النص الكامل لتقرير حول جذور وحقائق ومخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية (الجزء الأول)

  • 9/7/2023
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

أصدر معهد ((شينخوا))، وهو مركز الأبحاث التابع لوكالة أنباء ((شينخوا))، يوم الثلاثاء تقريرا حول "جذور وحقائق ومخاطر" الهيمنة العسكرية الأمريكية. وفيما يلي النص الكامل للتقرير: جذور وحقائق ومخاطر الهيمنة العسكرية الأمريكية الفهرس المقدمة الباب الأول ــ تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية 1.1 تطور ونمو الهيمنة العسكرية الأمريكية 1.2 جذور فكر الهيمنة العسكرية الأمريكية 1.3 الدوافع الأساسية للهيمنة العسكرية الأمريكية الباب الثاني ــ ممارسات ووسائل الولايات المتحدة للحفاظ على الهيمنة العسكرية 2.1 السيطرة الصريحة: الحروب والقواعد العسكرية 2.2 السيطرة الضمنية: التحالفات والقوانين 2.3 الأنماط والاتجاهات الجديدة الباب الثالث ــ المخاطر العالمية للهيمنة العسكرية الأمريكية 3.1 الكوارث الإنسانية 3.2 المساس بسيادة الدول 3.3 تفكيك النظام 3.4 انعكاس التداعيات السلبية على الذات الخاتمة المقدمة في 30 أغسطس عام 2021، أقلعت طائرة نقل عسكرية أمريكية تُقل الدفعة الأخيرة من القوات الأمريكية من مطار حامد قرضاي الدولي في أفغانستان، وهو ما كان إيذاناً بنهاية أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. ووصف مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، في وقت لاحق نهاية الحرب الأمريكية في أفغانستان بأنها "فشل إستراتيجي" للولايات المتحدة وذلك عند إدلائه بشهادته أمام الكونغرس. وأثارت الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة وأضرارها مرة أخرى تساؤلات كبيرة في الداخل والخارج. كما تحل في عام 2023 الذكرى الـ20 للغزو الأمريكي للعراق. إنها حرب عدوانية شنتها الولايات المتحدة ضد دولة ذات سيادة استنادا إلى أكاذيب سعيا وراء أمن مطلق وتحقيقا لمصالحها الجيوسياسية، مكلفة العراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره والولايات المتحدة نفسها ثمنا باهظا وتاركة آثارا بعيدة المدى عليهم جميعا. منذ استقلالها في عام 1776، سعت الولايات المتحدة باستمرار إلى التوسع باستخدام القوة: وسعت أراضيها بعد الحرب المكسيكية الأمريكية، لتصبح قوة عابرة للأقاليم، وتوغلت في نصف الكرة الغربي وشرق آسيا بعد الحرب الأمريكية الإسبانية، لتصبح قوة عظمى عالمية بعد الحربين العالميتين، واكتسبت القدرة على استعراض القوة ووضع القواعد في جميع أنحاء. في أعقاب الحرب العالمية الباردة، حلت الهيمنة أحادية القطب محل الهيكل ثنائي القطب، وبعدها حققت الولايات المتحدة الهيمنة العسكرية العالمية. ومنذ ذلك الحين، حرصت الولايات المتحدة على الحفاظ على هيمنتها العسكرية باستخدام القوة وغيرها من الوسائل. على مدى تاريخ الولايات المتحدة الممتد لأكثر من 240 عاماً، لم تكن البلاد في حالة انخراط في حرب سوى لأقل من 20 عاماً. كما يمكن تسمية الولايات المتحدة بالدولة الأكثر ولعا بالحرب في تاريخ العالم. ووفقا لإحصاءات غير كاملة، فإنه من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 إلى عام 2001، وقع 248 صراعا مسلحا في 153 منطقة حول العالم، 201 منها كانت الولايات المتحدة هي البادئة بها ومثلت حوالي 81 في المائة. إن الولايات المتحدة لديها مخالب عسكرية في جميع أنحاء العالم وتمتلك حاليا حوالي 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة على الأقل حول العالم. ومن بين الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة، هناك حوالي 175 دولة يتمركز فيها أفراد عسكريون أمريكيون. ومنذ عام 2001، شنّت الولايات المتحدة حروبا وعمليات عسكرية في أكثر من 80 دولة في أرجاء العالم بحجة "مكافحة الإرهاب"، وهو ما أسفر بشكل مباشر عن مقتل حوالي 929 ألف شخص، من بينهم 387 ألف مدني، ونزوح نحو 38 مليون شخص أو تحويلهم إلى لاجئين. خلال هذه العملية، دأبت الولايات المتحدة على اتباع "طريقة تفكير إمبريالية" مثل فكر "القدر المحتوم" و"الاستثنائية الأمريكية"، وبررت أفعالها القائمة على الهيمنة تحت ستار نظرية القوة البحرية ونظرية استقرار الهيمنة. وتحت محرك سعيها الضيق إلى امتلاك القوة المطلقة وتحقيق مصالحها وبلوغ طموح يرمي إلى السيطرة على الأرض والبحر والسماء وحتى الفضاء الخارجي، شنّت الولايات المتحدة مرارا حروبا وتدخلت في "الشؤون الداخلية للدول الأخرى، في محاولة منها لإقامة ما يسمى بـ"باكس أمريكانا"، وهو في الواقع عالم أحادي القطب يخضع لهيمنة الولايات المتحدة. أخذت الولايات المتحدة، بهيمنتها العسكرية، تنتهج سياسات وسلوكيات تقوم على الهيمنة، متسببة بذلك في إلحاق أضرار جسيمة بالعالم بأسره؛ وإزهاق أرواح وانتهاك الكرامة الإنسانية، والدوس على سيادة الدول الأخرى، والإخلال بالنظام الدولي، وعرقلة التنمية السلمية، وجلب كوارث إنسانية، وتعريض الأمن والاستقرار العالميين للخطر، وإعاقة تقدم الحضارة الإنسانية، فضلا عن الإضرار بنفسها. يهدف هذا التقرير، من خلال عرض الحقائق والبيانات، إلى تتبع السبب الجذري للهيمنة العسكرية الأمريكية، واستكشاف كيف سعت الولايات المتحدة إلى بلوغ هيمنتها العسكرية وحافظت عليها وأساءت استخدامها، فضلا عن كشف المخاطر التي تشكلها ممارسات الهيمنة العسكرية الأمريكية على العالم بأسره. الباب الأول ــ تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية على مر تاريخ الولايات المتحدة، أخفى العديد من الساسة طموح أمريكا إلى الهيمنة العالمية. فقد طمعوا في "الهيمنة على المحيطات وجميع البحار"، وتنبأوا بأن الولايات المتحدة "قد تصبح الإمبراطورية الأكثر قوة وترهيبا في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ". لقد تخيلوا أن الأمة الأمريكية يمكنها "أن تسيطر على القارة الأمريكية كخطوة أولى لتحقيق الهيمنة العالمية، وسرعان ما تضع بعد ذلك العالم بأسره تحت سيطرتها"، وتدعي مجيء "القرن الأمريكي". يعد التاريخ بمثابة مرآة. عند النظر من منظور واسع، يتبين أن تاريخ تشكّل الهيمنة العسكرية الأمريكية وصعودها وترسخها وتوسعها تزامن مع توسّع الولايات المتحدة من الشرق إلى الغرب، ومن الأرض إلى البحر، ومن مناطق مختلفة إلى العالم، وجميعها نابعة من "الفكر الإمبريالي". 1.1 تطور ونمو الهيمنة العسكرية الأمريكية يمكن تقسيم تاريخ الهيمنة العسكرية الأمريكية إلى أربع مراحل رئيسية: تشكلت في الفترة ما بين الحرب المكسيكية الأمريكية والحرب الأمريكية الإسبانية، وتأسست في النهاية بين الحربين العالميتين، ثم واجهت منافسة خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبلغت أوجها منذ نهاية الحرب الباردة. --- قامت الولايات المتحدة بعمل الاستعدادات لاكتساب الهيمنة في الفترة الممتدة من الحرب المكسيكية الأمريكية في منتصف القرن التاسع عشر إلى الحرب الإسبانية الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر. بدأت الولايات المتحدة، بعد استقلالها وتأسيسها، حركة "التوسع غربا" التي استمرت لما يقرب من مائة عام. وكانت الحرب المكسيكية الأمريكية في الفترة من عام 1846 إلى عام 1848 أول عملية عسكرية كبرى تقوم بها الولايات المتحدة خارج حدودها، والمرة الأولى التي تحتل فيها أراضي دولة أخرى. استولت الولايات المتحدة على حوالي 2.3 مليون كيلومتر مربع من الأراضي قبل هذه الحرب وبعدها، وتوسعت عبر قارة أمريكا الشمالية، وتمكنت من الوصول إلى المحيط الهادئ، الأمر الذي هيأ الظروف اللازمة لتوسعها العسكري والاقتصادي اللاحق في المحيط الهادئ وشرق آسيا. في نهاية القرن التاسع عشر، ارتفعت داخل البلاد دعوات منادية بالتوسع العسكري، ومضت عملية تحديث البحرية الأمريكية قدما بشكل تدريجي. وتعتبر الحرب الإسبانية الأمريكية في عام 1898 ذروة الحقبة الإمبريالية الأولى للولايات المتحدة بعد تأسيسها. وفي هذه الحرب، التي كانت أول حرب استعمارية تخوضها الولايات المتحدة خارج أمريكا الشمالية، هزمت الولايات المتحدة إسبانيا وسيطرت على كوبا وبورتوريكو والفلبين وغوام، وفي الوقت نفسه ضمت هاواي، وهو ما يبرهن على أن الولايات المتحدة سارت على طريق الهيمنة والتوسع باستخدام القوة. وتمتلك الولايات المتحدة الآن قواعد عسكرية في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادي، وهذا يشير بدوره إلى توسعها السريع ورغبة حاكمها في تعزيز قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية. --- الهيمنة العسكرية الأمريكية تأسست خلال الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. تحسنت القوة العسكرية للولايات المتحدة بشكل كبير خلال الحرب العالمية الأولى. بعد اندلاع الحرب، أقرت الولايات المتحدة قانون الدفاع الوطني والقانون البحري في عام 1916 لزيادة حجم قواتها البرية والبحرية. ثم انضمت إلى الحرب في عام 1917 ونشرت قوات عسكرية على نطاق واسع في أوروبا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ارتقت الولايات المتحدة لتصبح قوة مهمة في العالم. فلم يقتصر الأمر على ارتفاع عدد المجندين في الجيش الأمريكي من أقل من 130 ألف فرد في عام 1917 إلى 4 ملايين فرد، وإنما تم أيضا إنشاء قوة قتالية آلية جديدة ونظام دعم لوجستي. وفي الوقت نفسه، استمرت قوتها البحرية في النمو وبلغ حجمها حجم نظيرتها بالمملكة المتحدة نتيجة صدور معاهدة واشنطن البحرية، المعروفة أيضا باسم معاهدة القوى الخمس، في عام 1922. وفُرضت قيود عسكرية على اليابان وفقدت المملكة المتحدة هيمنتها أمام الولايات المتحدة في هذا الصدد. حدثت نهاية الحقبة الأوروبية في السياسة العالمية عندما كانت الحرب العالمية الثانية في عنفوانها. وأظهرت الولايات المتحدة، التي كانت بعيدة عن ساحة المعركة، إمكانات عسكرية ضخمة. فقد قاتلت على الجبهتين في المحيط الهادئ وأوروبا على التوالي، وكانت الدولة الوحيدة التي صارت أقوى مما كانت عليه قبل الحرب. في أغسطس عام 1945، ألقت الولايات المتحدة قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، ما عجّل بنهاية الحرب العالمية الثانية وكشف مدى قوة الأسلحة النووية وأرسى أساسا هاما للهيمنة العسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. والولايات المتحدة هي حتى الآن الدولة الوحيدة التي استخدمت أسلحة نووية في الحروب. لم تحقق الولايات المتحدة النصر في الحرب العالمية الثانية فحسب، بل وضعت أيضا حجر الزاوية للهيمنة - آلة حرب غير مسبوقة. في نهاية الحرب، كان لدى الولايات المتحدة 12.5 مليون جندي، منهم 7.5 ملايين متمركزين في الخارج، وامتلكت أسطولا بحريا من حوالي 1200 سفينة حربية كبيرة، إلى جانب قوة جوية تضم قاذفات بعيدة المدى، كما احتكرت الأسلحة النووية. مع ترسيخ هيمنتها العسكرية بعد الحربين العالميتين، أصبحت الولايات المتحدة أول قوة في التاريخ تسيطر على المحور الإستراتيجي الممتد عبر "طرفي القارة الأوراسية" مع تمتعها بنفوذ وسيطرة غير مسبوقين في جميع أنحاء العالم. --- الحرب الباردة، التي دامت لأكثر من 40 عاما، مثّلت فترة التنافس على الهيمنة العسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. خلال فترة الحرب الباردة، أنفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي استثمارات ضخمة على القوى العاملة والمواد في إطار سباق تسلح وشنتا حروبا أو حروبا بالوكالة في الخارج. وهدفت كل من الحربين الواسعتين اللتين انخرطت فيهما الولايات المتحدة خلال هذه الفترة، وهما الحرب الكورية وحرب فيتنام، إلى "احتواء توسع الشيوعية". في عام 1950، اقترحت أهداف وبرامج الولايات المتحدة للأمن القومي (مذكرة مجلس الأمن القومي الأمريكي رقم 68) إستراتيجية التفوق العسكري "التي بُنيت بخطى أسرع في العالم الحر" لتعبئة الناس وتحقيق "القوة الشاملة" كمبدأ توجيهي أساسي للبلاد خلال الحرب الباردة. وتضمنت البرامج المختلفة التي صيغت وفقا لذلك: توسع كبير في الميزانية العسكرية للولايات المتحدة، وتطوير الأسلحة التقليدية والنووية، وتحسين التفوق التكنولوجي، وترهيب الاتحاد السوفيتي، والدفاع عن مصالحها في الخارج. وتحقيقا لهذه الغاية، سعت الولايات المتحدة إلى بناء قوات تقليدية ونووية تقوم على التكنولوجيا الفائقة، فضلا عن نظام ضخم من التحالفات الثنائية والمتعددة الأطراف والقواعد العسكرية في جميع أنحاء العالم، وكان هذان العنصران الأخيران غير متوفرين لدى الاتحاد السوفيتي. وأشار الخبراء إلى أنه في الخمسينيات من القرن العشرين، قامت الولايات المتحدة بتعويض تفوق الاتحاد السوفيتي في نطاق القوة التقليدية بتفوقها في الطاقة النووية. وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان بإمكان الاتحاد السوفيتي منافسة الولايات المتحدة في مجال الطاقة النووية، لكن الولايات المتحدة طورت أسلحة تقليدية موجهة وأنشأت شبكات ساحة المعركة. وقد مكّنت "إستراتيجيا التعويض" هاتين الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها في المنافسة مع الاتحاد السوفيتي على الهيمنة العسكرية بل والحفاظ عليها في حقبة ما بعد الحرب الباردة. --- الهيكل ثنائي القطب انتهى مع انتهاء الحرب الباردة وشهدت الولايات المتحدة أوج هيمنتها العسكرية. مع تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي تمتلك قوة عسكرية ساحقة حيث احتلت المرتبة الأولى من حيث الإنفاق العسكري. وصار يمكنها السيطرة على جميع المحيطات والبحار في العالم، كما طورت القدرة العسكرية للسيطرة على السواحل من خلال عمليات بحرية وبرية وجوية منسقة؛ وثمة دول خادمة وتابعة لها كانت منتشرة في جميع أنحاء القارة الأوراسية. من أجل الحفاظ على هيمنتها العسكرية، صعدت الولايات المتحدة من ناحية تدخلها العسكري وردعها العسكري في العالم من خلال زيادة نفقاتها الدفاعية، وتوسيع قوتها العسكرية، وبناء القواعد، ومن ناحية أخرى، حاولت تبرير ضرورة وجود تحالفات عسكرية تكون هي نفسها قائدها من خلال العمليات العسكرية. وللحيلولة دون تضاؤل تماسك التحالفات في نهاية الحرب الباردة، شجعت الولايات المتحدة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على التوسع شرقا في التسعينيات وحافظت على تحالفات ثنائية في آسيا والمحيط الهادئ لحماية مصالحها العسكرية والجيوسياسية العالمية. بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، شنت الولايات المتحدة حروبا في أفغانستان والعراق، ونفذت عمليات عسكرية في ليبيا وسوريا. لقد استنفدت "الحرب العالمية على الإرهاب" طويلة الأمد القوة الوطنية للولايات المتحدة وألحقت الضرر بسمعتها. وأصبح الأمريكيون أقل رغبة في رؤية استخدم قوة بلادهم العسكرية ضد الدول الأخرى. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتل مكانة مهيمنة في المجال العسكري، وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على هيمنتها العسكرية في القرن الـ21 من خلال دمج وتطبيق التكنولوجيات الجديدة والمفاهيم العملياتية الجديدة وتعميق وتعديل نظام التحالفات. 1.2 جذور فكر الهيمنة العسكرية الأمريكية إن مفاهيم "الإمبريالية" و"الهيمنة" و"السلطة" موجودة طوال تاريخ الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن البلاد ترفض كلمة "إمبريالية" من الناحية السياسية، إلا أن المفهوم متأصل بعمق في روحها منذ تأسيسها. وقد أثرت الفكرة باستمرار على سياسات الولايات المتحدة وسلوكها في مسيرتها نحو الهيمنة العسكرية العالمية. فقد أعلن الشاعر والكاتب الأمريكي والت ويتمان في بداية عام 1860 أن الولايات المتحدة هي إمبراطورية حيث قال: "أنا أغنّي لهذه الإمبراطورية الجديدة، إنها أعظم من أي إمبراطورية سابقة -- وذلك كما بدت لي في رؤية راودتني؛ أنا أغنّي لأمريكا، السيد، أنا أغنّي لسلطة أعظم وأكبر". أما كِتَاب الكاتب الأمريكي روبرت كابلان، الذي قدم وصفا للولايات المتحدة، فكان ببساطة يحمل عنوان "إمبراطورية برية". علاوة على ذلك، أشار المؤرخ الأمريكي برنارد ديفوتو ذات مرة بشكل مباشر ودقيق إلى أنه "سواء كان ذلك حلما أم حقيقة، فإن الإمبراطورية الأمريكية كانت موجودة قبل ولادة الولايات المتحدة". --- مفهوم مصير الإمبراطورية: من "القدر المحتوم" إلى "الاستثنائية الأمريكية" إن عمليات التوسع العسكري والحروب وقعت باستمرار طوال تاريخ الولايات المتحدة، والجذور الأيديولوجية لذلك تعود إلى مفهوم "مصير الإمبراطورية". وجاء هذا النوع من التحديد للمكانة والقيم الذاتية إلى الوجود مع وصول المستعمرين الغربيين إلى قارة أمريكا الشمالية، وانعكس بشكل خاص في خطبة ألقاها جون وينثروب، أول حاكم لمستعمرة خليج ماساتشوستس. قبل وصوله إلى المستعمرات في عام 1630، أصدر زعيم المهاجرين البروتستانتيين إعلانا قال فيه: "سنصبح كمدينة على تلة، وأعين الجميع متجهة نحونا... وستجري حكايتنا وأقوالنا على الألسنة في العالم بأسره". وقد ردد هذه العبارة العديد من الأمريكيين على مدى أكثر من 240 عام، وهو ما سمح بأن يتطور لديهم تدريجيا الوعي القومي بأن الأمريكيين "شعب الله المختار"، وقناعة بممارسة حق الغزو باسم الحضارة على ما يعتبرونها "أمما متخلفة". وعلى حد تعبير إريك هوبزسباوم، أستاذ تاريخ العالم الحديث، فإن الاعتقاد الأساسي الذي حمل في طياته معانٍ ضمنية مسيانية هو الذي جعل الولايات المتحدة توسعية منذ البداية، مع أول قرار اتخذته بأن تصبح عملاقا على هذه القارة، وانتشار سكانها في نهاية المطاف بجميع أرجاء القارة. ومنذ ذلك الحين، منحت الحجتان البارزتان المتمثلتان في "القدر المحتوم" و "الاستثنائية الأمريكية" الولايات المتحدة ما يسمى بـ"الشرعية" و"القدسية" في توسعها العسكري وهيمنتها العسكرية. طرح عبارة "القدر المحتوم" كاتب العمود الأمريكي جون أوسوليفان في عام 1845. ويعني أن الله أمر الولايات المتحدة بتوسيع أراضيها ومجال نفوذها في قارة أمريكا الشمالية وخارجها، ونشر نظامها وقيمها. يعتقد المؤرخون أن قيام الولايات المتحدة بشراء لويزيانا من فرنسا في عام 1803 أضاف الجوهر الحقيقي لتوسيع الأراضي وبناء إمبراطورية على أساس الإيمان بـ"القدر المحتوم". وقبل أن تبدأ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حرب عام 1812، اتجه صقور الحرب في الولايات المتحدة، الذين أيدوا التوسع باستخدام القوة، إلى إطلاق مفهوم "القدر المحتوم" كقوة سياسية لأول مرة. ومن تكساس إلى هاواي، أصبح "القدر المحتوم" هو الأساس والذريعة بالنسبة للولايات المتحدة لاستخدام الوسائل العسكرية لتوسيع أراضيها واضطهاد السكان الأصليين. إنه يشير إلى الأنانية والعنصرية. ومع تطور تاريخ العالم والتغيرات في القوة الوطنية للولايات المتحدة، أصبح "القدر المحتوم" أحد الجذور الأيديولوجية للبلاد في كفاحها من أجل الهيمنة العالمية، وتصدير القيم، والتدخل العسكري الأجنبي منذ القرن العشرين. يرى مفهوم "الاستثنائية الأمريكية" أن الولايات المتحدة دولة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية وتمثل اتجاه التقدم الحضاري. فقد أعلن المفكر البريطاني الأمريكي توماس بين في كتابه ((المنطق السليم)) قائلا "... من الواضح أنهما ينتميان إلى أنظمة مختلفة: إنجلترا إلى أوروبا، وأمريكا إلى ذاتها"، وهو ما يُنظر إليه على أنه مظهر مبكر من مظاهر "الاستثنائية الأمريكية". ومن هذا المنطلق، يهدف التوسع الأمريكي إلى تحطيم النظام القديم وإقامة ما يسمى بـ"العالم الجديد". وقد كانت الاستثنائية هذه بمثابة قوة دافعة وذريعة لفكر أمريكا الإمبريالي وسياستها التوسعية على وجه الخصوص. وأصبحت أحد جذور السياسة الخارجية الأمريكية وعملت أيضا على تبييض فكرة مفادها أن الولايات المتحدة، كدولة مهيمنة، أفضل وأكثر تحضرا من الإمبراطوريات القديمة. وقال نيال فيرغسون، المؤرخ في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة: "بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يصرون على "الاستثنائية" الأمريكية، فإن رد الباحثين في تاريخ الإمبراطوريات لا يمكن أن يكون سوى أن الولايات المتحدة استثنائية شأنها شأن جميع الإمبراطوريات الـ69 الأخرى". --- نظرة إمبراطورية للعالم: من "نظرية القوة البحرية" إلى "نظرية استقرار الهيمنة" في مسار توسعها العالمي وبناء هيمنتها العسكرية العالمية، طورت الولايات المتحدة تدريجيا نظاما فكريا خاصا بها، يُستخدم كغطاء نظري لتعزيز هيمنتها العسكرية. فقد غيرت الحرب الإسبانية الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر بشكل عميق مكانة أمريكا في العالم. قبل اندلاع الحرب، كانت الأصوات في الولايات المتحدة المؤيدة للتوسع الخارجي قوية، وظهرت أيضا "نظريات" تدعو إلى التوسع. من بين هذه النظريات، لم تقم نظرية "القوة البحرية" لألفريد ثاير ماهان بتلبية الاحتياجات السياسية لنصير التوسعية ثيودور روزفلت في ذلك الوقت فحسب، بل أصبحت أيضا داعما لتطوير البحرية الأمريكية. وكان لـ"نظرية القوة البحرية" تأثير عميق على التطور العسكري والهيمنة العسكرية للولايات المتحدة. فانتقلت من الاستيلاء على قناة بنما والسيطرة على البحر الكاريبي إلى تشكيل "الأسطول الأبيض العظيم"، والتوجه نحو الشرق الأقصى والمحيط الهادئ، وامتلاك قواعد بحرية في جميع أنحاء العالم. وهكذا، سيطرت الولايات المتحدة تدريجياً على المحيطات. في بداية القرن العشرين، كان لتكوين العلاقات الدولية وتطور النظريات ذات الصلة تأثير كبير على السياسة الخارجية الأمريكية. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة قوة عظمى، وهو ما تزامن مع نمو ونضج وتطور نظرية العلاقات الدولية. وكانت الولايات المتحدة "مركز الأبحاث" لهذه النظرية، وقدمت مدارسها النظرية مثل الواقعية والليبرالية الأساس والمبادئ التوجيهية للولايات المتحدة في سعيها للحفاظ على الهيمنة وكذلك تدخلها العسكري في الخارج. تتمحور المدرسة الواقعية حول سياسات القوة، ومن بين عناصر هذه المدرسة، تعد الواقعية الجديدة هي النمط المهم، حيث تقول إن المجتمع الدولي يعيش في حالة من الفوضى، والبقاء والأمن هما الأولويات الأساسية للدولة، والقوة العسكرية هي العنصر الأول لسلطة الدولة. وتؤمن الواقعية الهجومية بأنه كلما تفوقت دولة ما عسكريا على الدول الأخرى، كان ذلك أكثر أمانا لها. وتأمل كل دولة في أن تصبح الدولة ذات القوة العسكرية الأقوى في النظام الدولي، أما النتيجة المثالية فهي أن تصبح دولة مهيمنة في النظام الدولي حتى يتسنى لها ضمان البقاء. أما الليبرالية فتؤكد على أن الناس يتمتعون بحقوق غير قابلة للتصرف، وهذا المنطق يسمح لما يسمى بالدول الحرة بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى بذريعة قضايا حقوق الإنسان، وأن أفضل سبيل لحماية حقوق الإنسان في البلدان الأخرى هو تحقيق ما يسمى بـ"الحرية والديمقراطية" فيها، وأن إقامة عالم يتألف من بلدان ديمقراطية هو "السبيل الأمثل" لتحقيق السلام العالمي. إن تشكل هذه النظرية وتطورها أعطى للولايات المتحدة دافعا وحافزا كبيرين للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وإحداث تغييرات في النظام بتلك البلدان. كما أثارت نظرية استقرار الهيمنة ونظرية الاستقرار أحادي القطب ونظرية السلام الديمقراطي اهتماما وجدلا كبيرين في الأوساطر الأكاديمية والسياسية. فنظرية استقرار الهيمنة ترى أن وجود القوى المهيمنة يمكن أن يجلب السلام والاستقرار النسبيين للنظام الدولي، بينما "يقود التراجع النسبي للقوة الوطنية للولايات المتحدة وضبط النفس في استخدام القوة إلى حقبة من التعايش غير المستقر بين القوى العظمى". أما نظرية الاستقرار أحادي القطب فهي موروثة ومطورة عن نظرية الاستقرار المهيمن، وتعتبر أن عالم ما بعد الحرب الباردة هو نظام أحادي القطب مستقر تقوده الولايات المتحدة، وأن النظام أحادي القطب يمكن أن يجلب السلام الدائم. إن "عدم فعل الكثير يمثل خطرا أكبر من فعل الكثير... بالنظر إلى توزيع القوة، فإن الدافع الأمريكي من وراء التدخل مفهوم. ففي كثير من الحالات، كان تدخل الولايات المتحدة مدفوعا بالطلب، وهو ما يمكن أن يتوقعه المرء في نظام لديه قائد واحد واضح". هذه النظرية هي انعكاس لوضع الولايات المتحدة في العالم وتباين القوى الدولية بعد الحرب الباردة، وتفسير نظري للتدخلات الخارجية التي تقوم بها الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، تعد نظرية "السلام الديمقراطي" أيضا أحد الأسس المهمة بالنسبة للولايات المتحدة لكي تسعى إلى الهيمنة العسكرية تحت غطاء الديمقراطية بعد نهاية الحرب الباردة. ويقوم محور هذه النظرية على الفرضية الأساسية التي تقول إن الدول الديمقراطية نادرا ما تشن (أو لا تشن على الإطلاق) حروبا ضد بعضها البعض، وبالتالي فإن تعزيز الديمقراطية من شأنه أن يعزز من السلام والاستقرار في العالم. وإن توسع الناتو شرقا الذي بدأ في التسعينيات، والضربات الجوية التي شنها الناتو بقيادة الولايات المتحدة على يوغوسلافيا عام 1999 بزعم أن "حقوق الإنسان فوق السيادة"، والإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي بالقوة في عام 2011 باسم "المسؤولية عن الحماية"، وغيرها من العمليات العسكرية الأخرى هي كلها تجسيد "للقيم الليبرالية والديمقراطية" الأمريكية. في الواقع، لا يمكن لأي من هذه النظريات أن تصمد أمام اختبار التاريخ. بغض النظر عن كيفية صياغة هذه النظريات، فإنها جميعا تدافع عن الهيمنة والمصالح العسكرية الأمريكية وتخدمها. وفي جوهرها تقبع الأفكار الإمبريالية الأمريكية المبنية على النزعة العسكرية والتوسع والتدخل والتبييض الأخلاقي. وسيستمر هذا الفكر في ممارسة تأثير عميق على مسارها نحو تعزيز الهيمنة العسكرية. 1.3 الدوافع الأساسية للهيمنة العسكرية الأمريكية يمكن النظر إلى سعي الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الهيمنة العسكرية وتوسيعها من منظور يتألف من ثلاثة دوافع أساسية - المصالح والإستراتيجية والسياسة الداخلية. --- المصالح: طبيعة توسّع رأس المال استنادا إلى تجربة اليونان القديمة، قال المؤرخ اليوناني ثوسيديدس إن الروابط الوحيدة الموثوقة سواء بين الأفراد أو الدول هي تلك التي تتعلق بالمصالح المشتركة. حتى أن جورج واشنطن، مؤسس الولايات المتحدة ورئيسها الأول، أسس هذا المبدأ كمبدأ عام للحكومة: أي أنه بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، المصالح تمثل المبدأ الحاكم. تؤمن الماركسية بأن الاقتصاد هو أساس السياسة، والسياسة هي انعكاس للاقتصاد. ووفقا للنظرية الماركسية، لا يمكن للمجتمعات الرأسمالية أن تجد في داخلها سوقا مناسبة لسلعها ومكانا مناسبا لاستثمار رأس مالها، وبالتالي فهي تميل إلى استعباد المناطق غير الرأسمالية وحتى الرأسمالية، من أجل إيجاد أسواق للمنتجات الفائضة وفرص استثمار لفائض رأس المال. إن الهيمنة العسكرية الأمريكية كظاهرة سياسية هي نتاج النظام الاقتصادي الذي تعتمد عليه، أي الرأسمالية. ويتوافق مسار هيمنتها إلى حد كبير مع مسار توسع رأس المال: فبعد حصولها على الاستقلال، دفعت الولايات المتحدة حدودها غربا وجنوبا، وسرقت الأراضي والموارد، وحصلت على سوق محلية واسعة، وأكملت التصنيع والتوسع الحضري والميكنة الزراعية، الأمر الذي وفر ظروفا مواتية لها لكي تصبح قوة رأسمالية. لقد وضعت نصف الكرة الغربي تحت نفوذها بـ"عقيدة مونرو" واحتلت "الدول الذهبية" الغنية بالموارد على أطراف الإمبراطورية. في عام 1898، اندلعت الحرب الإسبانية الأمريكية، وتم تقسيم المستعمرات من جديد. اكتسبت الولايات المتحدة سيطرة تجارية على المحيط الهادئ وجزره وأراضيه الساحلية. ومع اتخاذها "سياسة الباب المفتوح" في عام 1899 كرمز، تنافست الولايات المتحدة مع أوروبا على المصالح في آسيا. ثم وضعت، خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، السوق العالمية وشريان الحياة للاقتصاد بين يديها. ومن أجل حماية الموارد الإستراتيجية اللازمة لهيمنتها العسكرية، سيطرت على مناطق تذخر بموارد مثل النفط والمعادن، وخاصة منطقة الشرق الأوسط الغنية باحتياطيات الطاقة. فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك: لقد حرضت على استقلال بنما، ومن ثم استولت على حق حفر قناة بنما وحق استئجارها الدائم. وساعدت في إسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطيا لرئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، وهو ما ساعد على توسع شركاتها النفطية في الشرق الأوسط. ومع وجودها العسكري طويل الأمد في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر والبحرين وغيرها من دول الشرق الأوسط، شنت حرب الخليج وحرب العراق للتعامل مع الدول "المارقة"، وأنشأت النظام في صناعة النفط، وعززت أمن الطاقة لديها. ونشرت قوات في سوريا بشكل غير قانوني للحصول على فرص للسيطرة على آبار النفط والغاز ومناطق إنتاج الحبوب الرئيسية في سوريا. وأرسلت طائرات محمولة على متن سفن بل وحاملات طائرات للقيام بدوريات في مضيق هرمز، من أجل خنق قناة نقل الطاقة المهمة في العالم. ترى الولايات المتحدة أن أي بلد مهيمن يجب أن يسيطر على المواد الخام ومصادر رأس المال والأسواق، وأن يكسب ميزة تنافسية في الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية. وأن الوسائل العسكرية هي أسهل الطرق للحصول على الموارد والأسواق، "لأن الغزو يمكن أن يساعد في زيادة القوى العاملة والمواد التي يمكن استغلالها في المنافسة المستقبلية مع الدول الكبيرة الأخرى". --- الإستراتيجية: السعي إلى تحقيق القوة المطلقة والأمن المطلق في النظام العالمي الذي تتصوره الولايات المتحدة، تعتبر نفسها في مركز الكون المتداخل. في هذا الكون المتداخل، تمارس القوة من خلال المساومة المستمرة والحوار والتواصل والسعي لإبرام اتفاق رسمي، على الرغم من أن هذه القوة تنبع في نهاية المطاف من مصدر واحد -- وهو واشنطن، حيث تُمارس الألعاب وفقا للقواعد الوطنية الأمريكية. من وجهة نظر الحكام الأمريكيين، تشكل الهيمنة العسكرية أهمية كبيرة في سعيهم إلى اكتساب القوة المطلقة في مختلف أنحاء العالم، وتوسيع القوة يمكن أن يؤدي بدوره إلى تغذية هيمنتهم العسكرية. ووفقا لما قاله توماس بارنيت، كبير مستشاري وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في عهد إدارة بوش، فإن توسع الهيكل الأمني للولايات المتحدة بدءا من عام 2001 حولها إلى "وحش عسكري ضخم"، تتمثل وظيفته العالمية الرئيسية في تولي المسؤولية عن السياسة العالمية والاقتصاد وحماية "النواة" الأمريكية من خلال "تصدير الأمن" ومعاقبة الأجزاء الجامحة والمضطربة من مناطق ما بعد حقبة الاستعمار. إن الهيكل الأمني الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، شأنه شأن ذلك الذي سعت إليه العديد من الإمبراطوريات في التاريخ، هو رمز للتوسع المفرط. فالخبراء الإستراتيجيون الأمريكيون يرون أنه لن يتسنى الحفاظ على الأمن القومي إلا من خلال التوسع، وأن التهديدات من شأنها أن تدفع البلدان الأخرى إلى الخضوع. ولقد تمسكت الولايات المتحدة بفكرة تحقيق الأمن من خلال التوسع على طريقها نحو الهيمنة العسكرية. مع عدم وجود دولة قادرة أو مستعدة لتحدي الهيمنة الأمريكية في العالم، فإن توسعها العسكري مستمر. وهنا سوف نأخذ توسع الناتو شرقا كمثال على ذلك. إن الناتو، باعتباره نتاجا للحرب الباردة، كان لا بد وأن يختفي مع نهاية الحرب. ولكن من أجل الحفاظ على هيمنتها العالمية والسعي لتحقيق الأمن المطلق، قادت الولايات المتحدة خمس عمليات توسع للناتو شرقا، وزادت عدد دوله الأعضاء من 16 إلى 30 دولة. لم تتوقف وتيرة التوسع قط، وهناك خطط توسع جديدة جارية الآن. بل لقد وسع نفوذه إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ من أجل تعزيز فكرة "عولمة الناتو". وتشير البيانات إلى أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة شكّل 38 في المائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي في عام 2021، وتجاوز مجموع الإنفاق العسكري للدول الأخرى التي تحتل المراكز العشرة الأولى في هذا الصدد. وشكّل الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو معا 55 في المائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وسترتفع النسبة إلى 61 في المائة إذا تم ضم حلفاء أمريكا في المحيط الهادئ، وهم أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. إن السعي إلى تحقيق الأمن المطلق والاقصاء السياسي والاحتواء العسكري ضد طرف معين لن يساعد في إنشاء إطار أمني، بل قد يكون سببا في تعقيد الوضع الأمني والوقوع في مزيد من الاضطرابات. --- التلاعب بالسياسة الداخلية: المجمع العسكري-الصناعي قال كارل فون كلاوزفيتز عن العلاقة بين الجيش والسياسة في كتابه ((عن الحرب)) إن "الحرب ليست سوى استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى". إن للتوسع العسكري الأمريكي والهيمنة العسكرية الأمريكية سوقا سياسية فريدة من نوعها. فمختلف القوى وجماعات المصالح في السوق السياسية تؤثر بدورها على الهيمنة العسكرية الأمريكية. والمجمع العسكري الصناعي، باعتباره جزءا من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، اختطف السياسة الأمريكية ودفع "نظام العجلة الحربية" الأمريكي إلى الأمام. كان الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور قد اقترح عبارة "المجمع الصناعي العسكري" في "خطاب الوداع" في 17 يناير عام 1961. وهي تشير إلى الزواج بين المنظمة العسكرية القوية وصناعة الأسلحة في الولايات المتحدة. ويضم المجمع الصناعي العسكري الآن بشكل أساسي أربعة كيانات: إدارات الأمن العسكري، والمؤسسات ذات الصلة بالدفاع، والكونغرس، والمؤسسات الأكاديمية. كما صار يضم وسائل الإعلام ومنظمات الضغط وغير ذلك من الوحدات. إنه تحالف ضخم من جماعات المصالح الفائقة. لكل منها مصالح متكاملة وتُشكل معا علاقة شاملة تقوم على الاعتماد المتبادل والتعاون. إن لديهم احتياج كبير إلى تعزيز الهيمنة العسكرية الأمريكية، وهم قادرون على ممارسة نفوذ سياسي ضخم وتقاسم ثمار الهيمنة. في مارس 2022، كتب فرانكلين سبيني، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية، يقول إنه على مدى السنوات الثلاثين الماضية، تواطأ المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مع وسائل الإعلام الأمريكية ومراكز الفكر والأوساط الأكاديمية ووكالات الاستخبارات. وسوف يكسب كل فرد في سلسلة المصالح هذه الكثير من المال من الصراع بين روسيا وأوكرانيا. /يتبع/ ■

مشاركة :