'زمن الأحجار' بين أوكرانيا وأفريقيا

  • 8/22/2023
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

في رواية "زمن الأحجار المتناثرة" يأخذنا الكاتب الأوكراني فولوديمير سامويلينكو إلى الماضي المُضطرب حيث تسعينيات القرن العشرين، وتلك الفوضى العارمة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي واستمرت لأكثر من عقد من الزمان. وتدور أحداث الرواية حول شخصية "أنطون" وهو المؤرخ الأكاديمي والناشر الناجح الذي يقطن بالعاصمة الأوكرانية كييف، وصديقه "أندريه" الذي هاجر إلى إحدى الدول الأفريقية ولكنه اتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا عن صديقه حيث استغل حالة الفساد والرشوة والغش ليتسلق سلم السلطة. الرواية التي ترجمها من الأوكرانية الكاتب اللبناني عماد الدين رائف وصدرت عن دار صفصافة تحكي عن الصداقات المبكرة التي ترتبط منذ الطفولة المبكرة، والتي لم تنقطع أوصالها حتى وإن باعدت بينهما السبل، والأهواء، تحكي عن زمان ومكان باتا مركزان للعالم، وتصف خريطة الأحوال "الأنثروبولوجية" لذلك البلد العريق "أوكرانيا" الذي لم نعرف عنه شيئا، حيث لج الماضي المضطرب، والتغيرات الجارفة لأحداث القرن العشرين، كشفت عن فوضى عارمة متعددة في مختلف الصعد والتبعات قبل وبعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، بقيت النزاعات محتدمة عليها حتى يومنا هذا، كونه بات مركزا للعالم بفضل موقعه الجغرافي حيث حوى ذات منشأة نووية عدة من بين أكبر الإنشاءات النووية في العالم. يعود الكاتب فولوديمير المولود في كييف العام 1963، ليستعرض تلك الأحداث الجسيمة التي حدثت للبلاد، ويرويها في يوم واحد، بواسطة شخصيتين صديقين هما "أنطون وأندريه" لنعيش ما بين أفريقيا والصديق الأوكراني بعلاقاته الممتدة واستثماراته هناك، وما بين أوكرانيا وعالمها الأدبي وناشري الكتب والصديق الناقد، حيث ينتقل الروائي بين عالمي أفريقيا وأوكرانيا بكل مهارة، لتتشابك الحكاية بإحكام في النهاية. رواية مدهشة تعالج أسئلة مثل الصداقة والقيم وقوة المضي الشبحية. تسير الرواية ببراعة في سرد متواز، خطان متوازيان تظن أنهما لن يتقاطعا، ثم تظل منتظرا بفضول لحظة التلاقي.. الأصدقاء وزملاء الدراسة والأعداء. حقائق مضحكة وأحيانا أحداث مأساوية تنطلق من الماضي. مغامرات مجنونة، عواطف، خيانات.. ومن يدري كيف سيكون لقاء الصديقين القديمين بعد سنوات طويلة من الفراق؟ ما الذي سيحدث؟ هل هو وقت لإعادة جمع أحجار متناثرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين سوف يبحثان عن هذه الأحجار؟ في الوطن أو في الغربة؟ في الحاضر أو في المستقبل؟. مقتطف من الرواية أندريه كانت زيارة أوكرانيا قد شارفت على نهايتها. كانت فيها نشاطات أكثر من الزيارة الأخيرة قبل عام ونصف العام. تعامل مارميديوك ببراعة مع افتتاح المعرض، وحفل الكوكتيل والمؤتمر الصحافي. امتعض بالطبع حين عرف أن أندريه لن يحضر أيًّا من النشاطات العامة المخطط لها. ومع ذلك، لم تتغير تعابير وجهه. لم يكن تدريب الجنرال توند عبثيًّا. لم تصدر عنه أي ردة فعل حين أعلن بازيف أنه سيختفي ليوم ونصف اليوم، ويظهر قبل المغادرة مباشرة. كان يعرف نبرة صوته بما فيه الكفاية، ففهم أنه لا جدوى من رفضه أو تقديم المشورة له. تمكن إلى حد كبير من تجنب الاتصالات غير المرغوب فيها، والتي تتضمن التهجم والتذمر والعروض التجارية المبطنة. أنفذ كل شيء كما خطط له؟ سيكتشف ذلك في الوطن. سرعان ما أصبحت أفريقيا موطنًا له في غضون خمس سنوات! أهي فترة قصيرة؟ لم يلتق بأنطون فقط. خطر له أن يزور العزبة بلا سابق إنذار، لكونه كان يعرف المكان جيدًا، لكن قيل له إنه لن يجد هناك سوى ناتالكا والطفل، ولم يرغب أندريه في الالتقاء بها دون زوجها الجديد. لم يلبِّ أنطون دعوة من أحد. كان من الممكن مداهمته على حين غرة في مكان ما، لكن أندريه لم يرغب في ذلك أيضًا. بقي خيار الاتصال الهاتفي، لكن استثنى هذا الخيار أيضًا. حل سلام غريب على أندريه. أتاه نتيجة شعور بأن كل شيء قد تم كما ينبغي، وقد فعل كل شيء بالفعل. في نهاية الزيارة، فكر أن بإمكانه تدليل نفسه بقفزة على "الجناح"، خاصة أنه حصل على معلومات حول مكان القيام بذلك. يحتاج فقط إلى تنظيم كل شيء جيدًا حتى لا يتسبب بدعاية واهتمام غير ضروريين بشخصه. وعرف كيف وثق أندريه في مصيره، وبأن القدر يخبئ له مفاجآت جديدة، وأن هذه الصفحة من حياته تكاد تُقلب. كان يعلم أن وقتًا جديدًا على وشك أن يأتي. لكن وقت ماذا؟ أنطون - يا للشيطان! ما الذي تفعله هنا؟ أم أن هذه المنظمة لك وأتباعها يعملون لديك؟ لماذا تحتاج إليها؟ لقد بدا حقًّا مندهشًا جدًّا: - أنطون؟ كيف وصلت إلى هنا؟ عن أي منظمة وأي أتباع؟ ماذا تقول؟ أأنت ثمل؟ - ماذا ترتدي ألديك حفلة تنكرية؟ - أي حفلة تنكرية؟ هذا زي نادي الطيران "تشيهيرينسكي"، هنا، خلف الجبل. انتهى عملي في أوكرانيا، سيكون من الحماقة أن أحرم نفسي من متعة القفز بالمظلة، خاصة مع الجناح. كنت قد حددت مساري قبل الانطلاق وأخطأت في الحسابات قليلًا، وبالتالي انجرفت إلى هذه الغابة. ما الذي تفعله هنا؟ - لا تفتح عينيك بدهشة ولا تكن سخيفًا. هل كنت تبحث عني؟ عرفت على الفور أنك وراء كل هذا. تزج بأنفك الخبيث المتعجرف في كل الشقوق. قل لي لماذا؟ هل هذا انتقام من ناتالكا؟ - يا الله، لم لا تفهم شيئًا! -زفر في وجهي– لا شأن لناتالكا إطلاقًا. أحببتها، لكن علاقتنا انتهت، ولا أحد يستحق أن يكون سعيدًا أكثر منها، ويمكنها أن تكون سعيدة معك فقط، أو مع شخص مثلك. لا شأن لناتالكا أبدًا. - ماذا بعد؟ أنت تفهم أنك دمرتني. لقد دمرت كل ما كنت أسعى إليه طوال حياتي، وشطبت مسيرتي العلمية بضربة واحدة، وأغلقت كل المسارات أمامي. أنا مستعد لقتلك، أنا أكرهك كثيرًا. التقطتُ أنفاسي. غمرت موجة ساخنة مجنونة عقلي وعيني، وارتعدتُ وارتجفت يداي، ربما كانتا تبحثان عن حجر. - أنت لا تفهم. لا تفهم أي شيء على الإطلاق. لقد فتحت هذه الطرق أمامك. عملك ما كان ليصل إلى تلك المجلة من دوني. هل تفهم؟ على الأقل هي إحدى المجلات العلمية التاريخية العالمية الرائدة والأفضل؟ من يستطيع من بين آلاف العلماء أن ينشر مقالة فيها؟ أهكذا تبادرني! - أوه، أهذا اعتراف؟ ماذا أفهم؟ أتفهم هذا أيها الثعبان؟ يا له من اعتراف، أنا لم أكتب ذلك المقال! لقد قتلتني! هدني الإعياء، شهقت الهواء، اختفى صوتي. - اهدأ، ودعنا نكتشف ذلك. أنت لا تفهم بالضبط. كان لدي فريق كامل عمل من أجلك. لقد عملوا بدقة وعناية. - فريق؟ - قلت بهدوء متفاجئًا. - نعم، قام العديد من المؤرخين المحترفين، والإخصائيين النفسيين، بتجميع ملفك الشخصي النفسي، وقد عاونهم المحللون بمؤازرة ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية. درسوا جميع أعمالك وحللوها بالتفصيل، وقد غطوا جميع الاتجاهات، وجميع الأدلة وأخذوا جميع الاستنتاجات في الاعتبار، ودرسوا أسلوبك وطريقة كتابتك. هذا كله من عملك. كل شيء منك. وكل ما فعلناه أننا ذهبنا إلى أبعد من ذلك بقليل. كنت لتصل إلى كل شيء بنفسك، لاحقًا فقط، ربما في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. - لكن كيف تقول، أيها الوغد، كنت سأصل إلى الشيء نفسه، لماذا كل هذا؟ - ما الذي لا تفهمه حقًّا؟ الزمن! ستضيع وقتك! وهذه الألغاز من الحيثيين، تمكنوا من كشف وإثبات كل شيء بشكل جميل للغاية، وكان من الممكن أن يصل إليها شخص آخر! ألا تعلم؟ هذا الفريق العلمي الدولي كله كان يتنفس في رأسك؟ ما الخطأ في تمكينك من زيارة حاتوسا طالما كنت بحاجة إليها، وستمكنك الزيارة من التوصل إلى كل ما هو جديد، وتيسير الوصول إلى الأرشيفات الضرورية، وتذليل آلاف العقبات الصغيرة المستحيلة؟ - أرى أنك أصبحت متمرسًا في العلوم الحيثية؟ - عاد صوتي تدريجيًّا، وامتدت يدي لتضغط على حجر. - الحياة أجبرتني. بالمناسبة، الأمر مثير للاهتمام حقًّا وكل تلك الألغاز تكلف المال والوقت. هل رأيت أنه بفضل قراءتك ومقارناتك مع اللغة السلافية القديمة، حُلت بعض المشكلات على الأقل؟ إن هذه خطوة حقيقية إلى الأمام في طليعة العلماء في هذا المجال. ربما قرأت أن الأستاذ جونز، بفضل مقالتك، تمكن من إلقاء الضوء على المكان، فقصده بعد مغادرتك حاتوسا، وقد وجد أدلة لدعم استنتاجاتك؟ علمي وصادق تمامًا. - وكيف استطاع أن يفعل ذلك؟ - جونز مدمن كحول قديم. كان إغراؤه بالمنحة وتحديد الأولويات بشكل صحيح وتحديد المطلوب كافيًا. ليس هناك ذرة اختراع أو تزوير، كل الاكتشافات حقيقية، هذا طريقك ومجدك! وأنا لم أفعل شيئًا سوى المساعدة. - المساعدة؟ حتى لو كان الأمر كذلك، ففي "حولية العلوم التاريخية" ليس من الممكن نشر مثل هذه المقالة، مهما كانت رائعة. إنهم حريصون، سيخافون من نشره. أدفعت رشوة؟ - هل أنت مجنون؟ المجلة لا تصدر في أوكرانيا ولا حتى في أفريقيا! أي رشوة؟ المقال من الدرجة الأولى، كل شيء مؤكد، اسمك معروف. مرت على ستة من أشد المراجعين، وصمد أمام موجة من النقاش. - تحدث عن ذلك أكثر. أعرف الكثير من السوابق ومقالات أثقل بكثير من باحثين معروفين. خفت صوت بازيف قليلًا. - حسنًا، من وقت لآخر، نلتقي أنا واللورد إيفانز في رحلات الصيد وقد حل ضيفًا علي، كما تعلم هو رئيس هيئة التحرير. ألمحت إليه في البداية فقط، وأعربت عن اهتمامي بالعلوم الحيثية، ولفت انتباهه إلى هذا الموضوع.  - قل لي لماذا فعلت ذلك؟ ما هو الخطأ الذي ارتكبته بحقك كي تقرر مصيري عني؟ هل تشعر بالملل في أفريقيا؟ ألا يوجد شيء لتفعله؟ أليست لديك أي مشاغل أخرى؟ ما الخطأ الذي فعلته؟ - أأنت أحمق! كنت أبحث عنك طوال زيارتي. كنت في انتظارك في جميع مناسباتي، وأنت وحدك لا تريد أن تراني. كل معارفنا يركضون ورائي مثل الكلاب، الجميع بحاجة إلى المزيد والمزيد، الجميع يبحث عن طرق للتواصل معي على الأقل لمدة دقيقة، وأنت فقط تتجنبني! فتحت لك الطريق، ودعمت قضيتك، وأعطيتك دفعة. أأنت غبي كي ترفض المزيد من البحث، وتغير مجال الاهتمامات العلمية! ألم يحن الوقت لترك التاريخ! ألا يكفيك ما هدرته من الوقت في العمل مثل العتالين، ألا تعرف؟ حاولت الاقتراب ببطء من أندريه، لكنني كنت جامدًا كشجرة. - ماذا؟ لست أعمل وحيدًا هكذا؟ - أتعتقد؟ لقد رأيتُ العالم، والتقيت بالناس، تعرفت إلى كل التطلعات والأفعال البشرية المتنوعة تقريبًا، وتوصلت إلى استنتاج مفاده أنه لا يوجد شيء أفضل من شلة أصدقاء الدراسة. لماذا يجب على أصدقائي، وهم الأفضل والأكثر موهبة وتنوعًا أن يتغاضوا عن إمكانية تحقيق ذواتهم؟ لم أكن أنا من حدد طريقهم، لقد اختاروه بأنفسهم وحققوا الكثير، ولكن لم تكن لديهم أجنحة تخولهم للقفز من مستنقعهم! لقد كنت أنا، أندريه بازيف، من دفع كل واحد منكم إلى الأمام قليلًا. قوة إضافية في طريقكم. وأنت وحدك لاحظت هذا، لأن الأمر معك كان أكثر صعوبة. قبِل الجميع بكل شيء من دون اعتراض. لم ينتبهوا. آمنوا بموهبتهم. كانوا سعداء واستمروا في طريقهم. وهم يرغبون بالمزيد ويطلبون المزيد. - جميعهم حقًّا؟ قال بازيف في نفسه: - حسنًا، ليس كلهم. إيغور رياضي، ولا يدين بكل انتصاراته إلا لنفسه وإنكاره لذاته وتفانيه. على الرغم من الفساد الهائل في مؤسساتنا الرياضية وفي العالم، إلا أنني لا أستطيع مساعدته على الإطلاق، وهو لا يحتاج إلى أي شيء، فهو بطل أوروبا. وهكذا. هذا كل شيء. أنت فقط تقاوم. أيجب أن أشكرك! - من أنت كي تتظاهر بأنك الرب؟ أأشكرك لأنك تؤلف الأقدار. كما تعلم، إذا كنت قد أصبحت بالفعل متخصصًا في الحيثيات، فتذكر أسطورة الثعبان هدام: "كل خير يقابله أجر". اقتربت منه وضربته. ترنح أندريه وسقط على الأرض. سقط الحجر من يدي وضاع في فوضى الأحجار الأخرى المتناثرة على طول الطريق، وعلقت نظرتي على القرص الباهت فوق وسام النجمة الزرقاء على صدري.

مشاركة :