكشف عامر إلى أن الكتابة الأدبية بدأت مناهضة للاستعمارواختارت لذلك الأشكال المباشرة كالمقالة والخطابة والنظم والمقال القصصي والمسرح الذي اتجه نحو التاريخ تارة وتارة عالج قضايا اجتماعية ثم اتَّجه أخيرا إلى النضال الصريح ضد المستعمِر حتى عبر الأسلوب الفكاهي واعتمد لغة شعبية في الغالب؛ لأنَّ ما كانت تفرضه ظروف الحركة الوطنية لم يكن من النوع الذي يُحلِّق في عوالم التخييل أو يلهو بالغزل وما شابه. كما كان من الطبيعي أن يتبنَّى الأديب مفهوم الالتزام سواء من أجل معركة التحرير أو أملاً في بناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة، فانتقل إلى التعبير عن طموحاته من منظور اشتراكي بسبب ما وجد في هذا النهج من مبادئ لا تتعارض مع قناعاته، فضلاً عن أنَّ البلاد انحازت إلى المعسكر الاشتراكي بشكل صريح منذ الاستقلال. لكن التيار المحافظ كان هو الغالب، ولأنه جعل من التمسُّك باللغة العربية والدين الإسلامي، سلاحاً في مواجهة المستعمِر، فقد اكتفى أعضاء جمعية العلماء المسلمين وتلاميذها بإحياء القديم من الفنون الأدبية وفي مقدمتها الشعر، ما جعل الفنون النثرية ومنها القصة والرواية تتأخَّر كثيراً بالقياس إلى بلدان المشرق العربي. ويشير إلى أن فترة السبعينيات من القرن الماضي عرفت تحوُّلات كبيرة، كان من بينها الحرص على إعطاء اللغة العربية مكانتها اللائقة بوصفها لغة رسمية. فساعدت حركة التعريب واستجلاب المتعاونين العرب ودخول الكتب والمجلات العربية على ظهور مجموعة من الشباب يكتبون الشعر والقصة القصيرة ثم الرواية في فترة لاحقة، بالإضافة إلى نخبة من المثقفين الجزائريين من الذين كانوا يدرسون في بلدان عربية وساهموا بحضورهم في النشاط الثقافي والأدبي. غير أن الطريق لم يكن مُمهَّداً بالكامل أمام هذه الحركة؛ إذ اعترضتها مشاكل افتعلها الخطاب السياسي حين خلق عداوة بين أنصار العربية وأنصار الفرنسية. وأصبحت اللغة سلاحاً في معترك البحث عن هوية ضائعة ومُمزَّقة بين العربية والفرنسية والأمازيغية والإسلام. ويؤكد أنه بالرغم من أنها تجربة أدبية قصيرة، إلا أنها أنجبت جيلاً برع في كتابة القصة القصيرة والرواية والشعر، وأصبحت لديْنا نماذج من هذه الفنون تضاهي ما يُكتب في بلدان أخرى. فأمَّا الحركة النقدية - وإنْ هي بَدَت باهتة بالقياس إلى الإنتاج الأدبي ولم تواكبْه بما يكفي- إلا أنَّ فيها جهودا لا تخفى سواء في اتجاهها التقليدي أو الاتجاه الذي انتصر لتغليب المضمون في فترة معيَّنة ومحدودة أو في محاولات آخر محطَّة في النقد الأدبي وهي التي يمثِّلها باحثون من الجيل الجديد اجتهدوا من أجل استيعاب منجزات المدارس النقدية المعاصرة وعملوا على استثمارها في مقاربة النص الأدبي.

مشاركة :