أصبحت عبارة "شد الحزام" شائعة لدى كثير من الأسر، في الوقت الذي يتنظر فيه ان تنعكس هذه السياسة الترشيدية على كثير من سلوكيات البذخ والكماليات الزائدة في المناسبات الاجتماعية، لذا فإنه من المناسب هنا أن نعي جيداً أهمية التعريف بهذه الثقافة السلوكية، وكيف يمكن تطبيقها، حيث لابد لها من مقدمات وتوعية وتنسيق من خلال وسائل الإعلام، إلى جانب دور البيت والمدرسة، وكذلك التزام النهج الإسلامي الذي يحث على الترشيد وعدم التبذير، إذ نجد أن الإفراط في الوضوء على نهر جار -مثلاً- غير جائز شرعاً، ما يعني أن الوسطية هي النهج السليم في كل التعاملات، ويدخل فيها طريقة صرف الأموال أيضاً، وفي ظل الترشيد الذي تسعى إليه الدولة تعيش بعض البيوت أو المناسبات حالة مخجلة ومحبطة من الفوضى في موائد الطعام، أو شراء ما لا نحتاج إليه في كثير من الأحيان، لذلك لابد أن تكون عملية "شد الحزام" عملية متكاملة الأركان ومخططا لها بشكل جيد، على أن نساهم في نشرها بشكل يسهل استيعابها من قبل جميع شرائح المجتمع، وأن تكون ثقافة مجتمعية للمستقبل في كل جوانبه. ترشيد الصرف على الكماليات يربي الأبناء على مواجهة التحديات بوعي ومنطق وهنا نعتقد أننا بحاجة ماسة للقدوة في هذا المجال من قبل بعض أفراد المجتمع المعروفين لدى الجمهور، كلاعبي كرة القدم والفنانين والإعلاميين، الذين يجب عليهم الظهور في وسائل الإعلام المختلفة لتوجيه رسالة مجتمعية تحث أفراد المجتمع على الادخار، إلى جانب توضيح سياسة "شد الحزام" المثالية، وهو ما يمكن أن يخرجنا من متاهة التعامل الفوضوي في حياتنا؛ لكي لا تكون النتائج سلبية. ترشيد المصاريف أوضح د. عبدالوهاب القحطاني - أستاذ الإدارة الإستراتيجية وتنمية الموارد البشرية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن - إنه عندما تواجه الدول تحديات اقتصادية صعبة لا تساعدها في الإنفاق بسخاء كما كان في السابق، فإنها تلجأ إلى التقشف في عامة المصروفات بناءً على إيراداتها المتاحة، مبيناً أنه في دول تعتمد على إيرادات البترول في ميزانيتها يكون التقشف أقسى، لأن إيراداته تتراجع بنسبة كبيرة بحوالي (50%) مما كانت عليه قبل عام مضى. وأشار إلى أن مفهوم "شد الأحزمة" يعني التقشف والترشيد في المصاريف، لأن إيرادات الدولة تراجعت، ما يحتم على الجميع الاستغلال الأمثل والأكثر كفاءة للموارد المالية المتاحة، مضيفاً أن "شد الأحزمة" أو ربطها يعني الانتقال إلى مرحلة زمنية صعبة من حيث الظروف الاقتصادية، ما يستدعي التقشف والترشيد والتكيف مع الظروف والتحديات الصعبة التي تواجه الوطن والمواطن، لافتاً إلى أن مفهوم "شد الأحزمة" مرتبط بتحديات اقتصادية غير مألوفة، ما يتطلب من الحكومة والمواطن تغيير السلوك الإنفاقي حسب المعطيات الحالية والمستقبلية. وأضاف: "يشير المثل العربي إلى أن الحاجة أم الاختراع"، لكنني استبدل الاختراع بالإبداع والابتكار، ليصبح المثل: الحاجة أم الإبداع والابتكار، فالمواطن المستهلك المبدع والمبتكر يستطيع إيجاد وتقييم البدائل لسد احتياجاته لتكون متوافقة مع ميزانيته خلال الظروف الاقتصادية الصعبة". مجتمع استهلاكي وقال سمير عابد شيخ - مستشار اقتصادي، وأمين عام الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية الأسبق: "إن شد الحزام هو توصيف لما يسميه الاقتصاديون الفرق بين ما تحتاجه وما تشتهيه، بمعنى التميز في الاقتصاد بين ما يحتاجه الفرد والشيء الذي يشتهيه، وشد الحزام يعني أن يتخذ الفرد شراء الاحتياج والابتعاد عما تشتهيه النفس، وشد الحزام سياسة مطلوبة في كل دول العالم، وتشتد الحاجة له كلما دخلت الاقتصادات العالمية منعطف الأزمات الاقتصادية، وهذا يعني أنه سيكون هناك ضغط على السيولة، كما أنه سيكون هناك ضغط على السيولة الزائدة". وأضاف أنه سيكون هناك أيضاً ضغط مالي في المجتمع، كما أن الاستهلاك سيكون أقل في المجتمع، وهذا يعني أن المال سيكون أقل في المجتمع؛ لأنها سلسلة متكاملة من التصرفات الاقتصادية كل واحد يؤدي إلى الآخر، موضحاً أن شد الحزام غير المنضبط يؤدي الى مشاكل وخيمة، ومثال ذلك أن ينصرف الناس إلى شراء مستلزمات المناسبات العائلية من مبدأ تقنين بند العزائم، وعندها سيتضرر السوق المركزي "سوبر ماركت"، وسيضطر لترحيل بعض الموظفين نتيجة ضعف المشتريات. وأوضح أنه في المقابل ستتضرر المزارع والمصانع والشركات المنتجة، التي توفر احتياجات هذا السوق المركزي، مؤكداً أن سياسية "شد الحزام" مبدأ جيد ولكن ليس إلى ما لا نهاية، مشيراً إلى وجود خوف عام في القطاع الاستثماري والتجاري، مبيناً أن كثيراً من العمال لم يحصلوا على مرتباتهم لعدة أشهر، إذ هناك من أفراد المجتمع من أصبح ينتهج سياسية "شد الحزام". مدخرات الاسرة ولفت شيخ الى ان بين أفراد المجتمع لم يحدث تغير إلى الآن، وذلك بسبب أن الناس اعتادوا على أسلوب معين في الحياة، إلى جانب أن بعض الأسر لديها ادخارات تجعلها قادرة على أن تتصرف براحة تامة من خلالها، إضافة إلى أن الإنسان عادة ومن واقع الدراسات الاقتصادية عندما ينخفض راتبه لا تنخفض مصروفاته، بل يأخذ وقتاً أطول، لأنه لا يستطيع تخفيض نفقاته سريعاً؛ وذلك ربما لأن لديه أقساط سيارة ومدارس الأولاد وفواتير الكهرباء. ورأى أن سياسية "شد الحزام" لا نستطيع تلمس أثرها إلا بعد مرور فترة طويلة من الزمن، لافتاً إلى أن بعض الأسر لا تستطيع شد الحزام، وذلك نتيجة ضعف دخلها، الذي بالكاد يسد احتياجاتها الضرورية، ولذلك فهي بحاجة للدعم، في ظل رفع الدعم عن كثير من المنتجات، مضيفاً أن هذا وضع طبيعي يحدث لأي دولة يتعرض اقتصادها لأزمة مؤقتة مثلما حدث لدينا، مبيناً أن الدولة ترفع الدعم عن بعض المنتجات. متوسطو الدخل وأشار شيخ إلى أن الحل يكمن في مؤسسات معينة في الدولة بحيث تأخذ من الأغنياء وتعطي الفقراء، من خلال نظام الزكاة والضمان الاجتماعي؛ لأن الضرر سيكون كبيراً عليهم، مضيفاً أن الطبقة المتوسطة في المجتمع بدأت في الانكماش منذ فترة ليست بالقصيرة، موضحاً أن هذا واقع تعيشه معظم دول العالم بسبب الخلل في توزيع الدخل، مبيناً أننا سنجد بالتدريج أن نسبا أقل في المجتمعات من كل أنحاء العالم تحتكر الثروات بصفة عامة، ففي قارة أمريكا الشمالية -مثلاً- نجد أكثر من (90%) من ثروة البلاد يمتلكها (1%) من الناس. وبين أن هذا يزداد في كل أنحاء العالم بالنسبة إلى توزيع الثروة، إذ ينتج عن ذلك عدة مشكلات بسبب تركيز الثروات في أيد قليلة من الناس، وبالتالي تنكمش الطبقة المتوسطة في المجتمع والمواطن لا يملك إلا القليل، ومع مرور الزمن ستزداد هذه الفجوة وسيكون المواطن أقل دخلاً وأقل ثراءً؛ لأن المواطن متوسط الدخل والأقل دخلاً سيعمل لدى غيره من أجل استرداد أشيائه التى لا يتملكها". هيكلة الصرف بدوره لفت ناصر القرعاوي - رئيس المركز السعودي للدراسات والبحوث - إلى أن هناك -للأسف- نسبة كبيرة من الأسر رأت أن هناك أزمة سيطول أمدها، وأن هذا الوضع يحتاج إلى ترك كثير من المستلزمات أو الأشياء التى يجب أن تصرف في مسارها الصحيح، مضيفاً أن "شد الحزام" بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي هو هيكلة الصرف، إلى جانب إعطاء الأولوية النسبية لكل مجال من مجالات الصرف، بمعنى أن الإيرادات يجب أن تتحكم في المصروفات، وليس العكس، مشيراً إلى أن كثيرين من أفراد مجتمعنا غارقون في مظاهر الرفاهية والإسراف. وأكد أن مبدأ "شد الحزام" يتوافق كثيراً مع توجه الدولة، إذ تمر بظرف زمني محدود لن يطول أمده -بإذن الله- مضيفاً أنه سبق أن حدث هذا الموقف عندما تراجعت أسعار البترول، الذي يعد المورد الرئيس لدخل الدولة، مشيراً إلى أن ما يحدث الآن باستخدام سياسية شد الحزام هو أفضل بكثير من استمرارية ارتفاع أسعار البترول، مضيفاً أننا بحاجة لمثل هذه الصدمات أو الجرعات من شد الحزام؛ لأن الدولة والمجتمع بحاجة لإعادة النظر وتقييم الصرف بشكل عام، سواء على مستوى الدولة ممثلة في قطاعاتها، أو على مستوى الأسر والأفراد. ورأى أن البذخ الذي كان يحدث، إلى جانب ما حدث في الآونة الأخيرة من تصرفات سلبية ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي الحالي، كما أنها تتعارض مع تعاليم الدين والقيم الاجتماعية، مضيفاً أن "شد الحزام" يعني أن نصرف بالقدر المعقول والمقبول من دون أن نضر بالاحتياجات الأساسية، كالتعليم والصحة والسكن وبناء المستقبل، داعياً إلى الصرف بعقلانية وحدود مقبولة من دون أن يكون هناك ضرر بهيكلة الأسرة، خاصة فيما يتعلق بمستلزماتها الأساسية، كالغذاء والدواء والتعليم. ثقافة الادخار وأشار القرعاوي إلى أننا لابد أن نكون جميعاً مع مبدأ "شد الحزام"، ولكن بالصورة الإيجابية وليس بالصورة السلبية، التى يروج لها كثير ممن لا يعرفون هذا المبدأ، بمعنى أن نصرف بالقدر المعقول والمقبول، وبما يتماشى مع الإمكانات، موضحاً أن هناك من يقترض من أجل السفر أو تأثيث المنزل أو المتاجرة أو الرفاهية التى لا سقف لها، أما من يعيش برؤية اقتصادية واضحة فلا خوف عليهم، لأن "شد الحزام" ينطبق على من يتصرف بعشوائية، مؤكداً أن الدولة قادرة على إدارة ما يتعلق بها، أما القطاع الخاص والأفراد فإنهم يحتاجون الى الوعي في هذا المجال. وأضاف أن أول هذه الثقافة هو ما ذكر في ديننا الاسلامي الحنيف بالابتعاد عن التبذير، ناصحاً الشباب بالابتعاد عن القروض، مشيراً إلى أن تأثيرها كبير ومؤثر في الأسر الصغيرة، حيث ستدخلهم في نفق المشاكل الأسرية وما يرتبط بها من طلاق أو الاصابة بالأمراض النفسية، مؤكداً أن غرس مفهوم ترشيد الاستهلاك لدى الجيل الجديد هو مسؤولية الأسرة، التى يجب أن تغرس هذا المفهوم في نفوسهم، مبيناً أنه ليس من المجدى أن يعطى الطفل الصغير مبلغاً أكبر من حاجته أثناء ذهابه للمدرسة، حتى لا تتكون لديه ثقافة الإسراف. وانتقد دور مؤسسات التعليم العام في غرس ثقافة الادخار والصرف المقنن لدى النشء، حيث لا يوجد في المناهج الدراسية ما يعزز هذا الجانب، لافتاً إلى أن المقصف المدرسي كان في حقبة زمنية عبارة عن شركة استثمارية من الطلاب، إذ يدعى له الطلاب في بداية العام الدراسي للاشتراك فيه بمبلغ معين، وفي نهاية العام الدراسي يصرف رأس المال مع الأرباح على الطلاب؛ ما يغرس فيهم ثقافة التجارة والادخار معاً. إدارة الاحتياجات الأسرية بوعي ومنطق تكفي هم الاقتراض أوضح د. عبدالوهاب القحطاني أن "شد الحزام" يكون في كفاءة استغلال المال العام المتاح على مستوى الدولة والأسرة والفرد، وذلك بالترشيد في الصرف على تكاليف المشاريع الحكومية ومصاريف الأسرة والأفراد، مضيفاً الحاجة إلى مراجعة تكاليف المشاريع، إذ إن بعضها متضخم جداً، بالرغم من تراجع إيرادات البترول، موضحاً أن الحكومة تحتاج لرقابة ومراجعة وحوكمة فاعلة لتنفيذ المشاريع بمعايير جودة عالية، مبيناً أن على الأسرة ممثلة في ربها أن تكون منطقية في صرفها وأن تكون على وعي باحتياجاتها الأساسية والكمالية، لتصرف ميزانيتها طبقاً للأوليات والضرورات من غير بذخ أو إسراف. وأكد أن البذخ والتبذير أثناء الأزمات الاقتصادية مؤشر على عدم وعي الأفراد والأسرة وجهلهم بما يجري من أحداث اقتصادية سلبية قريبة وبعيدة تؤثر في مسار حياتهم، خوصوصا إذا لم يكن الفرد والأسرة على درجة عالية من الرشد والمعرفة بكيفية مواجهة الأزمات الاقتصادية للتكيف معها، مضيفاً أنه لابد لنا من فهم أعمق بمفهوم الكفاءة الاقتصادية للمصروفات لنفهم أهمية الترشيد في زمن الأزمات، مشيراً إلى أن الكفاءة الاقتصادية تعني تعظيم الفائدة من خلال ترشيد المصاريف. ورأى أن ذلك لن يكون من غير معرفة ووعي بالمال المتاح وأوليات الصرف على المشاريع والخدمات، مشددا على ضرورة إعادة النظر في ميزانية الأسرة، كما أنه لابد للأسرة من الوعي بما يجري، وأن تشد الأحزمة سلوكياً في مصروفاته، لافتاً إلى أن الأسرة والأفراد الواعين بشد الأحزمة والبدائل المتاحة يستطيعون مواجهة الأزمات الاقتصادية باقتدار وحكمة من غير الحاجة للاقتراض من البنوك لسد العجز في دخولهم المالية. بين الصرف الزائد والإدخار.. قيمة تربوية! شدد د.فرحان العنزي -أستاذ الإرشاد النفسي المشارك، وعميد كلية التربية بجامعة حائل- على أهمية الأخذ بمبدأ "شد الحزام"، مشيراً إلى أن ذلك سيقودنا إلى التحكم بموردنا بشكل طبيعي من دون إسراف أو تبذير، إلى جانب وضع الأمور في نصابها الصحيح، مضيفاً أن بعضهم ينفق من دون حساب، إلا أنه مع الوضع الاقتصادي الحالي أصبح الناس أكثر حرصاً على التفكير في كيفية موازنة الأمور وكيفية توفير الاحتياجات الضرورية بأقل تكلفة، وبالشكل الذي يحقق الهدف دون وجود تكلفة زائدة. ودعا إلى التفريق بين المصطلحات في مسألة "شد الحزام"؛ لكي لا يدخل الشخص في نفق البخل نتيجة الحرص الشديد، موضحاً أن الوصف الحقيقي للبخل هو التقصير في الاحتياجات الأساسية، إلا أننا نريد الوصول إلى مفهوم إدارة الحياة بشكل جيد، مضيفاً: "إذا استطعنا تحقيق ذلك، فإننا نكون قد نجحنا في تحقيق الوسطية مابين الصرف والادخار"، مقترحاً أن تكون هناك سياسة للصرف في المناسبات الكبيرة، بمعنى المشاركة في الزيجات أو العزائم الجماعية، مبيناً أننا بذلك سنخرج بقيمة تربوية في كيفية المحافظة على المال بإدارة جيدة للصرف. وأضاف أننا سنجني أيضاً قيمة تربوية أخرى مفادها أن شد الحزام يعني حسن التعامل مع إدارة الموارد المالية، مقترحاً أن يتم الاستفادة من القدوة الحسنة في المجتمع، من خلال وجود نماذج واقعية تظهر في وسائل الإعلام توضح أهمية "شد الحزام" وآلية تنفيذه، وأن يدرج ذلك ضمن المناهج المدرسية ومؤسسات التربية المختلفة؛ حتى يتعلم أبناءنا حسن التعامل مع المال منذ الصغر.
مشاركة :