باتت إسرائيل تواجه وضعا حرجا، على صعيد علاقاتها الدولية، لم يسبق أن واجهته في مرحلة من تاريخها، إذ باتت تخسر كثيرا، من مكانتها وسمعتها، على الصعيد الخارجي، لدرجة أن الصورة، التي طالما دأبت على ترويجها عن نفسها، باعتبارها واحة للحداثة والديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط، وباعتبارها ضحية يتهددها محيطها العربي المسلم، بهتت أو انحسرت. وبدلا من هذه الصورة المخادعة فقد أميط اللثام عن إسرائيل، التي باتت تظهر على حقيقتها، بوصفها دولة دينية أصولية في عالم يناهض الأصوليات الدينية المتطرفة، ودولة مارقة تستهتر بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، ودولة استعمارية وعنصرية وقهرية، تحتل أراضي الفلسطينيين، وتمارس ضدهم إجراءات تمييزية، وتسيطر عليهم بوسائل القوة والقسر. الحاصل أن إسرائيل، في هذه المرحلة، تكاد تكون فقدت مكانتها كابن مدلل للغرب، الذي تعتبر نفسها جزءًا منه، وامتدادًا له في الشرق الأوسط، إذ باتت أكثر انتقادات الغرب (حكومات ومجتمعات ومنظمات مجتمع مدني) توجه إليها (طبعا بعد إيران)، وذلك بعد أن أضحى الغرب يرى فيها عبئا أخلاقيا وسياسيا وأمنيا عليه؛ بسبب سياسات العدوان والعنصرية والغطرسة التي تنتهجها، ضد الفلسطينيين خصوصا، وفي الشرق الأوسط عموما، وبسبب التداعيات السلبية الناجمة عن ذلك على الدول الغربية ومصالحها في المنطقة. ويلخّص شالوم يروشالمي هذا الوضع على النحو التالي: “في حديث مع دبلوماسية بريطانية كبيرة الأسبوع الماضي اتضحت عدة أمور.. كراهية إسرائيل في العالم هذه الأيام هي في مستويات جنونية.. “أنتم تبصقون علينا جميعا”، قالت الدبلوماسية وتطرقت إلى مواصلة البناء في المستوطنات..”دولتكم لا تطاق، عنصرية وتسلب الفلسطينيين أراضيهم في كل مكان.. الاستيطان كله غير قانوني”.. الحرب في غزة هي نقطة انعطاف. الصور من هناك شوّهت إسرائيل في نظر الشعوب.. رجال الأسرة الدولية يسمحون لأنفسهم باستخدام تعابير لم يتجرؤوا على اتخاذها في الماضي.. اليوم هم يتحدثون عن جرائم حرب.. جرائم ضد الإنسانية.. تطهير عرقي في المستوطنات وفي البؤر الاستيطانية التي لا يخليها أحد، يتحدثون عن واجب العالم لتقديم الوزراء في الدولة وضباط الجيش الإسرائيلي إلى المحاكمة.” (معاريف 5/10/2009) وكما قدمنا، فإن صورة إسرائيل في الغرب تغيرت كثيرا، إذ أن الدعاية عنها كدولة ديمقراطية حديثة، استهلكت وتبددت بواقع السياسات الاستعمارية والعنصرية، وبواقع مطالبة إسرائيل حتى بالاعتراف بها كدولة يهودية/دينية، وبواقع تملصها من عملية التسوية وممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين. معلوم أن أحداث الانتفاضة الأولى (انتفاضة أطفال الحجارة 1987ـ1993)، وقيام إسرائيل بشن هجمات عسكرية همجية على الفلسطينيين، ومحاصرتها لهم، منذ عام 2002، وصولا إلى الحرب التي شنتها مؤخرا على قطاع غزة، أسهمت كلها في حفر مسار هذا التحول النوعي في الرأي العام الغربي إزاء إسرائيل. ويجدر بنا هنا التذكير بنتائج استطلاع للرأي نظمته المفوضية الأوروبية، قبل سنوات قليلة، وبيّن أن غالبية الأوروبيين يعتبرون إسرائيل خطرا على السلام العالمي (هولندا 74%، ألمانيا 65%، بريطانيا 60%، فرنسا 55%). والأهم أن إسرائيل في هذا الاستطلاع تقدمت على إيران وكوريا الشمالية والولايات المتحدة وأفغانستان، في تهديد السلام العالمي. وبرغم أن إسرائيل تعتبر نفسها مدينة لأوروبا في نشوئها واستقرارها فإن رد فعلها، على التحولات الأوروبية هذه، اتسمت بالتوتر والعجرفة ونكران الجميل. فهي أولاً، رفضت أي دور سياسي لأوروبا في عملية التسوية وفي مجمل الترتيبات الإقليمية الشرق أوسطية. وثانيا، عملت على تسعير الخلافات الأوروبية الأميركية لاسيما المتعلقة بشؤون المنطقة العربية. وثالثا، تعمدت اتهام الأوساط الأوروبية المعارضة لها بـ”اللا سامية” لمجرد أن هذه الأوساط عارضت السياسات التي تنتهجها ضد الفلسطينيين، القائمة على الاحتلال والعنصرية والإرهاب، وهو ما جرى مؤخرا في الأزمة التي اشتعلت بينها وبين كل من السويد والنرويج. وفي كل الأحوال فإن أوروبا حكومات ومجتمعات، باتت تدرك المخاطر الناجمة عن السياسات الإسرائيلية العدوانية والاستعمارية والعنصرية على استقرار مصالحها، وعلى مكانتها في الشرق الأوسط، وهو العامل الأساس الذي يحفزها نحو تحجيم إسرائيل ولجم سياساتها. أيضا، في الولايات المتحدة ذاتها باتت إسرائيل تخسر، كما باتت تجد نفسها في مواجهة انتقادات حادة ومتزايدة، رغم التأييد والدعم اللذين تحظى بهما هناك، إذ باتت في نظر بعض الأوساط أحد مصادر كره العالم العربي للولايات المتحدة، ومن أهم محرضات نشوء جماعات التطرف والإرهاب فيه، وعاملا مهما من عوامل ضعف الاستقرار في هذه المنطقة، بل إنها باتت أيضا من عوامل الخلاف الأوروبي الأميركي. وإذا كانت انتقادات الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل معروفة، فثمة انتقادات حادة وجهها رؤساء أمريكيون سابقون لإسرائيل، مثل جيمي كارتر وجورج بوش (الأب) وباراك أوباما، التي اتهمها كارتر في كتاب له بالعنصرية، وثمة تصريحات عديدة لوزير الخارجية الأميركية الأسبق جيمس بيكر طالب فيها إسرائيل بأن تلزم حدودها، وأن تضع حدًا لأوهام إسرائيل الكبرى، ومعروف في هذا السياق تبرم أوباما من نتنياهو وسياساته. ومن المهم هنا التنويه إلى الدراسة الشهيرة التي وضعها الاختصاصيان في العلوم السياسية جون ميرشايمر وستيفن والت، حول سياسات الإيباك، وضررها على السياسات الأميركية، لصالح إسرائيل (نشرت في “ذي لندن ريفيو أوف بوكس” عام 2006). اللافت أكثر أن انتقاد إسرائيل بدأ يشق طريقه في أوساط النخب اليهودية في العالم أيضا لاسيما في أوروبا وأميركا. فهذه النخب باتت تتبرأ من سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحملها مسؤولية ازدياد نعرة العداء لليهود في العالم، رافضة في ذلك ادعاءات إسرائيل المتعلقة بالمساواة بين أي نقد لها وبين “اللاسامية”، معتبرة أن نقد إسرائيل شرعي، وينسجم مع نقد أي اتجاه عنصري. الأهم من ذلك أن هذه الاتجاهات باتت ترى أن إسرائيل، بسبب سياسات حكامها، دولة تهدّد فيها حياة اليهود لكونهم يهودا أكثر من أي دولة أخرى، وتأخذ على إسرائيل تحولها إلى دولة أصولية متطرفة، وكونها لا تراعي الشرعية الدولية، ولا القيم الإنسانية، بعد أن بات المستوطنون والمتدينون المتطرفون يتحكمون في دفة السياسة فيها، ويبطشون بشعب آخر تحت سمع العالم وبصره. في ذلك عديد من الأسماء مثل هنري سيغمان السياسي الأميركي، وريتشارد فولك مبعوث الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين، والقاضي ريتشارد غولدستون، وثمة غيرهم كثيرون من الأكاديميين الإسرائيليين (مثل إيلان بابيه، وغرشون شافير، وافي شلايم، وإيلا شوحط) الذين حضوا الجامعات الغربية على مقاطعة الجامعات الإسرائيلية. ويستنتج من ذلك أن دولة إسرائيل لم تعد في نظر قطاعات من يهود العالم موضع ثقة بالنسبة لهم، لا سيما أن هذا الأمر بات يضعف من مكانة هؤلاء في أوطانهم، وأن هذا التدهور في مكانة إسرائيل يؤكد حقيقة أساسية مفادها أن إسرائيل تخسر بالرغم من إحساسها بالربح الناجم عن القوة وشعور الغطرسة والتفوق. الآن، لا يمكن الركون فقط إلى خسارة إسرائيل، على الصعيد الدولي، وفي المعركة على الرأي العام، إذ أن خسارتها لا تعني أن الطرف المقابل بالضرورة يحقق نجاحات، ذلك أن نجاح العرب أو الفلسطينيين خصوصا في معركتهم ضد إسرائيل يتطلب تعزيز التضامن بينهم، وإعادة ترتيبهم لأوضاعهم الداخلية، وتحسين إدارتهم لصراعهم مع إسرائيل، كما يتطلب منهم أصلا القدرة على استثمار الخسارة الإسرائيلية.
مشاركة :