أدى الإغلاق العام العالمي من جراء كوفيد - 19، إلى الدخول في تجربة غير مسبوقة، فاضطر الملايين من أصحاب المهن المتخصصة إلى البقاء في منازلهم وأداء الأعمال التي اعتادوا القيام بها في المكاتب. فالمذيعون في قنوات التلفاز عقدوا اللقاءات من غرف معيشتهم، والمسؤولون في صندوق النقد الدولي وافقوا خلال ثلاثة أشهر على منح ما يزيد على 70 قرضا طارئا وهم يعملون من بعد، واستمر المتداولون في شراء الأسهم وبيعها من أكواخ جبلية. وتغلبت الشركات على المخاوف من انخفاض الإنتاجية بسبب انتشار فرق العمل في أماكن مختلفة، وكثير منها -بما فيها شركات عملاقة في سيليكون فالي- أخبر موظفيه بألا يقلقوا بشأن العودة إلى المكاتب. لقد تطور العمل من بعد حتى إنه أصبح حلا قابلا للاستمرار على المدى البعيد ولم يعد مجرد علاج مؤقت أو ترتيب محفوف بالمخاطر لأصحاب العمل الحر. فأوجه التقدم في مجال التكنولوجيا جعلت هذه التجربة العشوائية العالمية ممكنة. تصور عقد اجتماع على منصة ويبيكس من خلال مودم للاتصال الهاتفي. لقد استمرت الحركة في العالم بفضل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية التي تتصل بشبكة إنترنت عالية السرعة متصلة بخدمات سحابية. وأصبحت التكنولوجيا أحد عوامل الصلابة التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي. أما في حالة أولئك الذين لا تسعهم الاستفادة من التكنولوجيا أو كسب عيشهم من خلالها، فهم معرضون لمزيد من مخاطر الاستبعاد وعدم المساواة. فالتكنولوجيا في مقدورها أن تعزز الصلابة أو تزيد من عدم المساواة، ويتوقف الأمر على مقدار ما لديك منها فنصف القوى العاملة في الولايات المتحدة أخذ يعمل من المنزل وسط سيل المرضى بفيروس كورونا، مقارنة بـ15 في المائة فيما مضى، وفق ما ذكره إيريك برينجولفسون وأربعة آخرون من خبراء الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وعلى العكس من ذلك، ووفقا لتقرير صادر 2019، هناك 58 في المائة من الأسر في البرازيل لا تمتلك جهاز كمبيوتر. ويتسق ما ورد في التقرير مع بحث لصندوق النقد الدولي أخيرا، يبين أن نسبة أقل قليلا من نصف سكان الاقتصادات النامية تستطيع الاستفادة من خدمة الإنترنت. وصدرت دراسة أخرى عن الصندوق أجرت تقييما لمدى "إمكانية العمل من بعد" في أداء وظائف مختلفة وأشارت تقديراتها إلى أن هناك 100 مليون نسمة في 35 اقتصادا متقدما وناميا معرضون لمخاطر كبيرة من تسريحهم أو تخفيض أجورهم، نظرا إلى عدم إمكانية القيام بوظائفهم من بعد. ومعظم المشتغلين في هذه الوظائف من الشباب والإناث، وممن هم أقل حظا من التعليم ويعملون في مجالات الضيافة والخدمات الغذائية والإنشاءات والنقل. بوجه عام، كلما كانت الدولة أفقر، ازدادت صعوبة العمل من بعد. وتشير تقديرات الباحثين في منظمة العمل الدولية، إلى أن أقل من واحد من كل خمسة من العاملين في أنحاء العالم يشغلون وظائف ويعيشون في دول لديها البنية التحتية اللازمة للعمل بفاعلية من منازلهم. ويحجب هذا المتوسط تفاوتات هائلة. ففي أمريكا الشمالية وغرب أوروبا، النسبة هي واحد من كل ثلاثة، بينما في إفريقيا جنوب الصحراء النسبة هي واحد من كل 17. وحول الحديث عن الابتكار المدمر يذكر الخبير الاقتصادي دانييل ساسكايند، أن الجائحة أصابت الوظائف بأضرار خلال مدة لم تكد تتجاوز أسابيع قليلة بنفس مقدار الأضرار التي كانت متوقعة من الأتمتة على مدار عقود. ويقر في أحدث كتبه "عالم بلا عمل" A World Without Work، بأن الخوف من تدمير التكنولوجيا للوظائف قديم قدم الآلات ذاتها، لكنه يقول إن هذه المرة قد تكون مختلفة. والحجة التقليدية هي أن الابتكار يدمر بعض الوظائف، لكنه يوفر كثيرا غيرها ويمنح الناس حرية القيام بأعمال أخرى. فإدخال أجهزة الصرف الآلي في ستينيات القرن الـ20، على سبيل المثال، لم يحل محل الصرافين، وإنما أتاح لهم الوقت لأداء مهام أعقد من مجرد صرف النقد. ومع ذلك، أتاحت التكنولوجيا منذ ذلك الوقت تنفيذ الأعمال المصرفية عبر شبكة الإنترنت، ما قلل بشكل كبير من حاجة العملاء إلى زيارة فروع البنوك. وفي الأعوام الأخيرة، استطاعت المؤسسات المالية، بفضل البيانات الضخمة وتعلم الآلة، أن تعمل دون أي فروع مادية على الإطلاق. ولم يكن الناس يفضلون فكرة هذا "التدمير الخلاق" على مر التاريخ، فالوظائف التي نشأت وتلك التي فقدت لا تتطابق بالضرورة من حيث أماكنها أو المهارات التي تتطلبها. وسهولة انتقال العمالة أقل بكثير مما كان يعتقد. ويتفق عدد كبير من الخبراء على أن الأتمتة مسؤولة عن قدر كبير من التدمير الهائل لوظائف الصناعة التحويلية على مدار العقود القليلة الماضية في دول مثل الولايات المتحدة. يرى ساسكايند أن الاتجاه العام للأتمتة يكتسب مزيدا من القوة مع التطور السريع للذكاء الاصطناعي، لأنه يعجل قدرة الآلات على تجاوز إمكانات الإنسان في أداء مزيد من المهام. وكتب يقول: "إن الآلات لن تفعل كل شيء في المستقبل، لكنها ستفعل المزيد"، ويشير إلى أن الأتمتة لم تحل محل الإنسان تماما في أعمال الزراعة والصناعة التحويلية، لكنها قللت أعداد الوظائف ومستوى جودتها بشكل كبير... يتبع.
مشاركة :