ليس غريباً أو مفاجئاً أن يكون التصدي لتنظيم «داعش» وأخواته هو البوصلة التي باتت اليوم توجه السياسة الأميركية في المنطقة، فالحكاية قديمة وتعود لتداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، حين وضعت واشنطن على عاتقها مواجهة الإرهاب الإسلاموي وقيادة أوسع جبهة عالمية للنيل منه. منذئذٍ، تحولت السياسة الأميركية نحو جملة مبادئ وقواعد في العلاقات الدولية ضمن ما سمي استراتيجية مكافحة الإرهاب، كان أبرزها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك إمكان إعلان حرب وقائية في أي مكان بالعالم ترى فيه تهديداً لأمنها، ما أفضى إلى تدخلات عسكرية متنوعة لضرب قادة وكوادر «القاعدة»، وإلى حربين شاملتين في أفغانستان والعراق. لكن، بمفاعيل تداعيات الإرهاب الجهادي نفسه، تمت بلورة سياسة نقيض تدعو إلى الانكفاء والتراجع عن التدخل العسكري المباشر، تأثراً بالتكلفة الاقتصادية الباهظة وحجم الخسائر التي أنزلها الجهاديون بالقوات الأميركية، وكلنا يذكر كيف صار مطلب الانسحاب من العراق وأفغانستان، أشبه بوعد أو ورقة رابحة في البرامج الانتخابية لمرشحي الرئاسة من أجل كسب أصوات الأميركيين، لنشهد بعد انتخاب الرئيس اوباما حالة من السلبية الأميركية المزمنة في التعاطي مع الصراعات العالمية وبؤر التوتر، أوضحها المواقف البليدة والمقيتة من ثورات الربيع العربي وتحديداً من المأساة التي تتفاقم في سورية. وأيضاً، كلنا يذكر كيف انساق البيت الأبيض الذي طالما حبذ دعم أنظمة ديكتاتورية تضمن له استقرار مصالحه ونفوذه، نحو اتباع سياسة تدعو للتغيير ودعم الديموقراطية والتنمية في بلدان المنطقة، على أمل سحب البساط من تحت أقدام قوى العنف الإسلاموي التي تعتاش عادة على مخلفات القهر والفقر والتخلف، لكن إخفاق هذا المسار بفعل رسوخ ثقافة الاستبداد وضيق النفس الأميركي في ظل حصاد هزيل للنخب السياسية والثقافية العربية في تمكين ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان، دفع إلى مراجعة نقدية شجعت على توجيه الأنظار صوب دور الإسلام السياسي المعتدل كبديل أسهل وأقل تكلفة يمكنه محاصرة القوى المتطرفة وإضعافها. وبالفعل شهدت السياسة الأميركية مرحلة من تركيز الجهود على تقوية التيارات الإسلامية المعتدلة، واعتبرتها حصاناً رابحاً في الحرب ضد الإرهاب الجهادي ولاختراق العالمين العربي والإسلامي وتخفيف عداء شعوبهما لها، وبادرت إلى فتح قنوات متنوعة لتوفير أشكال من الدعم لحضور الإسلام السياسي في حراك الربيع العربي، وتأييد وصول بعضها إلى السلطة في تونس ومصر. لكن سرعة تنكر الإسلاميين المعتدلين للشعارات المدنية والديموقراطية التي رفعوها، وإصرارهم الفظ، ما إن وصلوا إلى السلطة، على الاستئثار بالحكم وأسلمة الدولة والمجتمع، ثم مسارعة من لا يزال منهم في المعارضات العربية إلى دعم الهيئات الشرعية والشعارات الإسلامية وتغطية ظهور التفريعات المتنوعة للجماعات الجهادية، عجل في كشف قوة الترابط العقائدي وعمق المنافع المتبادلة بين الجماعات السياسية الدينية على اختلاف مناهجها وأساليبها، وأسقط الرهان على خيار الاعتدال الإسلامي في مواجهة التطرف، ما أدى إلى تحول جديد في السياسة الأميركية، لتبدو كأنها تعود إلى المربع الأول، وتتوسل في مواجهة تنظيم «داعش» وأمثاله، القوة العسكرية وبناء تحالفات اقليمية بغيضة ودعم أنظمة ديكتاتورية ومستبدة، على حساب مصالح الشعوب ومبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان. والحال، فإن التصدي لتنظيم «داعش»، هو اليوم المفتاح السحري لقراءة السياسات الأميركية في المنطقة عموماً وسورية خصوصاً، ولتفسير تحولاتها ومواقفها وآليات إعادة بناء تفاهماتها واصطفافاتها، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى مبادرتها بإنشاء وقيادة تحالف عسكري دولي لضرب تمدد الجهاديين والنيل منهم، كما النظر إلى التقدير الأميركي الضمني للدور الذي تلعبه إيران وحلفاؤها في العراق وسورية ولبنان ضد الإرهاب الجهادي وتمرير أشكال من التعاون والتنسيق معهم، ثم النظر إلى اتساع الخلاف بين واشنطن وأنقرة، ما دامت هذه الأخيرة لا تزال تشترط وترفض المشاركة في ضرب تنظيم «داعش»، وتتنكر لمسؤوليتها، عن قصد أو من دون قصد، في تسهيل عبور الآلاف من الكوادر الإسلاموية المتشددة نحو سورية والعراق، ما يفسر استمرار التحفظ الأميركي على منح تركيا، ممثلة بحكومة حزب العدالة والتنمية الاسلامية، حرية الحركة عسكرياً في الأراضي السورية وتالياً رفضها المزمن مطلب أنقرة بإقامة حظر جوي أو منطقة آمنة، وما يعزز هذه الحقيقة إصرار واشنطن على دعم الدور العسكري لأكراد سورية، بدءاً من كوباني إلى المعارك الأخيرة في شمال حلب وغربها، وتالياً مد ما يسمى قوات سورية الديموقراطية، بكل ما يلزمها من عتاد وأسلحة وخبرات، كطرف موثوق به في مواجهة «داعش»، بخاصة بعد أن تراجعت الثقة الأميركية باعتدال بعض أطراف المعارضة المسلحة التي ترفع الراية الإسلامية، ثم حصدت الخيبة في رهانها على تدريب جماعات من الجيش الحر وتسليحها. ومن هذه القناة أيضاً، وتأسيساً على عمق ورسوخ المصلحة المشتركة بين واشنطن وموسكو في التصدي لتنظيم «داعش» وأخواته، يمكن النظر إلى التقارب الكبير بين الطرفين في إدارة الصراع السوري، وفهم أسباب تقديم التنازلات الأميركية لإنجاح خطة الطريق لمعالجة هذه المحنة سياسياً، إن في ما يتعلق بمستقبل النظام في دمشق أو في الضغط على المعارضة السياسية لتطويع مواقفها، وتالياً تفسير حالة رضا واطمئنان البيت الأبيض لتصاعد عمليات الكرملين العسكرية في البلاد بما في ذلك موافقته الضمنية على المروحة الواسعة من قوات المعارضة المسلحة التي تصنفها موسكو بالإرهاب، وإن دان علناً ضرب الطائرات الروسية لبعض مواقعهم! أخيراً، ما دامت مهمة مكافحة الإرهاب الجهادي هي العنوان الذي سيوجه السياسة الأميركية إلى حين، فمن العبث البحث أو الرهان على مواقف جديدة تعارض هذا السياق، بخاصة أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، ديموقراطية كانت أم جمهورية، لن تختلف حول أولوية هذه المهمة، وإن اختلفت في الأساليب وطابع القوى المؤهلة للتنفيذ! * كاتب سوري
مشاركة :