النص الكامل لتقرير حول جذور وحقائق ومخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية (الجزء الثاني)

  • 9/7/2023
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

الباب الثاني ــ ممارسات ووسائل الولايات المتحدة للحفاظ على الهيمنة العسكرية في المقال الذي كتبه عام 1941 وأعلن فيها عن مجيء القرن "الأمريكي"، قال هنري لوس، وهو ناشر أمريكي وأحد مؤسسسي مجلة ((تايم))، إنه من الضروري "أن نمارس على العالم التأثير الكامل لنفوذنا، للأغراض التي نراها مناسبة وباستخدام الوسائل التي نراها مناسبة". إن التفوق العسكري يتوقف على السيطرة الدائمة. فمن أجل الحفاظ على هيمنتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، لم تمارس الولايات المتحدة فقط السيطرة المباشرة عبر وسائل صريحة مثل شن الحروب أو الانخراط فيها وإنشاء شبكات من القواعد العسكرية العالمية، بل استخدمت أيضا وسائل ضمنية مثل أنظمة التحالف والقواعد والآليات لممارسة السيطرة غير المباشرة. كما طورت نماذج تدخل جديدة وتكنولوجيا عسكرية جديدة ومفاهيم عسكرية جديدة وفقا للوضع الجديد، للسيطرة على أي منافس محتمل ومنعه من أن يصبح قوة تنافس الولايات المتحدة أو تتحدى سيادتها. 2.1 السيطرة الصريحة: الحروب والقواعد العسكرية --- الحروب والعمليات العسكرية هي أكثر الوسائل المباشرة التي تلجأ إليها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العسكرية. "لقد أصبحت الحرب جزءا لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد. فالولايات المتحدة ليست مشاركا طويل الأمد في الحروب منذ تأسيسها بقدر ما هي نتاج للحروب. فالحروب التي خاضتها الولايات المتحدة جعلت البلاد على ما هي عليه اليوم، وسوف تُشكل مستقبلها"، هكذا قال المؤرخ الفرنسي توماس رابينو في وصفه للعلاقة "التي لا تنفصم" بين الولايات المتحدة والحرب. لقد تشكلت في خضم الحرب، وتتوسع خلال الحرب، وتفرض هيمنتها أثناء الحرب. ويمكن أن يُعزى صعود الولايات المتحدة إلى قمة القوة العالمية على مدى السنوات الـ240 الماضية أو نحو ذلك إلى الحروب التي لا نهاية لها بما في ذلك حرب الاستقلال الأمريكية، والحرب الهندية، والحرب المكسيكية الأمريكية، والحرب الأهلية، والحرب الإسبانية الأمريكية، والحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، وحرب كوسوفو، وحرب أفغانستان وحرب العراق..إلخ. لقد انطلقت العجلة الحربية للهيمنة الأمريكية في جميع أنحاء العالم. من خلال الحروب، وسّعت الولايات المتحدة أراضيها واستولت على مواقع إستراتيجية وقامت بتمديد نطاق نفوذها. فقد زادت مساحة أراضي الولايات المتحدة بواقع أكثر من 10 أضعاف من حوالي 800 ألف كيلومتر مربع في بداية تأسيسها إلى حوالي 9.37 مليون كيلومتر مربع حاليا. ومن خلال التدخلات العسكرية والانقلابات والحروب بالوكالة، تتعامل الولايات المتحدة مع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي على أنها "الفناء الخلفي" لها، وتمارس السيطرة الجيوسياسية على الشرق الأوسط ودول أوراسية أخرى. من خلال الحروب، احتلت الولايات المتحدة خطوط النقل البحري والمناطق الحيوية للموارد. وقامت الولايات المتحدة بضم العديد من الجزر في المحيط الهادئ مثل هاواي وجزر ويك واستعمرت الفلبين، ودفعت بالقوة عملية بناء قناة بنما، وقسمت مصالحها في الصين مع القوى الإمبريالية الأخرى، ونشرت قواتها في أفريقيا وسيطرت على الموارد والمواد الحيوية من خلال العمليات العسكرية. من خلال الحروب، وحدت الولايات المتحدة حلفاءها وقضت على المنشقين. على سبيل المثال، بعد هجمات 11 سبتمبر، شنت الولايات المتحدة حروبا أو عمليات عسكرية في 85 دولة حول العالم تحت شعار "مكافحة الإرهاب". وتعمل وكالة الأمن القومي الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية وغيرهما من الوكالات باستمرار على "خلق" أعداء، والإطاحة بحكومات دول أخرى من خلال عمليات سرية وغير شرعية، واغتيال القادة الأجانب الذين يعارضون الولايات المتحدة. إن الحروب اللانهائية للدفاع عن هيمنتها وتعزيزها، بما في ذلك الحروب قصيرة الأمد والحروب طويلة الأمد والحروب العالمية والحرب الباردة والحروب السرية والحروب بالوكالة وحروب مكافحة الإرهاب، تحول الولايات المتحدة إلى دولة إسبرطية وتجرها إلى حالة حرب أبدية. --- القواعد العسكرية المنتشرة عالميًا تُشكل المراسي الإستراتيجية للولايات المتحدة للسيطرة على العالم. تعد القواعد العسكرية بمثابة الحدود بالنسبة للولايات المتحدة لفرض الردع وتحقيق التدخل العسكري. فمع اتخاذها القواعد العسكرية كمراس، تمارس الولايات المتحدة هيمنتها العسكرية في جميع أنحاء العالم من القطب الشمالي إلى رأس الرجاء الصالح، ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. فقد زاد عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية. في سبتمبر 1940، قدمت الولايات المتحدة 50 مدمرة تعود للحرب العالمية الأولى إلى بريطانيا، حليفتها التي كانت على حافة الإفلاس، مقابل الحصول على حق السيطرة على القواعد البحرية والجوية في المستعمرات البريطانية. وهذا يعكس طموح الولايات المتحدة في تعزيز وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم. وفي عامي 1943 و1944، وضع المخططون العسكريون الأمريكيون خططا لإنشاء نظام من القواعد الخارجية يفترض مسبقا أن سلطة الهيمنة الأمريكية ستنبسط عبر كل من المحيطين الأطلسي والهادئ. وخلال الحرب العالمية الثانية، قام الجيش الأمريكي ببناء واحتلال حوالي ألفي قاعدة حول العالم، تضمنت حوالي 30 ألف منشأة عسكرية. بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج إلى "حدود إستراتيجية" آخذة في الامتداد بشكل مستمر، ومعها باتت مساحات كبيرة تحت "السيادة الفعلية" للولايات المتحدة. خلال الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بتطوق واحتواء الاتحاد السوفيتي مستخدمة في ذلك عدد كبير من القوات والقواعد العسكرية المتواجدة في أقرب مكان ممكن من هذا البلد. وبعد نهاية الحرب الباردة، ظل الساسة الأمريكيون يرون أن القواعد العسكرية الخارجية ضرورية للأمن العالمي للولايات المتحدة. وأبقوا الجيش دائما في حالة استعداد، وشكلوا أيضا حزاما دفاعيا بحريا للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، ادعت إدارة بوش أن القواعد الخارجية "حافظت على السلام"، فيما رأت إدارة أوباما أن "تحريك القواعد إلى الأمام ونشر القوات الأمريكية أمر له مغزى وضروري". في أعقاب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، أنشأت الولايات المتحدة شبكة قوية من القواعد العسكرية في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بأكملها باسم "مكافحة الإرهاب"، وبذلك أنشأت جسورا عسكرية وجيواستراتيجية وجيوسياسية وجيواقتصادية خاصة بها في قلب أوراسيا. بعد بداية القرن الـ21، بدأت الولايات المتحدة في تعديل إستراتيجيتها الخاصة بنشر القواعد العسكرية في الخارج، وتحركت لبناء "قواعد عمليات أمامية" أصغر وأكثر مرونة، أو "منصات زنبق الماء"، للحد من اعتماد الجيش الأمريكي على قواعد كبيرة على غرار الحرب الباردة. وشوهدت "منصات زنبق الماء" هذه في كولومبيا وكينيا وتايلاند والعديد من الأماكن الأخرى، وتقع عموما في مناطق لم يكن فيها وجود عسكري يُذكر في الماضي، وبالتالي يسهل الوصول إليها. على مر السنين، أنشأت الولايات المتحدة شبكة حول العالم من خلال التوقيع على وثائق ثنائية ومتعددة الأطراف مثل اتفاقيات القواعد العسكرية، واتفاقيات وضع القوات، ومعاهدات التعاون الأمني مع بلدان أخرى. ووفقا لدراسة أجراها معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في عام 2021، تمتلك الولايات المتحدة حاليا 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة ومنطقة في الخارج، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد سفاراتها وقنصلياتها وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج. وتكلف هذه القواعد سنويا ما يصل إلى 55 مليار دولار. ومنذ عام 2001 وحده، قدمت القواعد العسكرية الخارجية الدعم للولايات المتحدة في شن حروب أو عمليات عسكرية في 25 دولة على الأقل. ويرى بعض المحللين أن قيام الولايات المتحدة بإنشاء قواعد عسكرية في الخارج وظهور حروب في البلدان التي توجد فيها قواعد أمر يبدو أنه يتبع قانون السبب والنتيجة. فالقواعد العسكرية من المرجح أن تثير حروبا، والحروب تتطلب بدورها إنشاء المزيد من القواعد العسكرية. 2.2 السيطرة الضمنية: التحالفات والقوانين --- نظام التحالف هو الركيزة الرئيسية للحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية. يشير نظام التحالف إلى علاقة تعاون أمني رسمية أو غير رسمية بين دولتين أو أكثر وبالمقارنة مع الحروب والقواعد العسكرية "الملموسة"، يمكن اعتبار نظام التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة وتهمين عليه بمثابة سيطرة ضمنية للحفاظ على الهيمنة. ترتكز الهيمنة الأمريكية على نظام دقيق من التحالفات والحلفاء في جميع أنحاء العالم. وإن السبيل الرئيسي أمام الولايات المتحدة لإقامة الهيمنة العسكرية والحفاظ عليها هو تشكيل تحالفات وإنشاء نظام تحالفات تمثل هي نواته. وهذا سيساعد الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها الإستراتيجية. انطلاقا من تأسيس الناتو في عام 1949، بدأت الولايات المتحدة في إنشاء تحالفات عسكرية. ثم أقامت تحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين لتشكيل شبكة تحالف عالمية تتمحور حول الولايات المتحدة. وخلال الحرب الباردة، لعب نظام التحالفات العالمي الذي أنشأته دورا رئيسيا في مساعدة الولايات المتحدة على النصر في الحرب الباردة أمام الاتحاد السوفيتي. والحرب الباردة حولت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى في العالم الغربي، أو في الواقع رئيس التحالفات. بعد نهاية الحرب الباردة، لم يتم حل هذه التحالفات التي تشكل الولايات المتحدة نواتها، بل تم تعزيزها. على سبيل المثال، من خلال "المفهوم الإستراتيجي الجديد للناتو"، غيرت الولايات المتحدة وظيفته من الدفاع الجماعي إلى التدخل العالمي، وحولته إلى أداة سياسية وعسكرية للحفاظ على هيمنتها. أما في الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة والتعاون العالمي لمكافحة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر، لعب نظام التحالفات الذي أنشأته الولايات المتحدة دورا كبيرا وعمل كركيزة رئيسية بالنسبة للبلاد للحفاظ على وجودها العسكري وهيمنتها العسكرية على الصعيد العالمي. قامت الولايات المتحدة ببناء نظام التحالفات العسكري على أساس ثلاثة اعتبارات: أولا، ردع المعارضين عن طريق الحاميات العسكرية، والمناورات العسكرية المشتركة، والمساعدات العسكرية؛ ثانيا، تحقيق تفوق عسكري شامل من خلال التحالفات والحفاظ على أمنها ومصالحها الخاصة؛ ثالثا، احتواء الحلفاء كهدف عرضي. وتشير الإحصاءات إلى أنه في السنة المالية 2011، قادت القيادة الأمريكية في المحيط الهادئ إجمالي 146 مناورة عسكرية شارك فيها الجيش الأمريكي وحلفاؤه؛ وأجرى الناتو بقيادة الولايات المتحدة 88 مناورة عسكرية خلال عام 2020. بشكل عام، يعد نظام التحالف العسكري الأمريكي نظاما هرميا بين الدول. والولايات المتحدة، بدورها القيادي، تضع جدول الأعمال وتمارس الهيمنة مع الآخرين الخاضعين لظروف غير متماثلة وغير متكافئة. في السنوات الأخيرة، أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في دفع تحول نظام التحالف الثنائي نحو التطور إلى تحالف ثلاثي ومتعدد الأطراف، فمن التحالف بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والتحالف بين الولايات المتحدة واليابان والفلبين وصولا إلى "الحوار الأمني الرباعي" بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، تشكلت أيضا شراكة أمنية ثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا سعيا منها إلى تعزيز نظام التحالف في مواجهة التهديدات والتحديات المحتملة. مع تحول محور الاهتمام العسكري الإستراتيجي للولايات المتحدة شرقا، أصبحت منطقة المحيطين الهندي والهادئ ذات أهمية متزايدة. وتبذل الولايات المتحدة جهودا كبيرة لبناء "نظام تحالف لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ" في محاولة لاستخدام نظام التحالف هذا لدمج الموارد الإستراتيجية الإقليمية، الأمر الذي سيساعد على تحسين كفاءة العمليات الأمريكية في المنطقة. فـ"إستراتيجية منطقة المحيطين الهندي والهادئ" التي وضعتها الولايات المتحدة تهدف حقا إلى الحفاظ على نظام هيمنتها. --- استخدام القواعد والآليات الأمريكية للحفاظ على المكانة المسيطرة للهيمنة العسكرية الأمريكية. أولا، تطبيق سياسة ضبط الصادرات. تعد تكنولوجياتها العسكرية الرائدة عالميا أساسا مهما لكي يحتل الجيش الأمريكي مكانة مسيطرة. من ناحية، يُعزى ذلك إلى قدرات البحث العلمي الممتازة والصناعة التحويلية القوية في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، فإنه يتعلق بمختلف إجراءات ضبط الصادرات التي طبقتها الولايات المتحدة. فهذه الإجراءات تعد أدوات مهمة لتوسيع التفوق العسكري والسعي للهيمنة العسكرية. خلال الحرب الباردة، لعبت سياسات ضبط الصادرات التي اتبعها الغرب دورا مساعدا في عزل الاتحاد السوفيتي واحتوائه والإطاحة به في النهاية. يعود تاريخ سياسة ضبط الصادرات التي انتهجتها الولايات المتحدة لأكثر من قرن من الزمان، ويمكن أن يعود تاريخها إلى قانون التجارة مع العدو لعام 1917. وتم تعزيزها خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي العسكري على خصومها. وفيما يلي بعض هذه الممارسات: تم الرجوع إلى قوانين وأنظمة مثل "لوائح إدارة الصادرات" و"قانون مراقبة تصدير الأسلحة" من أجل إنشاء نظم لمراقبة الصادرات العسكرية والصادرات ذات الاستخدام المزدوج. وتم إصدار تشريعات في مجالات محددة، تشمل قانون الطاقة الذرية وقانون منع انتشار الأسلحة النووية. وتم إنشاء آليات متعددة الأطراف أو تم دفعها إلى الأمام مثل "اللجنة التنسيقية لضوابط التصدير المتعددة الأطراف"، و"نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ"، و"ترتيب واسينار بشأن ضوابط تصدير الأسلحة التقليدية والسلع والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج". إن وجود هذه القواعد والآليات الدولية يخدم بشكل أساسي المصالح الأمنية للولايات المتحدة. ولكي تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها، فإنها على استعداد لقمع ومعاقبة حلفائها، كما تبين في حادثة توشيبا. خلال الثمانينيات، قامت شركة توشيبا المحدودة للماكينات في اليابان بتصدير ماكينات "سي إن سي" ذات 9 محاور إلى الاتحاد السوفيتي، وهو عمل اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا لتفوقها العسكري وأمنها القومي. ونتيجة لذلك، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة توشيبا المحدودة للماكينات واستغلت هذا الحادث للضغط على اليابان فيما يتعلق ببرنامج الجيل الجديد من الطائرات المقاتلة، ما أجبر اليابان في النهاية على تقديم تنازلات للولايات المتحدة. تكشف حادثة توشيبا عن عقلية الهيمنة الأمريكية وسلوكها من بداية هذه الحادثة حتى نهايتها. ثانيا، ضبط التسلح. تقول وجهة النظر التقليدية إن اتفاقيات الحد من التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة وُضعت لزيادة الشفافية، والحد من خطر نشوب صراع نووي، وتعزيز الاستقرار الإستراتيجي، ومنع سباق التسلح النووي من الخروج عن نطاق السيطرة، والمساهمة في نهاية المطاف في تحقيق النهاية السلمية للحرب الباردة. ولكن كان الهدف الأساسي للحكومة الأمريكية من السعي للحد من التسلح هو ترسيخ تفوقها التكنولوجي العسكري على الاتحاد السوفيتي والحفاظ عليه. صرح توماس كونتريمان، القائم بأعمال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الحد من التسلح والأمن الدولي سابقا، أن "(اتفاقيات الحد من التسلح) هي أداة حيوية يمكن أن تُقيد قدرة الدول الأخرى على العمل ضد مصالحنا، في حين لا تزال تسمح بحرية اتخاذ الإجراءات الضرورية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائنا المقربين. وبعبارة أخرى، فإن اتفاقات ضبط التسلح ليست تنازلا تقدمه الولايات المتحدة، ولا خدمة تُقدم لدولة أخرى؛ بل تمثل عنصرا أساسيا لأمننا القومي ومساهما فيه. من خلال استخدام آليات ضبط التسلح بطريقة مرنة، يمكن للولايات المتحدة أن تحقق ثلاث فوائد رئيسية. أولا، يمكنها تخصيص المزيد من الأموال نحو تعزيز القدرات العسكرية في مجالات أخرى. فعلى سبيل المثال، سمحت معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفيتي في عام 1972 للولايات المتحدة بتوفير مليارات الدولارات؛ ثانيا، تتمثل الميزة الأخرى التي تخص الاستفادة من اتفاقات ضبط الأسلحة، مثل المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية، في إجراءات الشفافية والتحقق التي تتيحها. فهي تمكن الولايات المتحدة من جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية عن القدرات العسكرية لخصومها، الأمر الذي يمكن أن يساعد في تخطيطها وإدارتها للقوات النووية بشكل فعال؛ وتتمثل الميزة الثالثة لآليات ضبط التسلح في القدرة على تقييد تقدم الخصوم في المجالات بالغة الأهمية، مع إجبارهم في الوقت نفسه على الدخول في سباق تسلح لا يمكن النصر فيه وذلك في مجالات تتمتع فيها الولايات المتحدة بتفوق. على سبيل المثال، لم تكن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى الموقعة في عام 1987 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تستهدف الصواريخ متوسطة المدى التي تُطلق من البحر أو الجو، لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع في هذا الصدد بمزايا كبيرة من حيث التكنولوجيا والجغرافيا والحلفاء مقارنة بالاتحاد السوفيتي. في فبراير 2021، مددت الحكومة الأمريكية معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الجديدة مع روسيا، والتي تعكس إلى حد كبير اعتبارات "اللعب على نقاط القوة وتجنب نقاط الضعف". وكان جون وولفستال، الذي شغل من قبل منصب كبير مديري ضبط التسلح ومنع الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي خلال عهد إدارة أوباما، قد حذر في عام 2020 من أن روسيا على وشك الانتهاء من دورة التحديث النووي الإستراتيجي. ومن ثم، إذا انتهت مدة سريان المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية، فقد تتخلف الولايات المتحدة عن روسيا من حيث القوات النووية الإستراتيجية بسبب حالة عدم اليقين بشأن برنامج التحديث النووي الأمريكي. لذلك، فإن تمديد المعاهدة من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على الحد من الترسانة النووية الإستراتيجية لروسيا ومراقبتها مع دفع مشاريع التحديث النووي الخاصة بها قدما. ثالثا، تحريف القانون الدولي وإساءة استخدامه. لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على إستراتيجية تطبيق القانون الدولي بشكل انتقائي عندما يخدم مصالحها بينما تتجاهله عندما لا يقوم بذلك، وهو نهج ثابت للهيمنة الأمريكية. وأبرز مثال على ذلك في المجال العسكري هو تحريف اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تستخدمها للحفاظ على هيمنتها البحرية من خلال تنفيذ إجراءات "حرية الملاحة" استنادا إلى معاييرها الخاصة. بدءا من عام 1979 أخذت الولايات المتحدة تنفذ ما تسميه عمليات "حرية الملاحة"، والتي تدعي أن المقصود منها هو "حماية التجارة القانونية وقدرة القوات المسلحة الأمريكية على التنقل عالميا"، بيد أن هذه الإجراءات تهدف إلى ضمان قدرتها على نقل قواتها عبر البحار دون قيود. وقال العديد من الباحثين الأمريكيين إن استمرار عمليات "حرية الملاحة" التي تقوم بها الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي هي وسيلة حاسمة يحافظ بها الجيش الأمريكي على وجوده في المنطقة. وتنشر الولايات المتحدة بتهور، في إطار عمليات "حرية الملاحة" التي تقوم بها، سفنا قتالية كبيرة لتحدي سيادة الدول الساحلية وولايتها على مياهها الإقليمية، ومناطقها الاقتصادية الخالصة، وجزرها الأرخبيلية، ومضائقها. وإن رفض الولايات المتحدة الامتثال لطلبات البلدان الساحلية بضرورة وجود إخطار أو إذن مسبق، ودخولها بشكل تعسفي إلى المياه الإقليمية لدول أخرى يؤكد هيمنتها العسكرية. إن حقيقة أن الولايات المتحدة لم تصدق بعد على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ولكنها لا تزال تحرفها وتستخدمها بشكل انتقائي كوسيلة للحفاظ على هيمنتها البحرية تعكس منطق الهيمنة المتمثل في "القوة تصنع الحق". 2.3 الأنماط والاتجاهات الجديدة إن العالم الذي توجد فيه الولايات المتحدة اليوم مختلف تمام الاختلاف عن الماضي. يشهد العالم حاليا اتجاها جديدا: فالبلدان الناشئة تنهض بسرعة، والتكنولوجيا العسكرية للقوى الكبرى تزداد انتشارا تدريجيا، ويتحول ميزان القوى الدولي نحو هيكل متعدد الأقطاب. بيد أنه في مواجهة التغيرات العميقة في المشهد الدولي، تواصل الولايات المتحدة تشبثها بعقلية الهيمنة وتحاول استخدام مختلف الأساليب للحفاظ على هيمنتها العسكرية وتعزيزها. --- نمط جديد للتدخل العسكري لطالما كان استخدام القوة العسكرية وسيلة مهمة تستخدمها الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العسكرية. غير أنه بعد العديد من الحروب التي استنزفت مواردها وأضرت بسمعتها، تراجع الدعم العام داخل الولايات المتحدة للتدخل العسكري في الخارج. ونتيجة لذلك، تراجعت رغبة الحكومة الأمريكية والكونغرس في استخدام القوة العسكرية خارج حدودهما. وعلى هذه الخلفية، اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، على تقديم قدر كبير من المساعدات العسكرية والدعم الاستخباراتي للتحكم في الوضع دون نشر أفراد علنا للتدخل في الصراع. وقد يشير هذا إلى نمط جديد من التدخلات العسكرية الأمريكية المستقبلية في الخارج. هذا النمط الجديد من التدخل العسكري يحمل ثلاث خصائص جديدة: تتمثل الخاصية الأولى في تقديم المساعدة العسكرية بشكل هادف ويمكن تكميلها وتعديلها وفقا للتغيرات في ساحة المعركة. منذ اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة تتجاوز 46 مليار دولار أمريكي لأوكرانيا، وقد تغيرت أنواع الأسلحة المرسلة بناء على تطورات الوضع على الأرض واحتياجات الجيش الأوكراني. وتتمثل الخاصية الثانية في أن الولايات المتحدة استخدمت التفوق الاستخباري إلى أقصى حد. فقد لعب ما تقدمه الولايات المتحدة من معلومات استخباراتية وتوجيه استخباراتي للجيش الأوكراني دورا حاسما في تعزيز قدرات أوكرانيا القتالية. ووفقا للتقارير، فإن مثل هذا القدر الكبير من المعلومات الاستخباراتية التي تتقاسمها الولايات المتحدة مع أوكرانيا، وهي دولة غير حليفة، لم يسبق له مثيل تقريبا، بل إن وكالات الاستخبارات الأمريكية عدلت 27 سياسة لتبادل المعلومات الاستخباراتية من أجل هذا الغرض. تتمثل الخاصية الثالثة في أن الولايات المتحدة استخدمت تكتيكات الحرب الهجينة الجديدة. لقد شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها حملة حرب هجينة ضد روسيا، تجمع بين الحرب الاقتصادية والحرب الدبلوماسية والحرب الدعائية. وعلى الرغم من أن الجيش الأمريكي لم يتدخل بشكل مباشر في الصراع، إلا أنه شارك بشكل كامل في هذه الحرب جوهريا. وفي هذا السياق، أشار بعض الباحثين إلى أن الطريقة التي انخرطت بها الولايات المتحدة في هذا الصراع تقدم قواعد ونماذج للتدخلات العسكرية الأمريكية في المستقبل. --- تعديل وتحديث نظام التحالفات في ظل ضعف التفوق العسكري المطلق للولايات المتحدة وتحولها الإستراتيجي نحو التنافس مع القوى الكبرى، بدأت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة تتجاوز تدريجيا القيود الجغرافية والهيكلية والتكنولوجية في استخدامها لنظام التحالفات العسكري الذي وضعته. أولا، تشجع الولايات المتحدة حلفائها خارج المنطقة على التدخل في الشؤون الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويتجلى ذلك في إدراج الناتو للمسائل الأمنية في المحيطين الهندي والهادئ في رؤيته الإستراتيجية وتوسيع وجوده العسكري في المنطقة. ففي عام 2021، أرسلت مجموعة من الدول بما في ذلك كندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وهولندا 21 سفينة بحرية إلى بحر الصين الجنوبي للمشاركة في مناورات بحرية مشتركة مع الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ثانيا، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حولت الولايات المتحدة تركيز تحالفها العسكري من الاعتماد بشكل أساسي على تحالف عسكري ثنائي في إطار نموذج "المحور والمحاور" إلى مزيد من النهج الثلاثية ومتعددة الأطراف. فمنذ مجيئها إلى الحكم في عام 2021، عززت إدارة بايدن من أهمية آلية الحوار الأمني الرباعي بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا وأنشأت شراكة أمنية ثلاثية مع المملكة المتحدة وأستراليا. وفي الوقت نفسه، تواصل الولايات المتحدة تعميق مشاركتها في آليات أمنية متعددة الأطراف أصغر مثل الشراكات بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والشراكات بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية مع تشجيع الحلفاء بنشاط على تعزيز تعاونهم الأمني. ثالثا، تقوم الولايات المتحدة بنقل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة إلى حلفائها الإقليميين لتعزيز قدراتهم العسكرية. فعلى سبيل المثال، في إطار الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، اتفقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على مساعدة أستراليا على بناء ما لا يقل عن ثماني غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية. وهذه هي المرة الأولى التي تتقاسم فيها الولايات المتحدة تكنولوجيا الدفع النووي مع دولة أخرى منذ أن فعلت ذلك مع المملكة المتحدة قبل أكثر من 60 عاما. وقد تُشكل هذه الخطوة خطرا على الانتشار النووي لأنها تستغل الثغرات في قانون عدم الانتشار النووي ويمكن أن تقوض الأمن والاستقرار الإقليميين. وتعكف الولايات المتحدة على تحطيم القيود والاتفاقيات السابقة من خلال نقل التكنولوجيات العسكرية والأسلحة الهجومية الأساسية إلى حلفاء إقليميين، وهدفها الأساسي من ذلك هو زيادة قدراتها التنافسية في السباق العسكري بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. --- تطبيق التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية الجديدة من ناحية، تولي وزارة الدفاع الأمريكية اهتماما كبيرا للأهمية الإستراتيجية للتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة في المنافسة العسكرية المستقبلية. وبالنظر إلى مزايا وخبرات شركات التكنولوجيا التجارية الأمريكية في مجال البحث والتطوير في المجالات ذات الصلة، ما برح البنتاغون يبذل جهودا في السنوات الأخيرة لإقامة علاقات أوثق مع هذه الشركات والعمل بشكل مستمر على دفع أعمال البحث والتطوير الخاصة بالتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة، فضلا عن تطبيقها في الأسلحة والمعدات. من ناحية أخرى، تعمل الولايات المتحدة على خلق مفاهيم عسكرية للتجاوب مع الظروف الجديدة. على سبيل المثال، هناك "حرب الفسيفساء" التي تُسلط الضوء على المرونة واللامركزية والاستخبارات الشبكية، وهناك مفهوم "القيادة والتحكم المشترك والشامل" الذي يهدف إلى تحقيق الدمج بين أجهزة الاستشعار ومنصات القتال، فضلا عن التمكين من نقل البيانات والمعلومات في الوقت الفعلي. وفي نسخة 2022 من إستراتيجية الدفاع الوطني التي أصدرتها الولايات المتحدة، تم تقديم مفهوم "الردع المتكامل" كأساس لإستراتيجية الدفاع في البلاد. وهذا يتطلب مستوى عاليا من التكامل بين التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية والقدرات، وإزالة الحدود بين الفروع العسكرية وميادين العمليات المختلفة، وتعزيز التعاون مع الحلفاء. /يتبع/ ■

مشاركة :