تحقيق إخباري: صناعة الموزاييك الدمشقي فن وعراقة مستمرة رغم ظروف الحرب والحصار

  • 6/18/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ظلت صناعة الموزاييك الدمشقي حبيسة الجدران وفي الورش الصغيرة، خلال سنوات الحرب التي اندلعت بسوريا في مارس 2011، وكان حرفيو هذه المهنة يجاهدون لتبقى حاضرة كتراث سوري عريق له تاريخ، ويشكل هوية من نوع خاص، رغم كل الصعوبات والظروف التي عاشتها البلاد. ولم يقطع صناع هذه الحرفة الدمشقية الأمل في عودة هذه الصنعة التراثية إلى الواجهة من جديد، وأن تفتح الورش من جديد وأن يعود سوقها إلى حيث كان قبل اندلاع الحرب، وأن تزين البيوت بتلك القطع الفنية المشغولة بتقنية عالية تحمل عبق الماضي وروح الحاضر. واليوم وبعد أن هدأ صوت الرصاص في عموم المناطق السورية وفي دمشق العاصمة خصوصا، بدأت العديد من الحرف اليدوية تعود إلى الواجهة، ومنها حرفة الموزاييك الدمشقي التي خرجت من الورش الصغيرة لتعود لتزين واجهات المحلات في أسواق دمشق القديمة ويزداد الطلب عليها من قبل الزوار العرب والأجانب. وتشتهر مدينة دمشق بصناعة تطعيم الخشب أو الموزاييك، وهو فن دمشقي خاص، ويعد الحرفي جورجي البيطار أول من ابتكر هذه الصناعة، عندما قام بصنع أول قطعة موزاييك عام 1860 وذلك بجمع قضبان من الخشب الملون طبيعياً ذات مقطع مثلث أو مربع ثم تقطيعها على شكل رقائق ولصقها على المصنوعات الخشبية بالغراء الطبيعي. وفؤاد عربش رجل ستيني بالعمر، وهو حرفي سوري أو كما يسمى "شيخ كار" بقي يعمل طيلة سنوات الحرب في ورشته الصغيرة الكائنة في منطقة باب شرقي، والتي تقع إلى الشرق من مدينة دمشق، دون كلل أو ملل، والأمل يحدوه في أن تعود تلك الصنعة من جديد، وأن يعاد الألق إليها رويدا رويدا. وقال الحرفي السوري فؤاد عربش لوكالة أنباء ((شينخوا)) بدمشق " أنا أعمل في مهنة الموزاييك الدمشقي أي تطعيم الخشب بالخشب، وهذه المهنة عريقة بعمرها الزمني، وابتكرت في دمشق ولازال أهالي مدينة دمشق يعملون بهذه المهنة لحد الآن، وهي مصدر عيشهم ". وأضاف عربش الذي يعمل في ورشته بكل تفان وإخلاص في مهنة الموزاييك الدمشقي منذ قرابة 50 عاما وهو يحمل بيده رزمة من الأعواد الخشبية ذات الألوان الطبيعية ليشكل منها نقشة مزخرفة، إن هذه المهنة محصورة داخل سوريا ولم تتمكن أي دولة أن تعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها أهل دمشق. وتابع يقول أنني أعمل بهذه الحرفة منذ عام 1970 كحرفي مستقل، وجيلنا هو أكبر جيل يعمل بهذه المهنة الأن، مشيرا إلى أن هناك أجيالا جديدة تسعى للعمل في هذه المهنة التراثية العريقة لكي تبقى على قيد الحياة. وأضاف عربش وهو أيضا رئيس الجمعية الحرفية للمنتجات الشرقية بدمشق أن هذه الحرفة تتميز أولا بأنها حرفة يدوية بامتياز تعتمد بموادها الأولية على أخشاب غوطة دمشق، وهذه الأخشاب تتنوع بألوانها ونوعية الخشب من السرو والمشمش والليمون والجوز والزان التي يتم سحب الشرائح الخشبية منها ليصار إلى جمعها على أي شكل هندسي، كـنجمة صغيرة أو كبيرة ليتم تشريحها فيما بعد لتصبح شرائح رقيقة يتم تطعيم الخشب منها بأشكال مختلفة. وشرح عربش بإسهاب كيف يتم تسحيب الأخشاب وتشريحها وضمها وتغريتها (أي وضع مادة الغراء وهي مادة لاصقة داخل الأعواد الخشبية لتتماسك فيما بينها)، ويتم تحديد الأشكال الهندسية من أصغر نجمة إلى أكبر حجم، حسب القطعة المراد صنعها، ويتم تشريحها إلى شرائح رقيقة ولصقها على الخشب لتشكل لوحة فنية جميلة. وبين الحرفي السوري عربش أن هذه المهنة تحتاج إلى صبر وطولة بال عالية، بالإضافة إلى رؤية جمالية، وروى كيف بدأ العمل بهذه المهنة عندما كان صغيرا، وكان شيوخ الكار يعلمون الصغار على الصبر من خلال تحريك الماء بالعصا حتى يتجمد، مبينا أن هذا الأمر لن يتم ، ولكن هو اختبار للشخص الذي يريد أن يتعلم، فهذا اختبار صبر وتحمل له، ومن المؤكد من يصبر سيصبح معلما في المستقبل. وأشار إلى أن العمل في حرفة الموزاييك يحتاج إلى دقة ووقت طويل، قائلا " ليس بالسهولة أن تنجز قطعة من الموزاييك، وفي بعض الأحيان تخطأ وهذا الخطأ يكلفك الوقت والجهد"، مؤكدا أن طولة البال هي التي تساهم في إنجاح العمل. وقال إن "هذه المهنة مهددة بالانقراض لجهة هجرة الأشخاص الحرفيين الذين كانوا يعملون بها داخل سوريا، بسبب ظروف الحرب وتدمير الورش التي كانوا يعملون بها في بعض المناطق بريف دمشق، ولهذا السبب قل عدد الصناع والحرفيين الذين يعملون فيها ". وخلال سنوات الحرب في سوريا تعرضت الكثير من المهن اليدوية إلى التهديد بالانقراض، وتعرضت الورش إلى الدمار والتخريب، وهجرة أصحاب المهن اليدوية إلى خارج سوريا، ولكن الحكومة السورية عملت من أجل المحافظة على أغلب المهن اليدوية، من خلال جمعها في مكان واحد لتبقى حاضرة كتراث إنساني للأجيال القادمة. وقال عربش "لشدة حبي لهذه المهنة وخلال سنوات الحرب، شاركت في معرض دولي بالهند عام 2015 من خلال قطعة أخذتها معي ونالت الجائزة الأولى على 33 دولة "، مضيفا أن المشاركين بالمعرض أعجبوا بطريقة صنع هذه التحفة الفنية التي أخذتها معي إلى الهند ونالت الجائزة بجدارة وحصلت على جائزة نقدية "، مبينا أن الكثير من الناس المشاركين في المعرض ظنوا أن هذه الاشكال مرسومة رسم، وليست قطع خشبية تم تشكيلها يدويا بحرفية عالية. وأشار إلى أن هناك إقبالا كبيرا على شراء واقتناء قطع وتحف من الموزاييك وخاصة عندما يأتي الزائر أو السائح إلى سوريا فيعجب بها وبطريقة عملها فيرغب بأخذ تحفة من الموزاييك إلى بلاده كهدية، موضحا أن هذه الحرفة لم تعد حبيسة الجدران وإنما خرجت لتزين واجهات المحلات وراحت تلفت الأنظار إليها. وتحتوي ورشة الحرفي عربش على عدة مشغولات يدوية رائعة وتكاد تكون نادرة فعلا، مثل جرة ماء بحجم كبير جدا كلها مطعمة بالخشب والصدف، وبعض طاولات النرد المشغولة بطريقة فنية رائعة وهي معدة للتصدير لأحد الدول العربية، كما يحوي بيته على الكثير من قطع الموزاييك ويكاد يكون معرضا فنيا صغيرا. ونوه عربش أن المواطن السوري لم يعد بمقدوره الآن شراء قطع الموزاييك، بسبب ارتفاع أسعار تكاليف الإنتاج ومنها الخشب، مؤكدا أن السائح العربي والأجنبي هو الذي يشتري مثل هذه القطع حاليا. وفي حي القيمرية بدمشق القديمة، حيث تكثر محلات الموزاييك هناك، قالت سلمى الشيخ (47 عاما)، وهي سيدة سورية تحمل الجنسية الكندية، قالت لوكالة أنباء ((شينخوا)) خلال تجولها في السوق، " جئت منذ ثلاثة أشهر إلى سوريا في زيارة لرؤية أقاربي هنا، وبعد عدة أيام سأعود إلى كندا، وقررت أن اشتري بعض الصناديق الخشبية المطعمة بالموزاييك لبعض الأصدقاء هناك كتذكار من دمشق". وأضافت وهي تحمل بيدها صندوقا خشبيا متوسط الحجم، وآخر صغير هذه المشغولات اليدوية هي هوية سورية أو دمشقية بامتياز، ونحن نحرص كوننا نعيش في دول أجنبية أن نقدم لهم شيئا من الفن السوري العريق، مؤكدة أن الحرب حاولت أن تطمس هذه الهوية لكن إصرار الحرفيين على إبقائها حية هو الذي حمى هذه الهوية التراثية. وأشارت أتمنى على كل سوري أن يحمل معه إلى دول الاغتراب بعضا من التراث الحضاري والإنساني العريق، معبرة عن فرحتها بعودة هذه الحرفة إلى الوجود بعد سنوات من الحرب. وبدوره أشار أبو بشارة (63 عاما)، وهو صاحب محل لتجارة الموزاييك بحي القيمرية بدمشق القديمة، ولديه ورشة لصناعة الموزاييك إلى أن الحرفة انتعشت منذ سنتين تقريبا، وأعيد لها الألق، معتبرا أن الحرفيين الذين بقوا داخل سوريا ترفع لهم القبعة لأنهم أرادوا لهذه المهنة الاستمرارية رغم كل الظروف والصعوبات التي مرت عليهم. رغم كل الظروف الصعبة التي عاشتها سوريا، لم يفقد أبو بشارة، الذي يعيش في نفس الحي شغفه وحبه لصناعة الموزاييك الدمشقى بعد مضي 30 عاماً على صنعه لأول قطعة فنية بمساعدة جده، بل على العكس أعطى سر الصنعة إلى حفيده الذي بدأ يتعلمها بشغف كبير. ويبقى الأمل هو الشيء الوحيد الذي يعيش عليه أصحاب المهن اليدوية في سوريا، وأن تبقى تلك المهن على قيد الحياة كون بعضها مهدد بالاندثار بسبب دخول العمل الآلي إليها ليحل محلها.

مشاركة :