ذكرت في الأسبوعين الماضيين*¹ أن التعليم الجامعي في أميركا، وكما سمعت في كندا، يبدأ بإلزام الطالب بدراسة بضعة كورسات*² في العلوم الاجتماعية وبضعة كورسات في العلوم الطبيعية، سواء تخصص في ما بعد بالهندسة أم الرياضيات أم التاريخ أم علم الاجتماع، وهذا يثير استغراب جميع الطلاب الأجانب حتى لو كانوا من بريطانيا. بل إن الحصول على شهادة جامعية في الكيمياء أو الهندسة أو التاريخ أو الفلسفة لا يمنع الطالب من القبول في برنامج الماجستير أو الدكتوراه في إدارة الأعمال، أو الماجستير أو الدكتوراه في العلوم السياسية، أو التاريخ، أو أي تخصص آخر. ويعود ذلك إلى أسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية، فعندما حصلت الولايات الأميركية الـ13 على الاستقلال في عام 1776 كانت الولايات الأميركية التي اتحدت في جمهورية واحدة بلداً ريفياً يعمل غالبية مواطنيه في القطاع الزراعي. وحينما تم إنشاء «كلية» هارفارد في مدينة بوسطن و«كلية» برنستون في ولاية «نيوجرسي» قبل الاستقلال صارت هاتان الكليتان البذرة الأولى لزرع التعليم الجامعي في أميركا. وبعد الاستقلال بسنوات قليلة تم إنشاء «جون هوبكنز» في ولاية «ميرلاند» و«كولومبيا» في مدينة نيويورك، و«ييل» في ولاية «كونكتت». وكان الهدف من إنشاء كل هذه المنشآت الجامعية قبل الاستقلال وبعده مباشرة، إذ كانت جميعها وما زالت مؤسسات خاصة لا حكومية، الإلمام بالمعارف الإنجيلية وفقاً لمذهب كنيسة من مول إنشاءها. وتدريجياً تمت إضافة دراسة القانون والطب للدراسات الإنجيلية. وبسبب الروابط الوثيقة التي تربط المستعمرات البريطانية في أميركا وبريطانيا مكان مولد الثورة الصناعية التي انطلقت قبل حصول الولايات الأميركية على الاستقلال بسنوات قليلة، تحول المجتمع الأميركي إلى ما يمكن تسميته بالزراعة الصناعية. أي استخدام الآلات الزراعية وإنشاء كليات تعنى بالدراسات الزراعية ورفع كفاءة آلاتها بإضافة الهندسة الميكانيكية بتمويل حكومي. وقبيل، وبعد الحرب الأهلية (انتهت عام 1865)، أنشأت كل ولاية من الولايات الموجودة، وبعض الأقاليم الكبيرة، جامعة واحدة، على الأقل تعنى بالدرجة الأولى بدراسات القطاع الزراعي، تمولها حكومات الولايات والأقاليم. ولكن الجامعات الخاصة التي بدأت بالدراسات الدينية سرعان ما تميزت على الجامعات الحكومية حتى صارت منافسة لجامعتي أكسفورد وكامبردج التي اقتدت بها في بداية أوقات إنشائها. وتدريجياً صارت الجامعات القيادية التي انتشرت في شمال شرقي الولايات المتحدة وقفاً على النخبة من أبناء المتعلمين وأبناء الأسر الثرية التي استطاعت أن توفر تعليماً عاماً ممتازاً يعطي أبناءهم فرصة أفضل للقبول في الجامعات الأقدم والأميز. ولكن هذا الوضع لم يعد مقبولاً في بلد يتكون جميع مواطنيه من المهاجرين أو أبنائهم أو أبناء الأبناء، في بلد يزعم أن مصدر تفوقه في جميع المجالات إعطاء الفرصة للجميع، وليس لأبناء الأثرياء فقط. فبدأت هارفارد وبرنستون وييل وكولومبيا وجون هوبكنز بقبول عدد محدود من أبناء وبنات الفقراء في أقسام الدراسات العليا، غير أن من أتوا من أسر متواضعة الدخل تخرجوا في أغلب الأحيان من منشآت جامعية متواضعة، فكيف يتنافس خريج جامعة حكومية في ولاية جنوبية فقيرة مع آخرين تخرجوا من أمثال كولومبيا وبرنستون وييل. فقررت هذه الجامعات النخبوية وضع مناهج دراساتها العليا بفرض أن جميع المقبولين في دراسة الماجستير أو الدكتوراه لا يعرفون شيئاً يذكر عن التخصصات التي تم قبولهم لدراساتها. فبرنامج الماجستير يتكون عادة من 30 إلى 35 ساعة دراسية في أساسيات العلم المراد دراسته. إضافة إلى كتابة رسالة متواضعة أسهل من أكثرية الكورسات التي لا بد من النجاح فيها بدرجة جيد جداً على الأقل (أي 3 من 4 أو 4 من 5). وذلك يعني أن طلاب الدراسات العليا يكونون في الفصول نفسها التي يدرس فيها طلاب السنة الثالثة والسنة الرابعة الأخيرة من متطلبات التخصص في الدراسات الجامعية كالبكالوريوس والليسانس، وأحياناً حتى في فصول طلاب السنة الثانية. وهذه الفصول وما يتبعها من امتحانات كثيرة خلال كل فصل دراسي هي أهم صعوبات الدراسات العليا بالنسبة إلى الأجانب، وفي أحيان قليلة بالنسبة إلى أبناء الأقليات الأميركية الذين تخرجوا من جامعات متواضعة. وللموضوع بقية. * أكاديمي سعودي * ورد في الموضوع الذي تم نشره الأسبوع الماضي تحت عنوان «التعليم الجامعي في أميركا (2 من 2) و «الدكتور جاكسون يطلب قراءة ما لا يقل عن (20) صفحة أسبوعياً. وهذا خطأ. والمقصود قراءة (200) صفحة أسبوعياً.
مشاركة :