الكتابة مشقّة جميلة (1) | واسيني الأعرج

  • 2/18/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

انتشرت في السنوات القليلة الأخيرة الكثير من ورشات الإبداع الفني والكتابي، وأصبح الاقتناع بها مسألة مهمّة، بعدما ظلّ الكثير من المثقفين يعتبرونها مضيعة للوقت، فالورشة لا تصنع الموهبة، لكنّها هبة إلهية وطبيعية. لكن كم من المواهب ماتت وانطفأت لأنّها لم تجد مَن يأخذ بيدها؟ كم من موهبة احترقت بعد أن ظنّت نفسها أنّها وصلت، وليست في حاجة لمن يُنبّهها في أخطائها التي يمكن تداركها بسهولة؟ طبعًا، الورشة لا تخلق الموهبة، لكنّها تُوجّهها عندما تتوفر. تجعل الكتابة فعلاً واعيًا بتقنيات دقيقة، لا مكان للصدفة فيها. من خلال التجربة التي خضتها في فرنسا منذ 1995، وأخوضها اليوم عبر العالم العربي أيضًا، وكانت آخرها، ثلاث ورشات متعاقبة، في الكويت، مع تكوين التي ترأستها الروائية بثينة العيسى، وهي ورشة حيّة تراهن على الاحترافية مع شباب مقبلين على خوض التجربة الكتابية الأولى. أطرت أيضًا ورشة البوكر، أو الووركشوب الذي اختير له كتاب شباب من العالم العربي، يتأهَّبون لإنجاز روايات جديدة. وكان اللقاء مثمرًا، الهدف من ورائه، احترام الخيارات، والعمل على النص من منطلق الخيارات التي افترضها الكاتب وسار عليها. تصحيح النص قدر المستطاع، وتحضيره ليكون سليمًا من الناحية التقنية، ويستجيب للأنواع المقترحة: الرواية التاريخية والاجتماعية والنفسية، وحتى البوليسية. وأخيرًا ورشة مسقط التي تشرف عليها الروائية والقاصة العمانية بشرى. كانت تنويعًا آخر، وتمّت برفقة كُتَّاب أغلبهم محترفون ومعروفون. كان اللقاء حول الرواية التاريخية؛ لأن الحاجة إلى ذلك بدت ماسّة جِدًّا، وكان يجب التنبُّه لمخاطر النوع، أقربها إعادة إنتاج المادة التاريخية. هذه الورشات لا تحل معضلات الكتابة، لكنها تجعل مسؤولية الكاتب كبيرة، وأُفق الانتظار أوسع. في كل الأحوال، فالورشات لا تخلق كُتَّابًا، لكنها تساعد الذين يرغبون من الموهوبين، أن يتعرَّفوا على تقنيات الكتابة، واختبارها عن قرب. للكتابة -كما لكل العلوم- قوانين حيّة تتطلّب منّا معرفتها. الشخصيات مثلاً ليست انعكاسات لأحلامنا وأشجاننا، ولكنّها بُنى تحتاج إلى تشييدها بانفصال شبه كلي عن الحياة الخاصة للكاتب، وإن ظلّت على تماسٍ معها. يحتاج الأمر إلى تأسيس حقيقي لا تكفي فيه الموهبة. بقدر ما يكون المعيش غنيًّا، وزاوية النظر واعية، يستطيع الكاتب أن ينفصل عن الذات بمعناها الضيّق. هذا كله يخضع لآليات مُعقَّدة، يحتاج الكاتب الذي يتهيّأ للكتابة أن يعرفها ويُجربها. حتى الخيارات الموضوعاتية تخضع لنفس الضوابط. أن تكون الموضوعة المختارة مدروسة بشكل جيد، إذ عليها تنبني الجزئية الأهم من الكتابة ومؤدّياتها. تقنية التوصيل ليست أقل قيمة من الموضوعة. دورها مهم جدًّا، لأنها الجسر الذي يربط الكتابة بالقارئ، ويشدّه إلى النص. المشكلة ليست في الخيارات المدرسية، فكلها صالحة، يجب فقط إدراك خصوصية كل واحدة ومتطلباتها الجمالية. يُمكنني أن اختار الوسيط الكلاسيكي الخطي الذي يفرض عليّ نظام الانفتاح والنشاط السردي قبل فكّ العقدة، وإيصال النصّ إلى النهاية. وقد يختار الكاتب وسيطًا جماليًّا حداثيًّا يمنح النصّ حرية كبيرة، لكنّه يفرض عليه بالضرورة قدرة على الإقناع، فالقارئ جزء من فاعلية الكتابة. اللغة الروائية ليست موضوعًا هيِّنًا. فهي خاضعة أيضًا لطبيعة النصّ الذي نكتبه. من اللغة الوظيفية المباشرة والمجرّدة من كل الزوائد، إلى اللغة الشعرية الفضفاضة التي تعوّض فيها خطابات الكاتب أفعال الشخصيات. فتختفي دقة الموضوعة، وينفلت المعنى نهائيًّا. هذه الظاهرة طغت في السنوات الأخيرة. إلى اللغة التي يتم قياسها في العمل المخبري اللغوي، حيث نُدرك بالضبط متى تضفي اللغة الجافة وضوحًا على النصّ، ومتى تصبح عائقًا وعاجزة عن أداء وظيفتها؟ وكيف يمكن الاستنجاد بلغة الداخل، والشعر التي يمكنها أن تصعد من الحالة الدرامية للكتابة. يظل التخييل ركنًا كتابيًّا أساسيًّا. تُنجزُ الروايات لغواية قارئ محتمل من خلال تخييل يشدّه. لا يُمكن أن تلغي أية رواية فعل التخييل، إذ هو الوسيلة الحيّة التي تُخرج النص من دائرة الارتداد الاجتماعي المباشر، وتمنح النص قابليته الأدبية والجمالية. هناك نقاط أخرى أؤجلها إلى المرات المقبلة، ومنها الإديتينغ، الذي يعني متابعة النص قبل صدوره، تنقيحًا ونقدًا، وحذفًا أحيانًا، للتخفيف من زوائده، وجعله أكثر قابلية للقراءة.

مشاركة :