ماجد كيالي يكتب: عشية الانتخابات وعن التحولات الدراماتيكية في السياسة التركية

  • 5/12/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

من الصعب معرفة خيارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو التكهن بها، سيما ما يتعلق بسياساته الخارجية المختلفة، والمتغيرة، كما من الصعب معرفة رؤيته في شأن تحقيقها، في المدى المنظور، أو الاستراتيجي، إذ بيّنت التجربة تغيّر تلك الخيارات، بين مرحلة وأخرى، إزاء القضية ذاتها، بحيث شكل ذلك مفاجأة للقريبين، كما للبعيدين، إقليميا ودوليا. مثلا، فقد اختلف الرجل في خياراته وسياساته قبل “الربيع العربي” عما بعده، سيما في مساندته سعي السوريين للتغيير، ثم تغير ثانية إثر المصالحة مع روسيا (صيف 2016)، وكانت المفاجأة التالية تمثلت بانخراطه في تحالف أستانا، مع شريكي نظام الأسد (إيران وروسيا)، مع أجندات مختلفة، لم تكن لصالح المعارضة السورية. وهو اليوم يذهب نحو التطبيع، أو المصالحة، مع نظام الأسد، في تعارض مع فكرته عن إسقاط ذلك النظام، أو مقاطعته، بسبب قتله وتشريده السوريين، بدعوى العدو المشترك (المتمثل في “قسد” أو حزب العمال الكردستاني)، والدفاع عن الأمن القومي التركي، في حين أن أي من هاتين المسألتين لم تكن مطروحة قبل عشرة أعوام. على الصعيد الدولي، أيضا بدت تركيا في عهد أردوغان محيرة، فهي عضو في حلف “ناتو”، لكن لها سياساتها الخاصة، دوليا وإقليميا، سيما في شأن العلاقة مع روسيا، التي باتت بمثابة رئة تتنفس منها إزاء العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ غزوها أوكرانيا (فبراير 2022)، وهي ذات السياسة التي اتبعتها تركيا للتخفيف من طائلة العقوبات الدولية على إيران. أيضا، لدى تركيا سياساتها الخاصة والمتوترة إزاء الدول الأوروبية، ولا سيما اليونان، في حين تقدم نفسها كطرف محايد، أو كوسيط، للتهدئة بين روسيا وأوكرانيا، هي ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها تعارض انضمام السويد وفنلندا لحلف ناتو. في المحصلة لم تؤد تلك السياسات إلى تعزيز مكانة تركيا، بقدر ما أدت إلى خلق توترات وخصومات بينها وبين أطراف عديدة، دوليا وإقليميا، وفي ذلك فإن تركيا خسرت من مكانتها التي كانت قبل “الربيع العربي”، ومن استثمارها السياسي، في قوتها الناعمة (تطورها السياسي والاقتصادي)، ما أثر سلباً على وضعها الداخلي، من كل النواحي. وكانت تركيا، طوال عقد من مطلع القرن الحالي، أي مع صعود حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم (2002)، حققت نجاحات كبيرة، بحيث باتت بمثابة نموذج ملهم لعديد من الدول، بصعودها السياسي والاقتصادي وبقوّتها الناعمة، فهي دولة ديموقراطية، وتتمتع باقتصاد صاعد وقوي، وهذه الدولة، يقودها حزب إسلامي في نظام حكم علماني، وديمقراطي، انتهجت سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها. ولعل تلك المكانة التي حازت عليها تركيا في ذلك الحين، بواسطة نموذجها، وتطورها، عززت من ميزتها بالقياس للجارة الإقليمية الأخرى (إيران)، التي انتهجت سياسة “تصدير الثورة”، وتحريض المجتمعات العربية على أنظمتها، والتي عملت على خلق مناطق نفوذ لها في بعض البلدان العربية، وضمن ذلك إقامة جماعات مسلحة موالية لها، بالاستناد إلى عصبيات طائفية، ما نجم عنه تصديع بني الدولة والمجتمع في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وللتذكير فإن سياسة تركيا إزاء القضية الفلسطينية، كانت أكثر قبولا وترحيبا في المجال العربي، منه بالقياس لإيران، التي بدت أكثر ضجيجا ومزايدة، وتدخلا بأحوال الفلسطينيين، والعالم العربي، مستغلة تلك القضية، سيما مع انكشاف دور إيران في دعم الغزو الأمريكي للعراق (2003)، وهيمنتها عليه بواسطة أذرعها الطائفية الميلشياوية المسلحة، إلى جانب تزايد نفوذها في سوريا عبر ميلشياتها (حزب الله وفاطميون وزينبيون وعصائب الحق الخ). هكذا فإن مشكلة تركيا تكمن في أنها لم تحافظ على السياسات التي انتهجتها في العقد الأول من هذا القرن، فهي مع ثورات “الربيع العربي” تصرّفت كدولة ذات أجندة حزبية، مثلها مثل إيران، ثم بانخراطها مع شريكي النظام في هندسة الوضع السوري، ما نجم عنه السيطرة على المعارضة السورية، وتقوية مواقع النظام، كما بسعيها توظيف نفوذها بما يخدم أجندتها الخاصة، الأمر الذي أدى إلى تصدع صورتها وصدقيتها. على الصعيد الاقتصادي (وفقا لتقارير البنك الدولي) فقد بلغ الناتج الإجمالي المحلي لتركيا عتبة الترليون دولار تقريبا عام 2013، مع متوسط دخل للفرد قدره 12.500 دولار، لكنه تراجع إلى 720 مليار دولار عام 2021، مع تراجع في مستوى الدخل للفرد إلى 8561 دولارا، أي في خسارة الثلث. وقد يجدر بنا هنا إجراء مقارنة مع الطرفين الإقليميين الأخرين. ففي ذلك العام (2020) بلغ الناتج المحلي لإسرائيل 413 مليار دولار، لكن حصة الفرد فيها بلغت حوالي 45 ألف دولار تقريبا، أي أكثر بثلاثة أضعاف من حصة الفرد في تركيا، أما إيران فقد بلغ ناتجها المحلي 240 مليار دولار، مع حصة للفرد قدرها 2.8 ألف دولار، أي أن دخل الفرد فيها أقل منه في تركيا بكثير بمقدار الخمس، في حين أنه أقل منه في إسرائيل بمقدار 1/16، مع ملاحظة أن مساحة البلد، وعدد السكان، بالنسبة لتركيا وإيران ليست لصالح إسرائيل (طبعا ثمة سبب لزيادة تردي وضع إيران ناجم من العقوبات الدولية عليها). يرى البعض بأن الظروف تغيرت، لكن تلك الظروف لم تتغير بقدر ما تغيرت به دفة السياسة التركية، كما يرى البعض أن تركيا تتصرف كدولة، يهمها أمنها القومي أولا، وسلامة عيش مواطنيها، فالدول ليست جمعيات خيرية، وهذا صحيح، لكنه ينطبق على كل الفترات، فهل كانت تلك السياسات خاطئة قبل الربيع العربي؟ أم هي خاطئة بعده؟ هل هي على صواب مع تحالف ثلاثي استانا (مع إيران وروسيا)؟ هل هي على صواب في التطبيع مع الأسد” ومقابل ماذا؟ ثم هل الصواب في معارضة، أو قبول، انضمام السويد وفنلندا إلى حلف ناتو؟ أين الصح وأين الصواب؟ في هذه الدوامة من المتغيرات والتحولات؟ هذه أسئلة تتضمن ملامح الحقبة السياسية لأردوغان، كما بدت في تحولاتها، وعموما فإن الانتخابات التركية في الأيام القادمة ربما ستكون بمثابة استفتاء على تلك السياسات.

مشاركة :