امتدادا لما سبق طرحه من الأخطاء: السادس: الحكم المناوئ، وهو التأكيد على صدق الحجة بإبراز خطأ منطقي في الحجة المعارضة، للوصول إلى القول: أنت على خطأ ومن ثم فإني على صواب. فالخطأ المنطقي في حجة أي امرئ لا يزيد عن كونه خطأً منطقياً لتلك الحجة، ولا يعني بأية حال صحة الحجة المعارضة، والواقع يشهد أن أغلب الخلافات التي تحدث وتتسع بين الأفراد، تنتج وتستمر بسبب سوء توجه الحوار بين الأطراف المختلفة، فكل منهم ينبري لإبراز أخطاء الآخرين معتبراً أن ذلك كافياً لتأكيد صحة موقفه، على الرغم من احتمال أن يكون الجميع على خطأ، أو الجميع على صواب، ولكن من وجهات نظر مختلفة، وهو مسلك يصب في إطار الكِبر المنهي عنه، الذي هو رد الحق. السابع: تضمين الذات، فالحاجة إلى أن تكون على صواب طوال الوقت، هي الهدف الأكثر قوة في تحديد اتجاه التفكير، من بين معظم الأهداف الأخرى؛ إذ يستخدم المرء تفكيره كي يحافظ على صواب موقفه، ثم يعتقد به، ويجد أحدنا صعوبة بالغة في الاعتراف بأن تفكيره كان خطأ حتى بينه وبين نفسه على الرغم من كثرة ترديد الحكمة القائلة (إن الاعتراف بالحق فضيلة) كما يجد الصعوبة نفسها في الاعتراف بأن تفكير غيره على صواب، فالتفكير مع تضمين الذات يستخدم لدعم الأنا، لا لاستكشاف آفاق الموضوع ومعرفة الحقيقة. ولذلك يغلب على التفكير هنا الافتقار التام للموضوعية، برغم أن بناء الأفكار قد يكون منطقياً ومتسلسلاً لدى المفكرين الماهرين إلا أن الإدراك منحاز بشكلٍ كبير. الثامن: الخطأ الكمي، وهو واحد من الأخطاء الرئيسية في الإدراك، فعلى سبيل المثال: دعاوى الإعلانات عن المعقمات تقتل الجراثيم؛ فالجراثيم تؤثر في بقايا الطعام وتسبب رائحة الفم، فإذا استخدمت معقماً في غسيل الفم فسيكون نفسك ألطف. ويبدو هذا كله منطقياً تماماً، إلا أنه خاطئ تماما من وجهة نظر كمية؛ فالمعقم ينحل سريعاً في الفم بحيث لا يمكنه قتل الجراثيم إلا لدقيقة واحدة على الأكثر، أما الجراثيم فتتضاعف بسرعة لتعويض نفسها، وعلى أية حال فإن تركيز المعقم الذي يقتل الجراثيم في أنبوب الاختبار يختلف كثيراً عن تركيزه في الفم، وبالتالي فلا يمكن للمرء الكشف عن الخطأ إلا إذا توفر لديه مجال واسع للإدراك يتيح له الحكم على الحجة المطروحة. التاسع: التطرف، إن التطرف ينتج إلى حد ما من اعتيادنا التعامل مع مفاهيم وتعريفات مطلقة، فما أن يدخل شيء ما في إطار التعريف حتى يجري التعامل معه بطريقة مماثلة لكل ما هو في ذلك الإطار. وربما لاحظ بعضنا كيف تسيطر تلك الأحكام العامة والمفاهيم المطلقة على الكثير من حواراتنا وتشكل رؤانا، فتجد من يقول كل الألمان متكبرون، وكل اليابانيين مخترعون، وكل من لم يدرس بالجامعة غير مثقف وهكذا والحقيقة أن كل ما بدأ بـسور عام ككل ونحوها فإنه يحمل جانباً من الخطأ في التفكير، ونادراً ما يثبت صوابه. كما يفهم مما جاء في كتاب الله من نهي الله -تعالى- عن إطلاق حكم عام على البشر، حتى فيما يتعلق بقضايا الإيمان، فليس كل من يلقي السلام من غيرنا يلقيه تقية أو مخافة القتل، فقد يكون مؤمناً يكتم إيمانه كما كان الصحابة من قبل. وينبغي حين نتحدث عن أخطاء التفكير أن نحذر الخلط بين قصور الإدراك وافتقار المعرفة، فالإدراك ليس مثيلاً للمعرفة؛ وإنما هو طريق النظر في المعرفة المتوافرة، وهو أيضاً طريق توجيه الانتباه، لما هو أكثر من المعرفة المتوافرة. فعيوب التفكير لا تقع غالباً في قصور المعرفة، بل في قصور الطريقة التي ننظر بها إلى الأمور؛ فإذا نظرنا إلى الموقف بأسلوب يتمركز حول الذات، فقد اخترنا أن نفعل ذلك، وإذا افترضنا واثقين أن تفسيراً معقولاً يستبعد أي تفسير آخر، فإننا اخترنا الحكم بذلك. إنه ينبغي التأكيد على أن التحرر من الأخطاء المنطقية لا يعني أنه هو وحده مهارة التفكير، وإنما يعني تجاوز ذلك إلى تنمية سعة الإدراك وتطوير مهارات تفكير أرحب.
مشاركة :