هل الكتابة عن اللحظة أمرٌ ممكن؟! | واسيني الأعرج

  • 11/17/2016
  • 00:00
  • 35
  • 0
  • 0
news-picture

لا شيء يمنع الكاتب من أن يجعل من تخيّله مادته الحية، ومن زمنه موضوعاته الإبداعية. طبعا، الكتابة عن اللحظة لها شروط قاسية، والكتابة عن اللحظة المكتملة لها شروطها أيضا، وليست مجرد تحصيل حاصل. في الأولى هناك محاذير كثيرة، أن يسقط الكاتب مثلا في الآني المتحوِّل لأنه لو سقط فيه ستصبح كتابته زمنية تنتهي مع الزمن الذي وُلدت فيه وتفقد صبغتها التاريخية. كيف نُلقي القبض على اللحظة الأكثر نبضا؟ هذا هو السؤال، وهذا ليس معطى لجميع المبدعين. بالمقابل، الكتابة عن اللحظة، فيها نبضٌ حي واستثنائي. مهم جدا يكتب الروائي عن العصر الذي يعيش تفاصيله الحية والمتحركة باستمرار، وليأتِ آخرون بعده ويكتبوا عن عصره أو عصرهم، إذا شاؤوا، فالتاريخ مادة مشاعة ممنوحة للجميع، والواقع الموضوعي مساحة بلا حدود. لا مشكلة. صحيح أن الكتابة عن اللحظة في زمن تكوُّنها، مورِّطة، لكن قدر الكتابة هو هذا أيضا. إذا ما معنى أن يكتب كاتب خارج مغامرة الحكي؟ أتذكَّر الشاعر الفرنسي الكبير برازياك الذي كان يرى النازية التي أعطت لنفسها حق إعادة تصنيف البشرية، باسم القومية الأوروبية الناشئة، منقذا حقيقيا لأوروبا المتقاتلة، بتوحيدها بالحديد والنار كما فعل بسمارك في ألمانيا، وغاريبالدي في إيطاليا. لم ير برازياك الجانب الإجرامي للنازية، وعدوانيتها ضد إنسانية الإنسان، وتدمير الميراث الإنساني الذي جعل من البشر يتساوون في المنجز. أخطأ برازياك، لكنه كتب ما تُصوّره حقيقة ولم يصمت، فدفع الثمن غاليا باصطفافه مع القومية الإجرامية، حيث أعدم، على الرغم من حملة التعاطف التي أبداها الكثير من الكتاب الفرنسيين معه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الجنرال ديغول لم يستعمل حقه في الصفح عنه، وقال لمن ترجّوه باستعمال العفو الرئاسي: يجب أن يدفع ثمن خياراته، فهو ليس عاديا، فقد جر وراء فكرته الآلاف الذي ماتوا وقتلوا غيرهم أيضا باسم فكرة إجرامية. يمكننا بخياراتنا وتحولنا إلى فاعلين في الأحداث، أن ننزلق ونأخذ صفا معينا لا إنسانيا لأسباب قومية أو أيديولوجية أو غيرهما. لهذا، في النهاية، لا مشكلة بالنسبة للذي يكتب عن اللحظة في اكتمالها لأنه لا يكتب وهو على الجمر، لأن الحقائق استقرت وانتهت. إمكانية الخطأ غير واردة. يكتب وهو نائم على فراش وثير، ليس معنيا بالتحليل والدخول في دهاليز لم يختبرها المؤرخون أو النفسانيون، تماما مثل الذين يكتبون اليوم عن الحرب الأهلية في إسبانية في 36، أو عن الحرب الأهلية اللبنانية في عمومها، أو عن العشرية السوداء في الجزائر، ويكررون كليشيهات حقائق أصبحت عادية. ربما كان من الأفضل لو سمع القارئ أصواتهم عندما كان يُذبح الناس في الشوارع، في لحظة اشتعال النار، ليقولوا لقرائهم الحقيقة التي افترضوها، لكنهم وقتها، وباسم أدبية النص، فضَّلوا الصمت. وهو حق مشروع، لكن ماذا عن صمتهم كمواطنين؟ كيف تصمت وشعبك يُذبح أمام عينيك، من طرف قتلة لا رحمة في قلوبهم. المسألة ليست أيديولوجية، لكنها مرتبطة بالوجدان الإنساني. إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يكون إنسانا في عز التقتيل والجريمة؟ لهذا نقول: إن الروايات التي جاءت لاحقة، أي بعد انتهاء العشرية السوداء، في الأغلب الأعم، كانت ضعيفة، ولم تستطع أن تلمس الخط التراجيدي بالمعنى الإغريقي، لهذه الحرب الضروس بين الإخوة. بالمقابل، هناك روايات توغَّلت في المادة التاريخية بعمقٍ وكشفت عن تاريخ ظل خفيا بدون مسبقات أيديولوجية، فتعاملت مع الإنسان في شرطية حرب تحريرية قاسية، واقع بين نارين، نار العدو الواضحة، ونار الأخ في الكتيبة أو الفيلق، والصديق الذي يمكن أن يمارس ضد أخيه، كل أنواع التعذيب القاسية مثلما كان ذلك مع الطاهر وطار في روايته اللاز، والحبيب السايح في رواية كولونيل الزبربر. حيث قالا تاريخا ظل مخفيا لأسباب سياسية، فكشفا مساحة جديدة للكتابة. مهم جدا أن يخرج هذا التاريخ إلى النور، كما عند بعض الروائيين الفرنسيين الذين خرجوا عن التاريخ الرسمي الذي ظل يعتبر الحرب الجزائرية الفرنسية، مجرد أحداث قبل أن يعترف بها كحرب، مثلا رواية أين تركت ضميري ليجروم فراري، ورواية فن الحرب على الطريقة الفرنسية لأليكسيس جيني. إذن المسألة لا تتعلق بزمن الكتابة عن تاريخ في طور التكوين، أو تاريخ مستقر، بقدر ما تتعلق بالقدرة على استيعاب جوهر الأشياء هنا أو هناك.

مشاركة :