كانت هوايته صيد الفراشات وكانت هي فراشة حائرة ،في ذلك اليوم كتبت تعليقا على منشور له ، كان يعرض فيه وجهة نظره في واقعة تاريخية، مختلفة هي عن الأخرين ، حاول يومها أن يستدرجها لحديث يطول، اكتفت بتعليق وانصرفت، تظن أن الأمر سينتهي عند هذا الحد وصلتها رسالة منه يقول:- “أحب أن أعرف رأيك في الموضوع باستفاضة، كلي عيون قارئة” لماذا قرأت رسالته على غير عادتها، لم تكن تقرأ رسائل الغرباء والمتطفلين، لم تكتف بالقراءة بل أجابت عليها، قالت: – ” أنا لا اعترف بالتاريخ، فهو يحتمل وجهات النظر، التاريخ مزيف يكتبه المنتصر” كادت تغلق قبل أن يقفز بوجهه الطفولي في رسالتها يستدرجها لحديث طال أكثر من ساعتين، عن التاريخ والسياسة، حاولت أن تنسحب ولكنه استطاع أن يبقيها”. بعدها انسحب هو وغاب ليوم كامل، تركها تتجرع حيرتها. ” أنا في انتظارك مليت” أغنية لأم كلثوم وواقع عاشته لساعات وقد ازدادت لهفتها لرسالة منه، الوقت يلعب دورًا رئيسيًا في بداية العلاقات، تعاملنا مع الوقت يحدد من سيملك الزمام، وكان هو يملك الوقت دومًا ويعرف كيف يديره لصالحه، في المساء بعد يوم طويل وصلت رسالته: – ” مساء الخير، كيف حالك اليوم” ترددت طويلًا قبل أن تجيب، قالت على استحياء: – “مساء الخير” مساء الخير تلك جرت عليها كل شرور الزمن الرديء، فتحت الباب على مصراعيه لآلاف الرسائل بينهما، يطاردها برسائل لا تنتهي، حين يبدأ حديثا لا ينهيه أحد غيره، يمسك الدفة وتسير هي مع التيار، الاختلاف بينهما كان فريدًا في نوعه، اتفقا على ألا يتفقا، يهوى التاريخ و السياسة و تعشق هي الموسيقى والسفر، تكره الشتاء و يعشقه، تكره التصويروهو مجنون سيلفي، يرسل في اليوم ما يزيد عن عشر صور فتضحك من جنونه و نرجسيته، تقول ” الموبايل بيهنج” فيرسل صورة ، تضع ايموشن غاضب فيرسل أخرى ، ايموشن ضاحك فيرسل ثانية، ايموشن يدمع ضحكا فيرسل ثلاث صور، فتكتفي بالصمت و تحتفظ بهم في موبايل تجاوز عدد صوره فيه الألف. لم تعد تكفيهم رسالة صباحية أو مسائية، يرسل رسائله وهو يأكل و يقرأ وهي ترسل وهي تشاهد مسلسلها المفضل، وبعد فترة ترك هو القراءة و تركت هي مسلسلها المفضل و اكتفيا بأحاديث الصباح والمساء، اكتفت هي به ولكن هل اكتفى هو؟ خفيف الظل دومًا، يعرف كيف يضحكها في أشد حالاتها كآبة، يوم قالت إنها تكره ذلك الزمن وتتمنى أن تعيش في الماضي؟، طلب منها أن تصحبه في آلة الزمن التي يملكها سألته: – “ستذهب بي لأي زمن؟” بعد تفكير قال: – “سنذهب للثلاثينيات، سنسير سويًا على الكورنيش، نأكل ذرة مشوي” سألته ماذا نرتدي في هذا الزمن، قال: – “انا سأرتدي طربوش” ضحكت وهي تتخيله بطربوش وقالت: – ” انا سأرتدي فستان مثل فاتن حمامة” في عالم الخيال يجلس معها على الكورنيش ويحاول أن يمسك يدها، تسحبها هي بخجل وتقول: – ” لو رآك أبي حكمدار العاصمة الآن لقتلك” فيقول بوقار: – ” لقد قتلتني عيناكِ من قبل ولم أبال” ثم يقول مقلدًا عبد الفتاح القُصري: – ” يا حلو يا لوز” فتضحك من قلبها وتقول بغضب: – “أفسدت على خيالي” لو تعلم أن لتلك الضحكات ثمنا باهظًا ستدفعه يومًا، ما كانت ضحكت أبدًا. لا حسابات عقلانية ولا منطق في علاقتهما، فقط الشغف هو ما يجمعهما، يوم غابت في العمل، كتب رسالة بخط يده، يعبر عن وحدته واشتياقه يقول فيها: – “عزيزتي طال غيابك عني لأكثر من عشرين ساعة، لا أدري ما أقوله عنك ولك، أنت بهجة وزهرة، فيك كل ما يدعو للبهجة والفرح، لا أدري لم في غيابك تهرب مني الكلمات، ادام الله نورك يا أميرة السيدات وسيدة الأميرات” يتسلل داخلها كل يوم ببطء، يدك حصونًا ويبني قلاعًا ويدق رايته بأراضيها، أمام اجتياحه انهارت كل خطوط دفاعها، وانسحبت كل جيوش مقاومتها، وأعلنت استسلامًا غير مشروط. طلبت منه أن تسمع صوته، لم يعرف التردد يومًا، بعد ثواني كانت تسمع ااسمها في رسالة صوتية، سمعت الرسالة أكثر من ألف مرة، تمنت لو تستطع احتضان صوته، تسكبه في قلبها، تضعه سوارًا في معصمها و كحلًا في عينيها، صوته دافئ حنون ولكنه هو ليس كذلك. يراها مختلفة،قوية و جريئة لتقول له بعد غياب أنها تفتقده، ليفاجئها رده الغريب: – “.. شكرًا” عاتبت نفسها على اندفاعها، أرسلت له لتبرير جريمتها وأن الكلمة خانتها وأنها لم تقصد وأنها.. ليأتيها الرد في رسالة منه تقول: – “افتقدتك جدًا” اضافا تلك الكلمة لقاموس علاقتهما فأصبحت عادة أن يقولها صباحًا وتقولها هي مساءًا، و كما أن كل شئ يشمله التغيير ، تحولت كلمة افتقدتك لكلمة أكثر عمقا وحرارة (وحشتيني) لترد هي (وحشتني جدًا) انساقت وراء اندفاعها وجنونها، جرفها التيار بجموح وشدة نحو أرضه، لتمارس معه كل ألوان الجنون، وتلملم في رسائله ما تناثر من عمرها، وتصنع من حكايات يرويها تاريخًا جديدًا، يفاجئها كل يوم بخبر جديد، تلك الليلة قال لها: – “سأحكي لك حدوته قبل النوم” دمعت عيناها حزنًا وهي تقرأ حدوته عن الأميرة التي استيقظت فلم تجد الشمس وطافت بحديقتها تبحث عنها، ودمعت عيناها ضحكًا لما أخبرها أن الأميرة افترشت أرض حديقة القصر لتعد للأمير السندوتشات والشاي باللبن سألته وهي تضحك بتعجب: – “هل الأميرات يفترشن الأرض ويأكلن سندوتشات؟” أرسلت له ايموشن غاضب وهي تقول:- أفسدت على رومانسيتي” أرسل هو ايموشن يضحك وقال: – ” الرومانسية لا تجوز على معدة خاوية” بعد ان أطفأ ضوء لمبته الخضراء أرسلت له رسالة تقول؛ – ” أشكرك كثيرًا لأنك حولتني لفتاة بلهاء، سعيدة متوهجة، تبتسم طوال الوقت وتضحك لأتفه الأشياء، جعلتني أحب اسمي وأطرب لسماعه، انتظر الحدوته كطفلة لم يمر من أمامها قطار العمر ، أشكرك لأنك خلقت لحياتي معنى ولأني اكتشفت نفسي معك من جديد، أشكرك على وجودك في حياتي” كيف نمنح ثقتنا لحروف صامتة، كيف يغزونا الحب ويرتعش القلب ويرتجف البدن وتستعر فينا الرغبة من بضعة حروف، لم يلتقيا يوما، لم يتحادثا هاتفيا، ليس بينهما سوي الحروف وصوت لوحة المفاتيح وبعضا من الخيال، و لكن تملكها تلك الليلة شعور ساحر حلق بها في سماوات من العشق و اللهفة، حين قال:- نذهب سويًا في نزهة، سنسهر طوال الليل في الحدائق، والبدر يضئ لنا، لا نحتاج سوى ضوء البدر ووجهك، ننتظر حتى الفجر، حين يحتضن الندي أوراق الشجر، في الفجر نستلقي على شاطئ النيل، ننظر للسماء وكل منا يودع السماء أمنيته، سأحملك حتى لا تبتل قدمك وإذا شعرت بالبرد سأمنحك معطفي ليدفئك ” تملكهاعشق مجنون شعرت أنها على وشك السقوط، ابتهلت لله أن يزيح عنها كربة ذلك العشق ولكن الله لم يستجب، كفراشة ترقص رقصة الموت الأخيرة حول اللهب وفي أشد حالات اليأس حظرته من هاتفها. تسلل في رسالة يقول إنه لا يريد أن يفقدها، وإنه يعتز بصداقتها دومًا. سألته بحزن: – “لماذا تتمسك بصداقتي، لماذا لا تتركني أتداوى منك، أخشى عذاب يوم تتركني فيه وحيدة” في الحب تقتلنا الغيرة في اليوم ألف مرة و تحيينا كلمة تطمئننا. قررت أن تبحث عنه عند الأخريات، الشكوك تقتلها مع كل تعليق يكتبه لإحداهن، بدايتهما كانت بتعليق، ثم رسالة، ثم علاقة ثم احتراق، كم كانت فراشاته كثيرات، يطاردهن بتعليقات تشبهه وتشبه تعليقاته السابقة لمنشوراتها، تسأله فيجيبها انهم أصدقاء، تسأله عن نوعية تلك الصداقة، فتقتلها إجابته: – “أصدقاء عادي ” في البداية كان هو الفعل والفاعل، يمسك الدفة والزمام، اليوم لماذا يكتفي بتحية صباحية وبضع كلمات، يغيب طوال اليوم، ويحييها مساءًا على استعجال متعللًا بالنوم، تستيقظ فجرًا لتجد ضوءه الأخضر مازال مضاء، هل نجح في اصطياد فراشة جديدة، هل هو في بداية علاقة، ما أجمل البدايات، متعة الاكتشاف لديه تفوق كل متعة، توسلت لله أن يكشف لها غيب قلبه، أن يزيل حجبه لتعرف أين هي منه، تتباعد رسائله يومًا بعد يوم ، يتركها تتسرب من بين يديه، أدركت أن طريقهما لن يتقاطع أبدًا، خطوطهما ستظل متوازية على الدوام ، قررت الابتعاد وإنقاذ ما تبقى لها من كرامة، بعد ان تيقنت من وجود فراشه جديدة تطوف في محراب ضوئه، استدعت كل قواميس الوجع والكبرياء في رسالة، حملت له جرحًا لا يبرد و لا يتبخر، لم تحظره من حسابها، كراهيتها دفعتها أن تدع له الفرصة ليبرر ويعتذر وهي تبتسم في صمت، لم تعد من السذاجة أن تصدق اعتذاراته الواهية، لن يستطيع خداعها للمرة الألف، و يذيل عبارات الاعتذار بكلمته الشهيرة:- “ربنا يديم الصداقة بيننا” وهل كانت بينهما صداقة ،كان هو طوال الوقت يستدرجها ويستمتع بعلاقة ليس لها مسمى، يستمتع بغبائها و نرجسيته، تسعده كلمات الحب والاشتياق، يهوى مطاردة الفراشات حتى إذا التفت حول ضوئه الأخضر يراقبها بصبر وهي تحترق ببطء. اكتشفت أنه للمرة الثانية يحولها لبلهاء ولكن هذه المرة حولها لفتاة بلهاء معتمة بائسة، دامعة حزينة، تتعاطى اليأس صباحًا ومساء، تبتهل لله أن تذيقه فتاة أخرى مُر ما ذاقت، أن تنتقم منه سواها، فهي أضعف من أن تملك القدرة على الانتقام، ربما لم تتعاف منه و لكنها ستفعل يومًا، ستكف عن مراقبة ضوئه الاخضر، ستدعه لمغامراته وفتوحاته وترحل، ستسمع يومًا أخبار هزيمته، ربما حينها تبتسم في أسى وتدعو الله له بالصبر لعل الله يستجيب.
مشاركة :