د. عبدالله الغذامي يكتب: العمامة زيادة في القامة

  • 8/19/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تعلَّم الإنسان أن يضيف لقامته الجسدية وقامته المعنوية ما يرفعه عن واقعه الظرفي، إما بالتزود في العلم والمال أو التزود المعنوي، ومنذ البدء، كان الخطيب يتعمم بعمامة ويصعد على مكان مرتفع يرفعه عن بقية قومه الذين سيصطفون لسماعه، ويضيف لذلك العصا، وهذه مادة الصنعة وأدواتها لدرجة أنهم يروون عن سحبان حين طُلِب منه أن يخطب، فقال لهم احضروا لي عصا وحين احضروا له العصا هش بها يمنةً فيسرةً، ولكنه لم يجد فيها ما يلهمه القول، فأمر بإرسال مرسولٍ يحضر له عصاه من بيته وحين حضرت عصاه أمسك بها فانطلق لسانه وخطب كما يرغب ويرغب الجمع منه أن يخطب، وكذلك كان الشاعر يتوسم بعلامات تميزه وتحيل إليه وتُعرّف به وسط الزحام ومنها قول طريف العنبري: أَوَ كلمـا وردتْ عكــاظ قبيــلةٌ بعثــــــــوا إلــــيّ عريفهـــــم يتوســـمُ فتـوسمـونــي أننـي أنـا ذاكــمُ شاكٍ سلاحي في الحوادث معلمُ وأسماء الشعراء تحيل إلى بعض من هذه السيميائيات مثل المقنع الكندي و«ذو الرمة»، والرمة قطعة قماش عتيقة تلتصق به، وكذلك علامات الفرسان في المعارك، حيث يضع الفارس علامة تميزه عن غيره ومنها عمائم حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب. على أن العمامة بوصفها زيادةً في القامة، كما هو وصفها لدى الجاحظ تحيل لمنزلة القامة والقوة الجسدية لتكون سنداً يسند الكلام، ويمنحه برهنةً إضافيةً تسندها بلاغة القول، والقول نفسه يتعمم بعمامة من البلاغة، وفصاحة القول وقوة المنطق، نطقاً بالتلفظ ومنطقاً بالحجج. وهذه كلها أدوات حسيةٌ وقيمية تجعل اللغة تحتفل «علاماتياً» كما تحتفل بلاغياً، وحين جاء اختراع مكبرات الصوت أصبح المخترع قوةً إضافية تجعل حتى الصوت الضعيف قوياً ومدوياً ويصل لأقصى مدى يمكن للصوت أن يترحل فيه، وعبره تتحول الجمل البلاغية إلى قوة صوتية مزمجرة وكأنها صهيل الخيول في معارك الملاحم الكبرى، وهذه كلها حيلٌ اصطناعية اصطنعها الإنسان لكي يزيد من قامته ومقامه مما يجعل الصورة والصوت خطاباً يوازي خطاب اللغة وقوة بيانها، والبيان يحتاج للإنسان بوصفه وسيلة لنشر البيان، والإنسان من جهة أخرى يحتاج للعمامة لتزيد فاعلية بيانه، وستتمدد العمامة لتتحول لصيغ لا تحصى تقوم بالوظيفة نفسها، فنحن نشاهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي صيغاً للعمامة بصيغتها الحداثية، ومنه فلاتر الصور التي تعدل صور الوجوه وتخرجها بصيغ تلائم حال الخطاب، ومثلها المؤثرات الصوتية والمناظر الجانبية والخلفية، وكلها صيغ تعيد صياغة خطيب العمامة والمنبر والعصا ليظهر الخطيب العصري فيضع نفسه/ نفسها في دوائر المؤثرات التي تضيف لخصائص الصوت والجسد خصائص أخرى مستضافةً لتعطي الصيغة المتوخاة من الحدث الصوتي والبصري.

مشاركة :