بيدرو ميرال يخط لوحة فنية وأدبية في 'السنة المفقودة'

  • 1/4/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في روايته القصيرة بقدر ما هي قوية "السنة المفقودة"يستكشف الروائي والشاعرالأرجنتيني بيدرو ميرال العلاقة بين الفن والحياة من خلال حياة أبيه خوان سالفاتييرا الذي استخدم الفن كوسيلة وحيدة للتعبير عن رؤيته للعالم، ورفض عرض عمله أثناء حياته. حيث يتوقف ابناه ميغيل (الراوي) ولويس مصادفة وبعد تشييع جنازة والدتهما أمام كوخه "دخلنا سائلين الإذن من شبح سالفاتييرا، كما لو كان المكان هيكلا. كانت لفات القماش هناك، متدلية بعناية من عوارض السقف. عددناها. فكانت أكثر من ستين لفافة.. حياة رجا برمتها.. جميع أيامه ملفوفة ومخبأة هناك". الرواية التي ترجمها الشاعر أشرف القرقني وصدرت عن دار مسكيلياني للنشر مبنية على لوحة فنية وأدبية وتصويرية رائعة، للنهر أهمية كبيرة فيها، كمشهد للحركة: النهر الذي يفصل بين الأرجنتين وأوروغواي ولعبة الفن، اللوحة ـ النهر، والنهر حياة، النهر الإنساني بكل أسراره وحيوات كائناته المتناقضة، النهر الفاصل بين الأكاذيب والحقيقة، بين الذاكرة الودية والاكتشاف المؤلم للغامض والخفي، بين الماضي والمستقبل المختلف عما نتذكره وما كان متوقعا. في سن التاسعة يترك خوان سالفاتييرا وحيدا منعزلا وصامتًا بعد تعرضه لحادثة حصان أثناء نزهة مع أبناء عمومته، يخرج منها محطما فلا يجد الطبيب مدمن الكحول له مخرجا سوى أن يترك له علب ألوان مائية، وبعد أن يتعافي يفقد القدرة على الكلام، يخرس، فيبدأ الرسم بعد أن تم الاستغناءعنه في العمل العائلي، في العشرين من عمره يحرق ما رسمه في طفولته ومراهقته، وأثناء عمله بمكتب البريد يعتاد أن يذهب كل صباح إلى حيث تعمل زوجته هيلينا راميراز في مكتبة الحي ليقرأ عن حيوات الرسامين العظام ويبحث عن الكتب التي تتضمن صورا ونقوشا، ليبدأ سرًا رسم سلسلة من لفائف القماش الطويلة جدًا التي سجل عليها بدقة حياته وحياة بلدة ساحلية؛ مشاهدها اللليلية والنهارية. على نسيج عاطفي دقيق، ومن خلال مراجعة اللوحة الطويلة جدًا لأبيه يستحضر ميغيل علاقته مع والده وماضي العائلة وماضيه. وسرعان يكتشف أن عمل والده يحتوي على أكثر بكثير مما يعرفه ويتذكره. ومن ثم يبدأ تحقيقا بين جيران بارانكاليس وأقاربه وزملاء أبيه في العمل بحثا عن لفافة مفقودة مما يثير ردود فعل قاسية وعابسة وعدائية أحيانا. اللوحة التي تركها خوان سالفاتييرا في كوخكان بمثابة ورشة مهجورة على ضفاف نهر على الحدود مع أوروغواي، حيث تعيش الأسرة، عبارة عنجدارية ضخمة تشغل ما يقرب من أربعة كيلومترات من لفائف القماش رسمها سراً حتى يوم وفاته. عند اكتشاف أن جزءًا منها مفقودًا، يتعمق ميغيل في ألغاز ماضي أبيه/ الفنان في مغامرة ستقوده، من الأرجنتين إلى أوروغواي، لإعادة بناء التاريخ الحقيقي لعائلته وإعادة التفكير في حياته. ميغيل، الراوي -المطلق، وكيل عقارات ولديه ابن، هو الأكثراهتماما من شقيقه لويس بإنقاذ وضبط اللوحة الضخمة دون توقيع، والتيبغض النظر عن تفردها التشكيلي، فإنهاتمثل الدليل الحقيقي للعثور على بيانات جوهرية وغير متوقعة، مذكرات حميمة، سيرة الذاتية أو وقائع شخصية لوجود كامل لفنانولأب عزيز عاش وحيدا وغير شفاف إلى حد ما وساحقربما بسبب صمته. الرواية التي تشكل قطعة فنية تتدفق كتيار في نهر عذب بصورها الشاعرية المشحونة بالحيوات الإنسانية لفنانها خوان سالفاتييرا، والبالغ عدد صفحاتها 126، وحظيت بالعديد من القراءات، قدم لها الكاتب والشاعر زياد عبد القادر، الذي قال "تكون في راحة من عقلك وبمجرد أن تتصفح الكتاب يختل توازنك، وتمضي في نهر الحكاية مسحوبا باندفاع التيار، بعيدا عن غرفتك، عن طاولتك وكرسيك ومصباح مكتبك، وأنت تجدّف خلف الراوي(الابن ميغيل)، باحثا عن لفافة الرسم الضائعة. تجتاز قرى أرجنتينية، تقابل صيادين ومهربين، تمشي على طول أنهار موحلة وتركب عبّارة صدئة في جنح الظلام قبل أن تهتدي إلى أنك كنت بصدد البحث عن قصيدة رسمها بيدرو ميرال وكتبتها عيناك على الطريق وأنت تقرأ". وأضاف "رسام أبكم، لا يظهر في رسوماته الخاصة ولا وجود لأي بورتريه له في أثره بأكمله، لا يتواصل مع جمهور ولا يتحدث إلى نقاد. لقد رفض حتى أن يوقع على إلغاء فاعلية التسمية إزاءه، الغياب الذي يبطل النطق حين يعدم المنطوق ذاته". "وها هو خوان سالفاتييرا يسقط عن ظهر الحصان ليفقد القدرة على النطق وينتهي به الأمر إلى الصمت المطبق مثل كبار المتصوفة. يظل خوان مجرد قوس فارغ، فلفافة سنة 1961 التي تشكل حلقة ضرورية لاكتمال شريط رسوماته لم تكن حيث يفترض لها أن تكون. الرسام خارج الزمن ولفافته خارج المكان. لحظتان مطلوبتان لاكتمال تشكل نظام أنظمة النسيان. لعل ذلك ما يفسر عدم اهتمام خوان بتوقيع أعماله. ولما كان التوقيع هو الختم الذي يثبت أصلية الاسم فإن من شأن غيابه أن يحدث "اضطرابا سلاليا لا يولد اليتم وإنما إشكالات أخرى كاللقاطة. هذا الاضطراب السلالي الذي انكشف كأوضح ما يكون إثر المحادثة النهرية بين تشي وليبانيز، أظهر أن الختم كما الاسم ليس وسما فحسب بل علاقة جنيالوجية، افتقار متى سعينا إلى فك أسراره فإنه لن يعدم الذرائع التي تدمره ليستمر في الاحتماء بألغازه: "من نفسه ينتقم الغائب عندما ندفعه عنوة إلى الظهور". لعل هذا ما يفسر المصير المأساوي الذي لقيته اللقائف في ختام الراوية. كان الكوخ يحترق ومعه كيلومترات من الأقمشة، ومن بين ألسنة النيران كانت جملة فريدريك نيتشه تتراقص في اللهب "إن أقصى ما يبلغه أكبر المتنورين لم يتجاوز كونهم تحرروا من الميتافيزيقا وأصبحوا ينظرون إليها بعين المتفوق نظرتهم إلى شيء خلفهم، بينما ينبغي، هنا أيضا كما في ميدان سباق الخيل، أن تتم الدورة حتى العودة إلى نقطة الانطلاق كي تبلغ نهاية السباق". وأوضح عبد القادر أنه على ضوء هذا القول هل كان من باب الصدفة أن يفقد خوان سالفاتييرا نطقه إثر سقوطه من فوق ظهر الحصان؟ وتزامن إنقاذ لفافة سنة 1961 مع احتراق كوخ بارانكاليس، هل كان مصادفة؟ ألا يعيدنا ذلك إلى نقطة الصفر؟.. لقد تمت تسوية الأمر بالنار في مبادلة عجيبة مع القدر أشبه بنسخ الآيات المقدسة. هلاك أطنان من الأقمشة مقابل نجاة لفافة واحدة. دينيا جرى الأمر وفق آلية الناسخ والمنسوخ. فلسفيا وفق ما يسميه جورج باطاي بـ "مبدأ التلف" إذ ليس في قدرة الجزء اللعين تعطيل قوى الإخفاء والحظر إلا بمثل هذا الانفاق الرمزي القريب من طقس الأضحية. لهذا كان لابد من دفع ثمن باهظ لرفع الحظر عن سر سنة 1961، ليس أقل من ضياع جهد 60 سنة من الرسم. غير أن الطريف في الأمر هو ضياع ذلك الجهد سيغدو الأفق الذي لا يني يذكر بلا تناهي الأثر أفضل من أي أثر آخر.  والأطرف من كل هذا أن حريق برانكاليس لم يأت على مجرد لفائف الرسم، إنما على الأصل الذي يستحيل من دونه تصديق حقيقة لفافة سنة 1961". مقتطف من الرواية رأينا جزءا من القماش يصور خيول السباق، وهي متوترة قبل الانطلاق، كابحة جماحها ومنتصبة لكن مظهرها بدا مرهفا مثل وحوش غاضبة بكياسة على أطراف حوافرها. ثم بدت لحظة الانطلاق نفسها حين بدت قراؤها على وشك أن تقفز من الرسم.. جواد كستنائي، فرس ذهبية اللون، جواد آخر أسمر ناري ورمادي مرقط يلمعون بنور أبيض تحت الشمس. إنهم ينفجرون جميعا من البوابة كالينابيع بأجسادهم الضخمة والمهددة مثل الثيران في رسوم الكهوف الأولى. يتشبث ركابهم الصغار بظهورهم غير قادرين تماما على التحكم بقوتهم المنفلتة. كلما توصلنا إلى اقتلاع خمسة أمتار تقريبا، كان علينا أن ننقل السقالة المرتجلة. وكان الأمر متعبا جدا. ورغم أننا كنا حريصين على التكتم، فقد بدا أن الجلبة التي يحدثها تحريك الأثاث يمكن أن تسمع على بعد كيلومترات. قضينا المساء برمته على هذا النحو. بدأت البثور تنتشر في يدي. وصارت أكتافنا ورقابنا أكثر ثقلا بسبب المحافظة على سواعدنا فوق رأسينا طيلة الوقت. شعرت بالعطش، وخرجت أبحث عن الماء. ذهبت إلى المطبخ لكنني لم أجد شيئا. لقد انقطع أي تزويد عن البيت. حاولنا اقتلاع المسامير من خلال سحب القماش معا. لكن ذلك لم ينفع. بل ساهم في تمزيق القماش. ولذلك اضطررنا إلى اقتلاعها واحدا تلو الآخر. ندفع الشمعدان كي ينزلق بين المسمار والحائط. ثم نضغط بقوة حتى يندفع المسمار محدثا جلبة خفيفة قبل أن يستقر على بلاط الأرضية. وصلنا إلى قسم من الرسم يعرض امرأة ذات عينين مضيئتين بدت مألوفة بالنسبة إليّ. طلبت من لويس أن يقدم لي ولاعته. قربت الشعلة من القماش. ثم تحققت من الأمر. "هذه المرأة كانت زميلة أبي في مكتب البريد" "هل أنت متأكد؟" "نعم" قلت. "أنا متيقن من هذا" لقد كانت يوجينيا راكامورا مرسومة بواسطة التذكر عارية في سرير من أسرة غرفة النوم السرية في بارانكاليس. انكسرت أشعة شمس الظهيرة على مصراع النافذة ثم سقطت على وركها الفتي. "لقد التقيت بها في ذلك اليوم. إنها المرأة التي حدثتك عنها. وهي من أخذتني في جولة داخل مكتب البريد". كان هناك المزيد من صور يوجينيا راكامورا. ورغم أن وجهها لم يكن واضحا دائما. فقد كان من اليسير التعرف عليها. كانت نائمة أحيانا وشعرها الكستنائي ينسكب على الأوراق. وفي مواضع أخرى، كانت تقرأ كتابا وهي تتمدد عارية في ضوء أبيض يتدفق إلى غرف يفضي بعضها إلى بعض. رغم أنها كانت مناسة واحدة مكررة من زوايا مختلفة، فقد رسمها سالفاتييرا كما لو كانت بيتا ذا غرف عديدة داخله.. بيت القيلولة التي قضاها مع تلك المرأة. أعتقد أننا ذهلنا معا لأنه ما من أحد فينا قد كان يملك أدنى شك في وجود هذه الرومانسية. وأظن أن أمي كذلك قد اكتشفته لكنها حرصت على وضع حد له. لم يكن هناك شك أن سالفاتييرا قد أقام علاقة مع يوجينيا راكامورا على الأرجح سنة 1961، السنة نفسها التي رسمت فيها هذه القطعة. فقد بدا واضحا أنه أمر ليس متخيلا وإنما مشاهد رسمت بعيد وقوعها، يوما بعد يوم كأنها يوميات مخصصة لفترة القيلولة.

مشاركة :