المكان في الرواية بين الحضور والغياب

  • 2/22/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يلاحظ الكثير من النقاد والمتابعين للرواية الإماراتية غياب المكان على نحو لافت، ومهما تعدد الوصف وتباينت صوره وأشكاله إلا أنه يحطنا على عتبات اللامكان واللازمان في الكثير من العمل الإبداعي المحلي مع الإقرار بوجود استثناءات استطاع أصحابها أن يتجاوزوا هذه المعضلة ويبنوا تصوراً أكثر وضوحاً عن المكان الإماراتي وبعده التاريخي والتراثي. غني عن البيان أن المكان شكّل هوية المبدع والإبداع وبصمته التي تفوح منها رائحة المكان بكل مفرداته وتفاصيله، وهو ديدن المبدعين منذ قرون سحيقة، وما البكاء على الأطلال والوقوف على ديار المحبوبة في الشعر العربي إلا أنموذج واضح يعكس لنا تجليات مختلفة وصوراً متنوعة تحيلنا في مجملها إلى رائحة المكان العبقة التي تختزل قروناً من التاريخ وعوالم من الجغرافيات العصية على النسيان، وتعكس تعلّق الإنسان العربي به واحتفاؤه به شعراً ونثراً. ولئن كان ثمة كتاب وكاتبات استطاعوا أن يرسخوا معالم المكان في الذاكرة الإماراتية عبر توظيفهم لأبجدياته ومعالمه الشاخصة، والاحتفاء بمفرداته وتفاصيله، لكن السواد الأعظم ما زال يغرد خارج السرب وينأى في منتجه وإبداعه عن الاحتفاء بالمكان الإماراتي حتى يُخيّل إلى القارئ أنه لا ينتمي إلى مكان بعينه. في هذا التحقيق تكشف الخليج عن مظاهر ذلك الحضور والغياب وتجلياته وتداعياته على المنتج الثقافي الإماراتي، عن المكان بين الحضور والغياب في الرواية الإماراتية المعاصرة، بالاتكاء على آراء نخبة من المبدعين الإماراتيين الذين خبروا الموضوع عن قرب. قالت الناقدة والأديبة الدكتور أمينة ذيبان إن المكان الإماراتي لم يتم توظيفه أو تحديد معالمه في الرواية المحلية بشكل واضح وإن كانت ثمة نماذج يمكن الوقوف عندها لكنها قليلة، في حين تظل الأغلبية بمعزل عن مغازلة المكان والاحتفاء به. وأكدت أن المكان في السرد الإماراتي لم يقرأ بشكل كامل ومفصّل، وما زال يحتاج إلى تفاصيل دقيقة وإيماءات واضحة تمنحه هوية كاملة وتعرّف به أكثر على غرار ما حدث في بعض التجارب العربية التي استطاع كاتبوها أن يوصلوا إليها رائحة المكان وأريجه الساحر عبر أعمالهم السردية، بحيث يمكننا أن نقرأ تفاصيل المكان ومعالمه من خلال الرواية، وهذا ما يتجلى في روايات نجيب محفوظ على سبيل المثال. وقال الروائي علي أبو الريش إن المكان في الرواية يشمل العالم كله وليس مقصوراً على مكان بعينه وعلى الكاتب التحليق في فضاءات خارجة عن محيطه أو نطاقه الضيق، لأن المشاغل الإنسانية تجمعه مع بني جلدته من العالم. مشيراً إلى أنه علينا ألا نفكر في المكان في بعده الضيق، أو مكان ما بعينه، لأنه المكان في نهاية المطاف يجب أن يكون فضاء مفتوحاً يتجول فيه الكاتب بأفكاره وشخوصه وأبطاله. وأكد أن الخروج من النطاق الضيق فرضته التحولات الكبرى التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، ولا يمكن القياس على ما كان في السابق، لأن عجلة الحياة متسارعة ومتطورة، فالإمارات اليوم تختلف عنها قبل ثلاثين عاماً، لافتاً إلى ضرورة التركيز على عملية النشوء والارتقاء ومسابقة الزمن من أجل الوصول إلى الآخر، والانفتاح على عوالم إبداعية أرحب، وتجاوز الأمكنة المطلقة والفضاءات الضيقة. وأشار إلى أن لغة الكاتب ونسقه الفكري يحيلان إليه، بالضرورة، ويعرّفان بمنتجه ولا يقتصر الأمر على المكان بالمفهوم الاستهلاكي، مؤكداً أن تغيّر الحياة ألقى بظلاله على المنتج الإبداعي الذي تفاعل مع المتغيرات وانسجم في نطاقها. ويتفق الروائي علي الحميري مع أبو الريش في تبرير غياب المكان الإماراتي في السرد في المحلي، مضيفاً أن الكتاب الإماراتيين الأوائل استنفدوا كل المواضيع التي تتّصل بالمكان في الإمارات، وعلينا أن نطرق مواضيع جديدة خارج الإمارات من أجل أن نواكب التطور والتغير الحاصل، ونخرج عن التقوقع على الذات. وأكد الحميري أن جمالية المنتج الإبداعي والكتابة السردية على وجه الخصوص لا ترتبطان بالضرورة بالحديث عن المكان والبيئة المحلية، بقدر ما يكمن في إتقان تقنية الكتابة وفنياتها وتميّز المضمون، مشيراً إلى أنه مزج بين المحلي والخارجي في نتاجه. وذهب إلى أن الكاتب مهما نأت به الدار وشط به المزار في كتابته ومعالجته لا بد أن تكون هناك عناصر تعكس بصمته وهويته وفكره ويمكننا أن نشتم منها، بطريقة أو بأخرى، رائحة المكان. وقالت الروائية والشاعرة أسماء الزرعوني إنه خلال الفترة الأخيرة ظهرت روايات لبعض الكتاب الجدد لا تنتمي إلى المكان ولا البيئة الثقافية الإماراتية، بل إن بعضها لا ينتمي إلى جنس الرواية أصلاً، مشيرةً إلى أنها مع ذلك انتشرت كالنار في الهشيم في المشهد الثقافي المحلي ولقيت رواجاً وتسويقاً من قبل دور نشر تجارية تهتم بما تجنيه من أرباح أكثر مما تقدمه من قيمة ثقافية. وأكدت أن هذه الروايات كسرت القاعدة التي كانت من المسلمات وهي أن الإنسان ابن بيئته، لأنها لا تنتمي إلى البيئة المحلية، بل تغرد خارج السرب ويغيب عنها عمق الوطن ورائحة المكان في الإمارات وعادات المجتمع وتقاليده، لافتة إلى أن هذا النوع من الرواية غدا ظاهرة لافتة في المشهد الثقافي المحلي. وأوضحت أن الموجة الجديدة من الكتابات التي تنسب إلى الثقافة والإبداع عمّت كافة المجالات الإبداعية حتى اختلط الحابل بالنابل في وسط معتم مملوء بالغثاء الذي سيذهب جفاء، لأنه لا يرقى إلى مستوى ولا يعبّر عن واقع بل يشي بالاستسهال على طريقة الوجبات السريعة والبحث عن الشهرة والظهور بأسهل الطرق. وتتفق الروائية فتحية النمر مع الزرعوني فيما ذهبت إليه، مؤكداً أن أكثر الروايات والقصص التي كتبتها أقلام إماراتية من الجنسين، مؤخراً، لا يمكن القول بأنها إماراتية، ولا تشتمل على خصوصية المجتمع الإماراتي، ولا مفردات مكانه ولا عاداته ولا موروثه، ولا شيء فيها يشير إليه من قريب أو بعيد، رغم كونها جميلة ومتقنة فنيا لكنها لا تشير إلى جغرافيتها ولا تاريخها بكل ما يحملانه من نقاط وعلامات فهي في رأيي ناقصة. وأكدت أن بعض الشباب من الجنسين يغردون خارج السرب، وعندما تقرأ لهم لا تعرف أنك تقرأ عربياً أو إماراتياً، لأنهم يكتبون عن النبلاء والقصور التي كانوا يعيشون فيها، وكأنهم يترجمون بأقلامهم ما قرأوه و ما شاهدوه من أفلام عن ذلك العالم الغريب غير المحدد ولا المعروف. وأشارت إلى أن الخوف والرهبة من أن يعرف القارئ المكان المقصود في الرواية ربما يكونان السبب في ذلك العزوف والتجاهل، مضيفة: وهذا برأيي غير مقبول أبدا، لأنني أؤمن بأننا من خلال القوة الناعمة الكلمة واللحن والصوت واللون قد نفعل ما لا يمكن فعله بأية قوة أخرى. وأكدت أننا لو رجعنا إلى الكتب الإبداعية الإنسانية الخالدة سنتعرف الى البلاد و الأمكنة التي ينتمي إليها كاتبها أكثر من لو أننا ذهبنا بأنفسنا إلى هناك، مضيفة: نحن عرفنا روسيا بكل أمكنتها وتراثها وخصوصيتها العريقة من خلال ديستويفسكي، وعرفنا كولومبيا بشكل مفصل عن طريق ماركيز، وعرفنا فرنسا من خلال كامو، وعرفنا تفاصيل الحارة المصرية من خلال حرافيش وثلاثية نجيب محفوظ، عرفنا الريف السوداني الرائع بأقانيمه الثلاثة النهر والمسجد والحقل، وحلقنا مع كل صغيرة وكبيرة هناك، وأحببنا اللهجة السودانية مع الطيب صالح، وعرفنا بلداناً أخرى عديدة يفوح عطرها من خلال أقلام أبنائها وبناتها. وذهبت إلى أن الكتاب الإماراتيين مقصرون في الاعتزاز بخصوصيتهم وتعريف القراء بها، وكل ما قدروا عليه في الأغلب الأعم استحضار أسماء إماراتية، متسائلة أين الشارع الإماراتي، أين اللباس الإماراتي، وأين العادات والتفكير المتغلغل في التراب الإماراتي ؟ مؤكدة أن القلة القليلة من الكتاب الإماراتيين، وبخاصة من الجيل الأول، هم من عنوا فقط بالمكان الإماراتي ووثقوا تاريخه وتراثه.

مشاركة :