قبل 19 سنة، وتحديداً في الشهر الأول من عام 1997، دهمني أخطر أنواع أمراض سرطان الدم. وبعد وصولي إلى مدينة سياتل في ولاية واشنطن في أقصى شمال غربي أميركا، للعلاج في مركز «هتش» لبحوث وعلاج السرطان، تعرفت الى الأطباء المعالجين. وكان أطباء المركز يصرون، قبل بدء العلاج، على التعرف الى أهم الأطباء، بما في ذلك الدكتور داني توماس الذي اخترع إجراءات وكيفية ووسيلة نقل النخاع لعلاج أمراض سرطان الدم، ونال جائزة «نوبل» في الطب اعترافاً بأهمية اختراعه. غير أن الدكتور توماس كان تقاعد، وحصر نشاطه بالذهاب يومياً إلى المختبر كما قال لي حينما قابلته، بعد شهر من وصولي الى سياتل. وفي مركز «هتش» مختبرات علمية متطورة لإجراء البحوث العلمية في المجالات الطبية. ودرج هذا المركز على الإصرار على أن يمضي كل طبيب من أطبائه شهراً في المختبر يتبعه شهر في العلاج، وهلمّ جرا خلال جميع أشهر السنة. أما أول من قابلت، فكان المدير «الطبي» للمركز، وهو غير رئيس المركز الذي يشرف على كل شؤون المركز، بما في ذلك التفاصيل الإدارية. كان اسم المدير الطبي الذي أشرف على جميع مراحل علاجي، جيمس ويد، والدكتور ويد قد يكون من أفضل الأطباء في العالم أجمع في مجال نقل النخاع وما يحيط بهذا الإجراء من صعوبات وأخطار حقيقية في المراحل التي تسبق النقل وبعد النقل ببضعة أشهر على الأقل في أفضل الأحوال. وكنت أتصوّر، بسبب غزارة علمه وكفاءته، أن الدكتور ويد حصل على الشهادة الجامعية، التي كنت أعرف أنها تسبق القبول في كليات الطب، في الكيمياء أو الأحياء أو الفيزياء (أم العلوم على مختلف أنواعها). لكنه فاجأني بأنه بعد الثانوية، حصل على منحة دراسية من جامعة كاليفورنيا الأم في «بركلي» لدراسة العلوم السياسية. فظننت أنه لا بد درس الطب إذاً، في جامعة شهيرة قيادية مميزة، كهارفارد أو ييل أو ستانفورد. غير أنه تقدّم للامتحانات التي تقيس مدى استعداد الطالب الذهني لدراسة الطب، بصرف النظر عما درس في مرحلة البكالوريوس، وحصل على درجة عالية. لذلك حصل على منحة دراسية من كلية الطب في جامعة «يوتاه»، وهي جامعة جيدة، وحتماً ليست في مستوى «جون هوبكنز» ولا جامعة شيكاغو. بل لم يمنعه تخرّجه في كلية طب في جامعة متواضعة نسبياً من الحصول على «الزمالة» من مستشفى كلية الطب في جامعة «جون هوبكنز» الشهيرة منذ النصف الثاني من القرن الـ19، التي كانت وما زالت من أفضل الجامعات القيادية في العالم أجمع بالنسبة إلى إجراء التجارب الطبية والبحوث العلمية والإتيان بالجديد في مجالات العلاج والاكتشاف. وكذلك دراسة القانون في أميركا، مثلها مثل دراسة الطب من ناحية مستوى الجامعة التي تتم فيها الدراسة في حد ذاتها، ليست بأهمية مستوى الجامعة في حقول كالهندسة والجيولوجيا والكيمياء والفيزياء أو الاقتصاد وإدارة الأعمال. وكما عرفت أطباء مميزين مشهورين درسوا الطب في جامعات متوسطة المستوى، عرفت محامين مشهوداً لهم بالقدرة المشفوعة بالأمانة والصدق، تخرجوا في جامعات عادية غير معروفة بالتميز في أي حقل من حقول المعرفة. وما هو تفسير ظاهرة أهمية مستوى الجامعة في حقل مثل الهندسة المدنية أو هندسة الحاسب، أو التمويل، وعدم أهمية المستوى للجامعة أو الكلية بالنسبة إلى الطب والقانون؟ يعود ذلك إلى أن نقابة الأطباء الأميركيين هي التي وضعت الحد الأدنى المطلوب دراسته من المعارف التي يحتاجها الطبيب، بما في ذلك عدد الطلاب المقبولين في كل كلية من كليات الطب الأميركية المعترف بها. وكان العدد، وربما لا يزال، الذي تقبله كل كلية من كليات الطب الأميركية، مئة طالب أو أكثر أو أقل قليلاً. وكما تحدّد نقابة الأطباء ما يتم تدريسه في كليات الطب وآليات الامتحانات التي لا بد منها قبل القبول، كذلك تفعل نقابة المحامين، فتحدد الحد الأدنى المطلوب دراسته ووسائل القبول وأدواته. ومع أن الأطباء يحصلون على الترخيص لممارسة الطب في جميع الولايات الأميركية، فإنهم، عادة، يحصلون، على «الرخصة» من دون عناء يذكر. أما المحامون، فلا بد أن يمروا بامتحان صعب جداً من كل ولاية يستطيعون ممارسة القانون فيها. والأرجح أن أميركا (وربما كندا) تنفرد باشتراط الشهادة الجامعية، من دون أي اعتبار لموضوع الدراسة، قبل القبول بكليات الطب أو كليات القانون. غير أن دراسة كل من الطب والقانون لا تعير أهمية للتخصص في المرحلة الجامعية، فإن القبول في أحدهما يشترط درجات عالية في امتحانات الاستعداد الذهني لفهم القانون أو العلوم الطبية. وهذا كله لم يمنع أطباء ومحامين عرباً وغير عرب ابتدأوا بدراسة الطب أو القانون بعد الثانوية مباشرة في جامعات عربية أو أجنبية أخرى، من أن يتفوقوا مهنياً ويحصلوا على رخص الممارسة، ويكسبوا احترام زملائهم الأميركيين وتقديرهم. فلكل مجتمع طريقته، وفقاً لتاريخه، في تدريس الطب والقانون. * أكاديمي سعودي. الدراسات العليا في أميركا (1 من 3) الدراسات العليا في أميركا (2 من 3)
مشاركة :