درست مقرر نظريات التخطيط في كل مراحل الجامعة وطوال مسيرتي التعليمية والأكاديمية، سواء في مرحلة البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه. كان الاعتقاد السائد حول نظريات التخطيط هو أن يكتسب الطالب المفاهيم والنظريات الخاصة بالشكل العمراني، ومراحل تطور المدن عبر التاريخ ودراسة النماذج الوصفية للمدن. ولكن في الواقع، فإن نظريات التخطيط تعنى بتأصيل جوهر عملية التخطيط والإجراءات الخاصة بصناعة القرار في المدن وما يشوبها من نزاعات أيديولوجية وتدخلات لقوى المصلحة المتضاربة. قضايا العدالة في التخطيط وحقوق الفئات المستضعفة، والمصلحة العامة والتنوع الاجتماعي، وآليات المشاركة والهيمنة الاقتصادية، ومحاربة الفقر، وتوفير فرص العمل، والحفاظ على البيئة والموارد كانت من أكثر القضايا المطروحة في سياق فهم دور المدينة والأبعاد المؤثرة فيها. ورغم صعوبة استيعاب هذه المفاهيم، خاصة لطلاب مرحلة البكالوريوس، كونها تخضع لاعتبارات متنوعة منها سياسة توزيع الموارد في المدن والأقاليم، وطبيعة المشاركة المجتمعية ومستوياتها، ودور النشاط الاقتصادي وقوى السوق والتي تختلف من دولة إلى أخرى؛ إلا أنها تؤصل لديهم الأساس المنهجي لبناء جوهر المدينة، والقدرة على التحليل بعيدا عن الإطار الشكلي. في الواقع، لا يمكن بناء مدينة مُنتجة قادرة على تلبية احتياجات المجتمع لترتقي بأساليب المعيشة دون أساس جوهري يدعم مشاركة أصحاب المصلحة، ويعزز تفاعل المجتمع، ويحافظ على مبدأ العدالة الاجتماعية. إن بناء نماذج مادية لمدن مظهرية سيكون مصيرها الفشل المحتوم مستقبلا حتى وإن حققت نجاحات لحظية. فالبناء المادي لا يكون إلا على أساس جوهري يضمن مبدأ الاستدامة، وصلاح الجوهر بالضرورة يقود إلى استقامة المظهر. كما أن استيراد نماذج معلبة لمدن عالمية ومحاولة توليفها في سياق المدن المحلية، هو أشبه بوضع محرك طائرة نفاثة داخل عربة يجرها حصان!. إن مبادئ التخطيط العمراني تؤكد على فهم السياق المحلي، والإقليمي، والوطني، والظروف المكانية والزمانية. وعليه فإن المنتج العمراني المحلي يعكس الهوية الاجتماعية والثقافية، ويتأثر بالبعد الاقتصادي والبيئة المحيطة. إن عدم استيعاب المفهوم الشامل للتخطيط العمراني، باعتباره العنصر المحرك للتنمية بكل أبعادها سيؤدي إلى بناء مدن هشة، غير قادرة على التكيف مع احتياجات المجتمع. يقودنا عدم فهم نظرية التخطيط إلى تفسيرات خاطئة لكثير من الظواهر التي تواجه المجتمع الحضري، سيتم تفسير مشكلة الازدحام المروري والتلوث والإسكان على أنها مشكلات مستقلة خارج سياقها الحضري، وهذا يقود إلى حلول خاطئة. وفقا لهذا المنظور، يتم حصر دور المخطط العمراني كرسام متخصص في توليد المخططات وتقسيم الأرض وتوزيع المدارس والخدمات، وتخصيص مساحات للحدائق العامة والشوارع ومسارات المشاة. كل ذلك يحدث في إطار من القص واللزق بعيدا عن استيعاب التوجهات الوطنية والأهداف الاستراتيجية؛ بل وبعيدا عن فهم مسار التخطيط والإجراءات التي قادت إلى توليد هذا المنتج العمراني. بعبارة أخرى، بناء مدن دون استيعاب الأساس المنطقي لعملية التخطيط ولماذا نخطط؟ وكيف نخطط؟ وما مراحل صناعة القرار؟ ويتضرر المجتمع تلقائيا نتيجة عملية التخطيط هذه، والقائمة على أساس التوزيع المكاني للسكان والخدمات في إطار يتأثر بقوى السوق وأصحاب النفوذ. نتيجة لذلك، تتوسع المدن دون أساس منطقي وبعيدا عن فهم الموارد الذاتية لها، خاصة المياه ومصادر الطاقة والثروات الطبيعية. كما تنشأ المناطق العشوائية وتظهر الطبقية الاجتماعية والتمييز العنصري كنتيجة حتمية لضعف السياسات العمرانية التي لم تقدم حلولا معيشية قادرة على استيعاب كل شرائح المجتمع، بما فيهم ذوو الدخل المنخفض. تعطينا نظريات التخطيط صورة ذهنية للمستقبل الحضري والمشكلات التي يمكن أن تواجه المجتمع مع النمو السكاني، وتخصيص الموارد، واحتكار الإنتاج. باختصار، نظريات التخطيط تساعد على فهم جوهر التخطيط العمراني ودوره في تحسين أساليب المعيشة، والصحة العامة، وخلق فرص أفضل للتعليم والعمل.
مشاركة :