يهدي الشاعر والروائي وكاتب قصة قصيرة الأميركي من أصل ألماني تشارلز بوكوفسكيالذي رحل في 9 مارس/اذار عام 1994 بعد رحلة مع مرض اللوكيميا، آخ أعماله الروائية "أدب رخيص" إلى "الكتابة السيئة"، وهي التي ترى فيها الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم أنها " تَرث الجينات الأدبيّة البوكوفسكيّة مستعيرةً شكلاً جديدًا في الكتابة هدفه كَسر نوعيّة الجنس الروائيّ النموذجيّ من خلال المحاكاة السّاخرة، وبناء نصّ مفتوح بنكهة جديدة ينزاحُ عن الكتابة المشروطة لأدب التحرّي. في هذا المَزج، أو التّشويش أو الازدواج المتعمّد الذي يُحدثُه بوكوفسكي في آخر أعماله، يهجّر النصّ عن نموذجه التقليديّ ويعيدُ صياغته وفق أصول مطبخه الأدبيّ ليبني لنا خيالاً يشدّ، عبر الباروديا، بنية العمل الأدبيّ ويخلق له لغتين وأسلوبين ووجهتي نظر تضعنا أمام سؤال الكتابة وأشكال تلقّيه". الرواية التي صدرت عن منشورات الجمل بترجمة إيمان حرزالله ومقدمة ريم غنايم التي ترجمت العديد من أعمال بوكوفسكي، وتشير في مقدمتها إلى أن النقاد اتفقوا حول ضعف النَفَس البوكوفسكيّ في هذه الرواية وعمرانيّتها، لكنّ وجب قراءة هذه الرواية وفق قواعدها الخاصّة، لا قواعد النموذج الروائيّ التقليديّ الذي بنت على عناصره وأفسدته عن قصد، وبذلك بنت لنفسها منطقًا خاصًا يقومُ على استثارة القارىء وصدمه وفق تراكماته السابقة. هي ليست رواية بوكوفسكيّة نموذجيّة ، ولا تنزع نحو النمط السيرذاتي وجرعات الذاتيّة التي تظهر من خلال شخصيّة هانك، وسائر الشخصيّات في روايات وقصص بوكوفسكي. يكتب بوكوفسكي أدب الجريمة أو التحرّي، لكن ليس بالمفهوم التقليدي لهذا النوع الأدبيّ، فقد أشاع الكاتب فيها روح الفكاهة مُحدِثًا أخاديد في قلب هذا النوع الأدبيّ، ومسخّفًا رؤى الشخصيّات السورياليّة والمهمّات الغرائبيّة الموكلة إلى محقّق عاثر الحظّ يستهتر بزبائنه. بهذا حافظَ على المزاج البوكوفسكيّ مبتعدًا عن السقوط في الاجترار الأسلوبيّ، يلتذّ القارىء من خلاله للأحداث الروائيّة المعطوبة في جزئها بوعيٍ منه الآن أن المقارنة بين النموذجين لا تستقيم لاختلاف النوايا". وتضيف "هانك، العربيد الليليّ، السّكير الحالِم، المراهن رجل الحانات والجرائم الصغيرة، المولَع بالنّساء، العاطل عن العمل، المتحدّث باسم الصّغار، الواقعيّ القذر، والقبيح المنحرف عن آداب السّلوك العامّ، غابَ هذه المرّة عن رواية بوكوفسكي. لكنّه يعود ويخرج إلينا في ميتامورفوزا أخرى على هيئة محقّقٍ خمسينيّ غارق في قضايا زبائن ليسوا حقيقةً بزبائن، وقضايا ليست بقضايا، مشتركًا في لعبة تمويهيّة ساخرة حدّ السّخف، تؤكّد من جديد فلسفة بوكوفسكي حول القاعدة الطباقية للعالَم حيث تتناغم التناقضات ويحملُ الجد فيه الهزل بنفس القدر. الرواية عبارة عن لوحة فنيّة صافية، يقف فيها الدّونيّ بجانب الجميل، وتكشف هي الأخرى كما أعمال بوكوفسكي الشعريّة والنثريّة السابقة- وإن بدَت مختلفة في أحداثها وقالبها ونوعها الأدبيّ- فلسفة خاصّة حيال الواقع الذي لا يمكنك أن تأخذه دائمًا محمل الجدّ وإلاّ هزمك. هنا، يستجمع بوكوفسكي موهبته ليرسم لوحةً غروتسكيّة وحشيّة سخيفة متكسّرة هشّة متماسكة ولامعقولة في نفس الوقت، وهو بذلك يختار لنا أدب التحرّي والجريمة في إطاره العامّ فقط، ليهدّ معماريّته الفنيّة ويعيد رصف لبناته وفق المنطق البوكفسكيّ الذي عهدناه. وتتابع غنايم "نيكي بيلين (والذي يحاكي اسم روائيّ التحرّيات والجريمة الأميركي ميكي سبيلين) هو محقّق خاصّ يترنّح على سلّم النجاح والفشل، يتّخذ أداؤه في العمل شكلاً سخيفًا وشبه سورياليّ بدخول شخصيّات غريبة في الرواية ومهمّات أشدّ غرابة: السيّدة مَوت، امرأة جميلة تطلب من نِك العثور على لويس فرديناند سيلين الكاتب المتوفّى عام 1961، كائنات فضائيّة يُطلب منه إزاحتها من طريق زبائنه، ضبط امرأة تخون زوجها في ملاحقة كوميديّة عبثيّة، والعثور على العصفور الأحمر (والذي يحاكي اسم دار النشر التي نشر فيها بوكوفسكي أعماله، بلاك سبارو –العصفور الأسود ومؤسسها جون مارتن) والذي يصبح سببًا في قتل المحقق في مشهد ختاميّ سورياليّ. افتتح بوكوفسكي الرواية بالسيّدة مَوت، المَوت الذي اختاره ليكون سيّدة في منتهى الجَمال والقسوة، وختم الرواية بتواطئها مع الآخرين واعترافها بأنّ كلّ ما حدث مع نِك كان مجرّد لعبة خطّط لها بارتون، وفي لقطة درامية عبثيّة ساخرة، يتحقّق فيها قانون مورفي، يُطلق على بيلين أربع رصاصات في بطنه، ليصبح العصفور الأحمر عملاقًا حقيقيًا يواجه نكي: "العصفور الأحمر. عملاق، براق، جميل. ليس في ضخامته شيء، حقيقي للغاية، ليس في روعته شيء. وقف أمامي. ثم ظهرت السيدة موت تقف بجوار العصفور. لم تبدُ أجمل من هذا قط. قالت: "بيلين، لقد استُدرجت إلى لعبة سيئة حقاً". "لا أستطيع التحدث كثيرا يا سيدتي.. أخبريني بالأمر كله". "جون بارتون صديقك رجل له نظرة ثاقبة للغاية. أحسّ أن العصفور الأحمر موجود وحقيقي بطريقة ما وفي مكان ما. وأنك ستعثر عليه. الآن قد عثرت عليه. لم يكن معظم الآخرين- ديجا فاونتن، وسندرسون، وجوني تيمبل- سوى فنّانين محتالين، حاولوا خداعك وابتزازك. ظنا منهم أنك ثري، لأنك أنت وحانة موسو كل ما تبقى من هوليوود القديمة، هوليوود الحقيقية." وتوضح غنايم "لا ننجح في الدّخول تمامًا إلى عُمق شخصيّة نكي بيلين الذي لا يبتعدُ كثيرًا عن هانك، ولا بقيّة الشخصيّات المستقاة بأسمائها من واقع بوكوفسكي مع تحويرات تجعل منها شخوصًا كاريكاتوريّة مخيفة وفكاهيّة، تشيعُ الفوضى في الرواية وتظلّ غامضة حتّى النهاية. نيكي شخصيّة بوهيميّة رافضة لكلّ ما حولها، يتناول الحقيقة على نحو ساخر ولا تخضع سلوكيّاته أو حتى المهمّات الموكلة إليه لعقلانيّة ما طالما تواجد هو في واقع العقلانيّة آخر ما تصبغه. الحلّ، إذن، لمواجهة هذا الواقع وثوابته، تضافر كافّة أشكال المعقول المحشوّة باللامعقول، والجدّ الذي يحتضنُ الهزل في أبهى حالاته ليوجّه مقولةً حادّة تجاه مفاهيم عصره ومظاهره على نحو العنف والجنس والعاطفة والاغتراب. وهكذا مثلاً، نراه في مشهد ساخر يتّصل بماخور افتراضيّ ويدفع ببطاقته أجر مكالمة ساخنة مع كيتي. يحوّل بوكوفسكي المشهد السّاخن الجادّ إلى مشهد بارد هزليّ وسخيف مفرغ من محتواه الجنسيّ، يُبرزُ جانب الزّيف والكذب ويستثمر اللحظة ليكشف عن سطحيّة المشهد الجنسيّ العصريّ ومظاهره وسخافة سوق العرض والطّلب: "أعطيته المعلومات. انتظرت طويلا إلى أن تم التحقّق من رصيدي. ثم سمعت صوتا: "هيه يا صغيري هذه كيتي"! "أهلا يا كيتي. اسمي نِكي". "أوووه. صوتك مثير جداً! لقد أثارني قليلاً"! "لا. صوتي ليس مثيراً". "أوه. أنت متواضع فقط"! "لا يا كيتي لست متواضعاً".. "أتعرف. أشعر أنني قريبة جدا منك! كأنك تضمني وأنا على ركبتيك وأنظر في عينيك. إن عينيّ زرقاوين. أراك تميل عليّ كأنك ستقبّلني"! "هذا هراء كيتي، أنا أجلس هنا وحيداً أشرب سكوتش وأصغي إلى صوت المطر". "اسمع نِك، يجب أن تستخدم خيالك ولو قليلاً. دع نفسك وستتفاجأ بما يمكن أن نفعله معاً. ألا تحب صوتي؟ ألا تجده.. آه.. مثيراً قليلاً؟" "نعم، قليلاً، ولكن ليس جداً. تبدين كأنك مصابة بنزلة برد. أأنت مصابة بالبرد؟" "نِك، نِك، يا فتاي العزيز، أنا ساخنة جدا ويصعب أن أصاب بالبرد"! "ماذا؟" "قلت لك أنا ساخنة جدا ويصعب أن أصاب بالبرد"! "حسناً، تبدين كأنك مصابة بالبرد، أتدخِّنين كثيراً؟" "أنا أدخن شيئًا واحدا فقط يا نِك"! "ما هو يا كيتي؟" "حَزَّر". "لا.." "أنظر لأسفلك يا نِك". "أوكى". "ماذا ترى؟" "كأس. هاتف".. "ماذا أيضاً يا نِكي؟" "حذائي".. "نِك، ما هذا الشيء الكبير الذي يبرز منك وأنت تتحدث معي؟" "أوه، هذا، إنه كرشي"! "تحدث معي يا نِك. اسمع صوتي. تخيلني على ركبتيك، وثوبي مرفوع قليلاً يظهر ركبتيّ وفخذيّ. وشعري الأشقر الطويل ينسدل على كتفي. فكر في كل هذا يا نِك، فكر في".. "وهو كذلك..." "أوكى، الآن ماذا ترى؟" "نفس الأشياء: الهاتف، وحذائي، وكأسي، وكرشي".. "أنت سيء يا نِك! لديّ رغبة حقيقية في المجئ إليك وصفعك على ردفك، أو ربما سأدعك تصفعني أنت على ردفي"! "ماذا؟" "اصفعني، اصفعني نِكي".. "كيتي..." "نعم؟".. “اتسمحين لي بدقيقة؟ يجب أن أذهب إلى الحمّام". "أوه نِك أعرف ما ستفعله هناك! لكن ليس عليك أن تذهب إلى لحمام، يمكنك أن تفعلها على الهاتف وأنت تتحدث معي"! "لا أستطيع كيتي، سأتبوّل". "نِك. اعتبر محادثتنا انتهت!" وأغلقت الخط. وحول إهداء بوكوفسكي روايته للكتابة السيّئة تلفت غنايم "لا يمكن أن نحدد بالضبط ما الذي يقصده ب "الكتابة السيئة". أهي مديح في شعرية الرداءة، الرّداءة والإخفاق في خوض نوع أدبي شائع؟ أم أنها رداءة متعمّدة، تسعى إلى تقويض الشعبي والقائم والمستهلك؟ هي في الأساس قدرة على اختلاق شعرية للرداءة أو شعرية للمتنافرات تموضع النص في حيز ثالث، حيز يقوم على إحداث ارتجاجات لكتابة مشروطة ومحكومة بتقاليد وأعراف ثابتة. هذه الارتجاجات تبرهن تجاوزه لهذا النّوع الأدبي أثناء ممارسته له بإضافة قيمة واقعية أخرى له. ومن يفتح خارطة هذه الرواية، ينتبه إلى أن السخرية والباردويا موقف من الواقع وفلسفة وجود. هي نفس الباروديا التي يعالج فيها سرفانتيس الواقع في دون كيخوتة، ونفس الباروديا التي يتطرق فيها لاري مورس وكولن واتسون، وروبرت باركر وإرنستو ساباتو وغيرهم ممن أضافت الباروديا لأعمالهم الأدبية منحى جديدا بعد أن أثبت النموذج التقليدي فشله، الباروديا التي تشتغل على هدّ مظاهر التلقّي والتأليف وخلخلة توازن المألوف. وتؤكد أنه رغم حب بوكوفسكي الخاص لهذه الرواية، إلا أنه على غير عادته في أعماله السابقة، أعاد كتابة هذه الرواية، وصحح فيها أكثر من مرة، مما يؤكد قلقه حيالَها. من يقرأ هذه الرواية يلاحظ أن ثمة مسرحة مجنونة وتحويرات سينمائية تقوم على التسخيف، والغروتيسك، والكوميديا في عمقها تراجيديا عبثيّة خالصة تنتهي بأربع طلقات في بطن المحقق بيلين. المصادفات المتواصلة، المحقّق المتأرجح بين الذكاء والغباء، الجرائم الرماديّة الطابع التي لا مبرّر لها، كلّها قد تجعل من الكتابة في هذا الأدب كتابة رديئة تفسد هذا النوع الأدبي وأصوله. لكن علينا أن نعترف أن ثمة عمقا ودلالات أخرى للخروقات التي يرتكبها بوكوفسكي في هذا النوع الأدبي تعيدنا إلى الهدف الأساسي من وراء هذا الإفساد، فلا تنطلي على قارىء بوكوفسكي خدعة الشّكل الأدبي. لم يكتب بوكوفسكي أدبا رديئا وإنما كتب أدبا واقعيا مخَلخَلا، وقد احتفظَ لنفسه بحق اختيار الضوابط والشكل الفني والمناخ الذي يحقق في النهاية للمتلقي لذة دون قيد أو شرط من جهة، ويتناسب مع ميتافيزيقيّة الكاتب من جهة أخرى. وتخلص غنايم في مقدمتها إلى كتابة بوكوفسكي الأدبية توتر الأعصاب، تبدأ على نحوٍ غير غريب وتنتهي على نحوٍ غريب، وترميك في حقل من الألغام والتساؤلات حول الواقع والبشر والمألوف ومرايا الوجود. كعادَته، ينجح بوكوفسكي عبر تبني النشاز قيمة عليا، في خلق الأثر الجمالي عند المتلقي، فالرجل لم يتقصد في نهاية حياته الأدبية، خوض كتابة نوع أدبي لم يطرقه من قبل، إلا بهدف استثماره، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتحقيق نفس الأثر الجماليّ السّابق، مجدّدًا دمه القصصيّ في محاولةٍ أخيرة للضحك من المَوت. "أدب رخيص"، رواية شديدة التحيل تُبطِن عكس ما تُظهر، حتى بعنوانها وإهدائها اللذين لا يمثّلان مقاصدها، وتكمن قيمتها كرواية تحر في قدرتها على توجيه لكمة في وجه هذا الجنس الروائي الذي أكله الصدأ".
مشاركة :