جاء في موضوع الأسبوع الماضي عن التعليم العالي في أميركا، أن النظام الأميركي لا يشترط التخصص في مادة من مواد المعرفة للحصول على الماجستير أو الدكتوراه. فالخريج في قسم التاريخ يمكن قبوله في برنامج للماجستير في المحاسبة أو القانون أو حتى الطب. وكل الذي يحصل، أن الطالب الذي لم يسبق له التخصص في المادة التي تم قبوله لدراستها للحصول على الماجستير أو الدكتوراه، يبدأ في أول فصل دراسي بأخذ الكورسات (الدروس) الأساسية في ذلك الحقل. فإن نجح بدرجات جيدة جداً أو مميزة، يتابع دراسته حتى يحصل على الشهادة العليا. وإن لم ينجح، فلا يُسمح له بالاستمرار. هذا ما يحدث في أميركا وربما كندا. فماذا عن أوروبا وبقية دول العالم؟ في خارج أميركا وكندا، لا يقبل الطالب، ابتداءً، في حقل لم يسبق له أو لها التخصص فيه على المستوى الجامعي. لذلك، تفترض أنظمة التعليم الأخرى أن طالب الدراسات العليا سبق له أن ألمّ بجوهر تخصصه ويستطيع البدء في البحث لكتابة الرسالة للحصول على الماجستير أو الدكتوراه. وأذكر حينما كنت في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، أنه كان بين أساتذة كلية الهندسة سعوديون وغير سعوديين من خريجي جامعات في أميركا ومن أوروبا. وأذكر أن الفرق، بالدرجة الأولى بين من حصلوا على الدكتوراه في فرع من فروع الهندسة من جامعات أوروبية وبين أمثالهم من خريجي الجامعات الأميركية، أن خريج أوروبا لا يستطيع تدريس أي كورس من الكورسات (الدروس) المطلوبة في السنتين الأوليين من الدراسة خارج حقل تخصّصه. فإذا كان من حملة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية، على سبيل المثل، لا يستطيع تدريس أي كورس آخر في أي فرع من فروع الهندسة الأخرى. أما خريجو أميركا فيستطيعون تدريس معظم الكورسات (الدروس) في مبادئ جميع فروع الهندسة في السنتين الأوليين. تهدف الدراسة في أميركا عموماً، وعلى المستوى الجامعي وعلى المستوى العالي أيضاً، إلى إعطاء نظرة علوية شاملة، مع إعداد الطالب للتخصص في ما بعد إذا أراد وكان مؤهلاً للتخصص في مادة واحدة، أو حتى جزء واحد. والسلاح الذي توظفه الجامعات الأميركية للتأكد من أن طالب الدراسات العليا قادر على البحث، هو الإصرار على النجاح في كورسات (دروس) أساسية، إضافة إلى الإلمام بمنهجية البحث ومعرفة آليات توظيفه كعلوم الإحصاء والرياضيات في المواد العلمية والهندسية أو القراءة المستفيضة في العلوم الاجتماعية واللغات. فالحاصل على الدكتوراه في اللغة العربية، وهو عربي، من جامعة أميركية لا يقضي سنوات دراسته في تعلّم لغته الأم، وإنما بتعلّم منهجية البحث وأدواته. والماجستير في أميركا أسهل بمراحل من الدكتوراه، إذ إن أهم شروط الحصول على الماجستير هو النجاح بدرجات أعلى في كورسات (دروس) أساسية يتم تدريسها في المستوى الثالث (السنة الثالثة) والرابع من مرحلة البكالوريوس أو الليسانس. وفي كثير من الأحيان، تكون الرسالة غير مطلوبة، وإن كانت مطلوبة فهي لا تتجاوز بحثاً واحداً مقبول المستوى. وتكمن الصعوبة الحقيقية في دراسة الدكتوراه. فأولاً، مطلوب النجاح بدرجات جيدة جداً على الأقل في نحو مئة ساعة دراسية، قد يكون كثير منها مع طلاب في السنة الثالثة أو الرابعة في المرحلة الجامعية الأولى. وثانياً، الامتحانات الطويلة الشاملة، بعد النجاح في كل الكورسات (الدروس) المطلوبة. وهذه الامتحانات هي الكابوس الذي يجثم على عقول طلاب دراسة الدكتوراه. فكل امتحان من هذه الامتحانات التحريرية، وليس الشفهية قط، يستغرق على الأقل ساعة ونصف الساعة وأحياناً أكثر. ولا بد من النجاح في اثنين منها، على الأقل، بدرجات أعلى من جيدة جداً، قبل السماح لطالب الدكتوراه بكتابة الرسالة. وكثر من الطلاب الأجانب الذين حصلوا على الشهادة الجامعية من خارج أميركا، يواجهون صعوبات كبيرة في حضور دروس وأخذ امتحانات مع طلاب في المرحلة الثالثة أو الرابعة من الدراسات الجامعية. وإذا لم يحالفهم الحظ، فإما يبحثون عن جامعات أسهل في ولايات أخرى أو يذهبون إلى جامعات خارج أميركا تسمح لهم بكتابة الرسائل مباشرةً من دون أخذ كورسات (دروس) وما يتبعها من امتحانات. وفي علم الاقتصاد، وفي معظم الجامعات الجيدة، وعددها يزيد عن مئتي جامعة على الأقل، لا ينجح في الامتحانات الشاملة ممن يأخذونها للمرة الأولى أكثر من ثلث من تقدّم لأخذها. وإذا تكرر الرسوب في الفرصة الثانية، يعطى الطالب شهادة الماجستير، وينصح بالبحث عن جامعة أخرى حتى لو كان سبق له أن حصل على الماجستير. وعرفت شخصياً طلاباً عرباً وغير عرب لم يوفَّقوا في الامتحانات الشاملة، أو فشلوا في النجاح في الكورسات (الدروس) المطلوبة، فذهبوا إلى خارج أميركا وحصلوا على الدكتوراه. وفي أميركا، وباستثناء دراسة الطب والقانون، يمكن في كثير من الأحيان، العثور على جامعة أخرى لمحاولة الحصول على الدكتوراه، بالنسبة إلى من ينجحون بدرجات مقبولة في الكورسات (الدروس) الأساسية. وهذا لا يعني أن الحاصلين على الدكتوراه من الجامعات الأميركية أفضل أو أذكى أو أقدر بأي صفة من الصفات من نظرائهم الذين تخرجوا في جامعات أوروبية. ففي نهاية المطاف، تعتمد القدرة والكفاءة على الشخص ومدى جديته وإصراره، إضافة إلى مواهبه الذهنية. أما دراسة الطب والقانون في أميركا، فقصة أخرى تماماً، سيأتي الحديث عنها في الأسبوع المقبل إن شاء الله. * أكاديمي سعودي.
مشاركة :