مقالة اليوم تحاول أن تستخلص عدداً من الدروس القيادية من قصة هاجر عليها السلام مع زوجها نبي الله إبراهيم وابنها نبي الله إسماعيل عليهما السلام، كما يلي: تجنب الجدال العقيم: جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام وهي ترضعه، وتركهما في موضع الحرم المكي الشريف، وليس في مكة وقتها ماء ولا طعام ولا بشر. وذهب يمضي تاركاً معهما جراباً فيه تمر وماء، فتبعته هاجر وهي تقول: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، وكررت ذلك السؤال عدة مرات دونما جواب، وقتها سألته: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجابها إبراهيم عليه السلام: "نعم"، فقالت: "إذن لا يضيعنا"، كان بإمكان هاجر عليها السلام أن تواصل السؤال وتلح في النقاش وتستعطف إبراهيم عليه السلام، ولكنها حزمت أمرها بعدما عرفت أنه أمر إلهي من الله عزوجل. في الواقع، في عالم الإدارة والقيادة اليوم تضيع الكثير من الجهود والأوقات في نقاشات عقيمة دون فائدة أو جدوى، ومع التسليم بأهمية الاستماع للآراء المختلفة وطرح وجهات النظر بأدب وشجاعة، ففي بعض المواقف يكون من الحكمة تجنب الدخول في جدالات عقيمة إذا كانت الأمور محسومة، قد تكتفي بإبداء رأيك مرة أو مرتين ولكن لا داعي لتضييع جهدك في نقاش لن يؤدي إلى نتيجة خاصة إذا كان الطرف أو الأطراف الأخرى ليس لديها أي استعداد للاستماع. حسن الظن بالله: كلمات هاجر عليها السلام في قولها "إذن لا يضيعنا" درس عظيم في حسن الظن بالله والتوكل عليه. الكثير من الناس ينهزم أمام التفكير المبالغ فيه والطاقة السلبية والصورة السوداوية عند مواجهة أي مشكلة أو معضلة، وخاصة في هذا الزمن الذي تكثر فيه الأمراض الحسية والأزمات الصحية بسبب القلق والضغوط النفسية المختلفة. المبادرة واستخدم الأدوات المتاحة: حسن الظن بالله لا يعني أبداً التراخي والاكتفاء بردات الفعل، بل يستوجب المبادرة والإيجابية وبذل كل ما يمكن من الأسباب والوسائل ضمن ما هو متاح. وفي حالة هاجر عليها السلام راحت تسعى بين الصفا والمروة وتصعد الجبلين بحثاً عن الماء والزاد أو إنسان يمكن أن يغيثهما في ذلك الموقف الصعب. الإصرار وعدم اليأس: لم تكتفِ هاجر عليها السلام بصعود جبل الصفا فقط، بل صعدت جبل المروة أيضاً، ورغم أنها لم تصل لنتيجة لم تتوقف وواصلت وراحت تتردد بين الجبلين سبع مرات دون يأس أو ملل. وفي عالم القيادة اليوم، يفقد الكثير من الطموحين الأمل ويستسلمون للياس مع أول تجربة فاشلة أو تحدٍ كبير. ولكن للنجاح مهراً غالياً يتطلب الصبر والمصابرة على تحقيق الهدف مهما كانت الصعوبات، وكان الفرج من الله عزوجل بعدها حينما فجر الملَك الكريم بجناحه زمزم من تحت أقدام إسماعيل عليه السلام. فن التفاوض الناجح: عاشت هاجر عليها السلام أياماً مع ابنها على ماء زمزم، حتى جاء نفر من قبيلة جرهم ليستأذنوها أن ينزلوا عندها مع أهلهم، فأجابتهم قائلة: "نعم! ولكن لا حق لكم في الماء"، فحفظت حق تملك الماء لها ولابنها ولكن سمحت لهم بحق الانتفاع من ماء زمزم من شراب وسقاية. ومن المهم للقائد أن يتعلم فن التفاوض الناجح فلا يكون متصلب الفكر ويقدم ما يحتاجه الطرف الآخر وفي الوقت نفسه يحتفظ بأهم مكتسباته ويأخذ ما يحتاجه من الطرف أو الأطراف الأخرى. ففي حالة هاجر عليها السلام كان مقدم قبيلة جرهم مهماً لها لضمان الاستدامة والعيش والأنس مع أشخاص آخرين في تلك البقعة النائية، من ناحية أخرى، فالتفاوض مع جرهم الذين كانوا يحترمون العهد والميثاق ولم يستضعفوا المرأة وابنها الرضيع ينبيك عن طيب معدن وشهامة تستطيع معها أن تكون رصيداً من الثقة في التعامل. إعداد قادة المستقبل: قد يقول البعض أن دور الأم بديهي في رعاية أبنائها وتربيتهم، ولكن يمكن أن ينظر إليه من منظور قيادية في صناعة القادة وإعدادهم للمستقبل. وهذا ما حصل لهاجر عليها السلام في تربية ابنها إسماعيل عليه السلام وتنشئته ليكون نبياً لله عزوجل ويرفع قواعد البيت العتيق مع والده إبراهيم عليه السلام. وفي زمننا هذا فمن الضروري أن نتذكر أن الانشغالات والمهام لا يجب أن تلهي أي أب أو أم أوكل فرداً في العائلة أن يعتني بتربية أبنائهم وأبناء الأسرة أفضل تربية ولا يتركهم بلا رقيب ولا متابعة للأجهزة والمنصات والخادمات أو المربيات. ويبقى الدرس الأخير هو صناعة الأثر وقصة هاجر عليها السلام التي خلدها الله في القرآن الكريم وصرنا في زمننا هذا يقتدي بها الملايين في السعي بين الصفا والمروة بعد آلاف السنوات، لنتذكر دائماً أنه مهما قست الأيام وأغلقت الأبواب وتعقدت الأزمات أن الفرج بيد الله، وأنه من المهم أن يمتلك الإنسان هذا الأمل الكبير بالله، والإيمان بأنه عزوجل إذا أراد شيئاً فإنما أمره أن يقول له كن فيكون...
مشاركة :