ما زالت الخطابات السياسية العربية المهيمنة أسيرة مفاهيمها التقليدية، العتيقة والإنشائية والعاطفية، في تناولها للسياسة، وبالأخص منها قضايا الصراع الدولي وأدواته وغاياته، وضمن ذلك ما يتعلق بالصراع الجاري على الشرق الأوسط، كأنها غير قادرة على استيعاب ما يجري حولها، بالرغم من مرور حوالي ثمانية عقود على حصول غالبية البلدان العربية على استقلالها وتحكمها بإدارة شؤونها، وغرقها في مشاكلها الداخلية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء عالم الحرب الباردة، وتسارع مسارات العولمة، والتحول في عناصر القوة على صعيد العلاقات الدولية، بتنامي دور العلم والتكنولوجيا والقدرات الاقتصادية، على حساب العناصر التقليدية المتمثلة بمساحة الدول وعدد السكان، وثرواتها الطبيعية والقدرة العسكرية. هكذا ثمة في الخطابات السائدة تفسير لكل موقف أو حركة بعقلية المؤامرة، أو الخطة خارجية، التي تقودها الإمبريالية أو الصهيونية أو كلاهما معا، للحؤول دون التقدم والوحدة والتحرر في المنطقة العربية. وتفيد التجربة بأن معظم الخطابات السياسية، الإنشائية والعاطفية، الصاخبة، في العقود السابقة، لم تفد في فهم تردي الواقع العربي، بقدر ما أشاعت قدرا عاليا من الإحباط والانفصام في الوعي، فضلا عن أنها لم تقدم شيئا في إدراك أسباب استمرار البني والعلاقات والمفاهيم التي تنتج هذا الواقع المتردّي، بالنظر لاستمرائها إحالة حال العجز والتخلف وضعف الإرادة إلى العامل الخارجي، في حجب واضح للمشكلات العضوية النابعة من الواقع العربي ذاته. نجم عن ذلك استغراق التفكير السياسي العربي، طوال القرن الماضي، في الشعارات والمقولات العامة دون درس تمثلها في الواقع على مستوى الأنظمة والمجتمعات، بل إنه ظهر، في أحيان كثيرة، على الضد من «ثوريته» أو «طهريته» الظاهرتين، فكرا مراوغا ومتواطئا، مع الواقع الذي يزعم تغييره، إن بتبريره، أو بهروبه منه إلى الأمام، بدفع من تحيزات السياسة والقوة التي تستغلها المؤسسات المسيطرة. هكذا، مثلا، جرى تكرار الحديث عن ضرورة التكامل الاقتصادي والوحدة العربية لمواجهة العدو الصهيوني، أو لمواجهة مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية والعولمة، دون تمييز معرفي (سياسي وتاريخي) بين هذه المفاهيم، بحيث يجري رفضها وإدانتها، باعتبارها مفروضة من الخارج، للسيطرة على العرب والحاقهم سياسيا واقتصاديا، لصالح الصهيونية والإمبريالية، في حين أن الصين (وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية…) استثمرت جيدا في العولمة واستطاعت النهوض بأوضاعها، والتحول إلى قطب فاعل في العلاقات الدولية. وما ينبغي طرحه هنا ليس مشروعية التوحد، وضرورته، باعتبار المرحلة الراهنة هي مرحلة التكتلات الكبرى، وليس رفض المشاريع الخارجية من عدم ذلك، وإنما المطروح هو: لماذا لم يستطع العرب التوصل لأدنى أشكال التوحد حتى الآن؟ وهل رغبوا في ذلك فعلا؟ في وقت نشهد فيه أن تنقل المواطنين بين البلدان العربية أصعب بكثير من تنقلهم بين بلدان أوروبا، وحتى أصعب بكثير من تنقل المواطنين الأجانب في البلدان العربية، ومستوى التبادل التجاري بين الأقطار العربية، ظل طوال نصف القرن الماضي لا يتجاوز 8 ـ 10% من حجم التجارة العربية، أما الموجودات المالية في الخارج وهي كثيرة جدى فلا يستثمر منها في البلدان العربية سوى القليل. من جهة ثانية فإن الخطابات السائدة لا تتحدث عن مشروعية وضرورة مشروعات التكامل والتنسيق والوحدة بين الأقطار العربية إلا باعتبارها ضرورة من ضرورات الصراع والمواجهة (ضد إسرائيل والهيمنة الغربية)، في حين أن هذه المشروعات ضرورية لهذه البلدان من أجل إطلاق عمليات التحديث والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي أنها ضرورية للمواطنين وللدول، في آن معا، بوجود الصراع مع إسرائيل ومن دونه أيضا، مثلما هي ضرورية في ظروف العولمة أو من دونها. بخصوص الصراع ضد إسرائيل، بدت الخطابات العربية مفعمة بالروح الشعاراتية الحماسية، ومنفصمة عن الواقع، في الحرب وفي التسوية معها، في حين تبين بأن العرب لا يملكون سوى إبداء مشاعر الغضب والإحباط وطرح الشعارات إزاء عدوهم. فهم، مثلا، يستوعبون عدم قدرتهم على محاربة إسرائيل لكنهم لا يريدون تحمل تبعات السلام معها، أو يريدون السلام معها، لتجنّب تبعات العداء لها، ولكنهم لا يستطيعون فرض السلام عليها أو حتى إقناعها بالسلام معهم؛ على نحو ما حصل في “المبادرة العربية للسلام، إبان القمة العربية في بيروت (2002)! ويبدو هذا الاضطراب في تفاوت التعاطي مع القضية الفلسطينية التي تبدو أحيانا عبئا على الوضع العربي وأحيانا مجرد يافطة يجري توظيفها، في حين يبدو الشعب الفلسطيني في معظم الأحوال عبئا أو مجرد حالة سياسية وأمنية! أما الحديث عن المقاومة فبات لازمة شعاراتية، أو للاستهلاك أو الابتزاز أو المزايدة، أكثر منه ممارسة كفاحية. في مسألة الديمقراطية فإن الخطاب العربي السائد ركز على رفضها بدعوى عدم نضج الظروف في التربة العربية، أو بدعوى انها بدعة خارجية، وأيضا بدعوى محاولات الأميركية فرضها بالقوة والقسر، في واقع تبدو فيه المجتمعات العربية أحوج ما تكون إلى ظرف تتعلم فيه الديمقراطية، وإلى شرط تتمكن عبره من إيجاد وتطوير ديمقراطيتها، لتحقيق التكافؤ بين الحاكم والمحكوم في دولة مواطنين، وتعزيز مكانتها إزاء العالم. وبالنسبة لمعارضة الانفتاح الاقتصادي، أو معارضة الليبرالية الاقتصادية، والعولمة فهي تبدو، بدورها، نكتة سمجة في واقع ينتج المنفتحين والفاسدين، كما الليبرالية المتوحشة، وهو واقع لا يمكن فيه التفريق بين النهب الداخلي والخارجي، بالنسبة لمجتمع يعاني من الطفيليين ومن هدر الثروات الوطنية، ومن الفقر والبطالة والنزعة للهجرة. أما على الجهة المقابلة، فإن الخطابات العربية الجادة، التي عالجت الواقع العربي من داخل بناه وعلاقاته ومفاهيمه، مازالت تعاني من نكوص الفكر وتأزم مسارات الحداثة وثقل البني التقليدية، في البلدان العربية. يفاقم من هذه الحال ضمور مؤسسة الدولة وطغيان السلطة، وتغييب المجتمعات، وانصراف الناس عن الاهتمام بالشأن العام، وانشغالهم بهمومهم الحياتية اليومية، في ظل تنامي نسبة الفقر وتدني مستوى الخدمات الأساسية، من التعليم إلى الصحة والسكن والعمل والبني التحتية، وكل ذلك مع تزايد نسبة الأمية وضعف الميل للمطالعة وانتشار «الثقافة التلفزيونية»، والقيم الاستهلاكية.
مشاركة :