قياس مؤشرات الأداء سلاح ذو حدين، فالشركات والمؤسسات تسعى جاهدة لتحسين الكفاءة، ومن أهم الأدوات لرفع الكفاءة هي قياس مؤشرات الأداء. ومع ذلك، كما هو الحال مع أي أداة، قد يؤدي التطبيق غير السليم إلى نتائج غير متوقعة، بل وأحياناً قد تؤدي إلى نتائج عكسية، والخطورة أن تتحول المؤشرات لوحش لا يمكن السيطرة عليه، يشوه كفاءة المنظمة، وكما قال الخبير الاقتصادي تشارلز غودهارت: "عندما يصبح المؤشر هدفاً، فإنه يتوقف عن كونه مقياساً جيداً". مؤشرات الأداء ضرورية لسبر كفاءة العمل، ولكن إذا أصبحت محور التركيز الوحيد، فقد تؤدي إلى رؤية نفقية خطيرة، تضلل الموظفين عن الصورة الأكبر وهي تحسين الأداء العام. فمن الناحية النظرية، يجب أن يسير تحسين مؤشرات الأداء جنباً إلى جنب مع تحسين الكفاءة، ومع ذلك، في الواقع، هناك دائماً طريقة "للتلاعب" والالتفاف على مؤشرات الأداء. ومن الأمثلة على المؤشرات السطحية هي حقبة حرب فيتنام، كان وزير الدفاع الأميركي، روبرت ماكنمارا، يتميز بشغفه الشديد للتحليل الإحصائي. وقبل أن يشغل منصبه كوزير للدفاع، كان ماكنمارا رئيساً لشركة فورد لتصنيع السيارات، حيث كان مهووسًا بالأرقام والإحصائيات بشكل لافت، وهو أول من أدخل التحليل الإحصائي في الجيش الأميركي عندما تولى منصب وزير الدفاع الأميركي أثناء حرب فيتنام، وطبق ماكنمارا نهجه الإحصائي وركز على قياس مؤشرات الحرب، فقد كان يعتبر عدد القتلى الفيتناميين وعدد المعارك التي تمكنت القوات الأميركية من الانتصار فيها، كمؤشرات رئيسة للنجاح. ومع مرور الوقت، شهدت الإحصائيات تسارعًا في عدد القتلى الفيتناميين وزادت عدد المعارك التي انتصرت فيها القوات الأميركية. وعلى الرغم من الانتصار في أكثر من ألف معركة وتجاوز عدد القتلى المليون قتيل، فقد خسرت أميركا الحرب في النهاية. هذا المثال يبرز أهمية الانتباه إلى الفرق بين المؤشرات السطحية والأهداف الجوهرية وبين الحوكمة الحقيقية والحوكمة الوهمية لهذه المؤشرات. فالنجاح في تحقيق المؤشرات يمكن أن يكون أحيانًا خادعًا ولا يعكس الحقيقة، كما حدث في حرب فيتنام، وهي ما أكدت المقولة القديمة "انتصر في جميع المعارك وخسر الحرب". مرة أخرى مؤشرات الأداء مهمة جداً لقياس كفاءة العمل، ولكن جعلها كل شيء، يؤدي إلى تركيز قصير النظر على التحسين العددي السطحي، وغالباً على حساب تحسين الأداء الفعلي. هذه الظاهرة واضحة بشكل خاص في المنظومات المعقدة من الدرجة الثانية، وهي المنظومات التي تغير سلوكها بناءً على ردود الفعل عن نفسها. والإنسان ضمن هذه الفئة المعقدة التي تغير سلوكها بطرق غير متوقعة كنتيجة للتفاعل مع مؤشرات الأداء. والآن نأخذ على سبيل المثال نظام التعليم. يهتم العديد من الطلاب بدرجاتهم أكثر من إتقان المعرفة، لماذا؟ لأنهم ربطوا النجاح فقط بالحصول على درجات جيدة، بدلاً من استيعاب المعرفة. بالنسبة للعديد من الطلاب، طغى التركيز على الدرجات على الجوهر الحقيقي للتعلم، وهو اكتساب المعرفة وفهمها. هذا التصور القاصر للنجاح ليس مجرد اعتقاد لدى الطلاب، بل أصبح تصوراً ممنهجاً في صلب هيكل نظام التعليم، فنادرًا تجد من يقيس الفهم والمهارة، وجلهم منصب على قياس الحفظ. وهي ممارسة خاطئة تتجاهل القيمة الحقيقية للتعليم الشامل. ولا يقتصر لغز المؤشرات على الطلاب؛ فالأساتذة معرضون للمشكلة نفسها، والدليل على ذلك، الفضيحة الأخيرة التي تورط فيها مارك تيسييه لافين، رئيس جامعة ستانفورد وهي من الجامعات العريقة، مثال مؤسف على أن السعي الأعمى إلى تحقيق المؤشرات فقط أدى إلى التلاعب والتزوير العلمي، وتنبع هذه الفضيحة من الضغط لتلبية مؤشرات الأداء المتعلقة بعدد المنشورات وتصنيف الجامعة، والتي أدت بدورها إلى نشر بيانات ملفقة، وهذا مثال للضغوط الواسعة النطاق التي يواجهها الأكاديميون على مستوى العالم، مدفوعة إلى حد كبير بمقاييس تصنيف الجامعات ومؤشرات أداء سطحية لا علاقة لها مباشرة بكفاءة الجامعة ولا بكفاءة خريجها. إن السعي الدؤوب لتحقيق هذه الأهداف، في أكثر الأحيان، يضر بنزاهة البحث ويقوض روح العمل الأكاديمي، وهذا ناتج عن تبني مؤشرات منفكة عن جوهر كفاءة مخرج الجامعة ألا وهو الطالب. وتجدر الإشارة إلى أن صحيفةالإيكونوميست أعدت تصنيفاً للجامعات وفق القيمة الاقتصادية لخريجي الجامعات، يهدف هذا النهج إلى قياس المردود المالي الإضافي الذي يحصله الطلاب من خريجي كلية معينة مقارنة بالكليات الأخرى، كما يأخذ نظام التصنيف في الاعتبار العديد من العوامل، بما في ذلك البيانات الديموغرافية وحجم المؤسسة والتخصصات الأكاديمية. تقدم هذه المنهجية منظوراً بديلاً للمنظور التقليدي من خلال التأكيد على التأثير الملموس على الفائدة الاقتصادية للطلاب على المدى الطويل. فلو خرجنا عن المؤشرات التقليدية التي تعتمد بشكل كبير على عدد الأوراق الأكاديمية، وهي ممارسة يمكن أن تشجع بشكل غير مباشر على نشر الأوراق البحثية المزيفة من خلال ما أصبح شائعاً في الأوساط العلمية ويطلق عليه "مصانع الأوراق الأكاديمية"، إلى مؤشرات ترتكز على جودة المخرج الرئيس للجامعة وهو الطالب كالنموذج الذي قدمته صحيفة الإيكونوميست، عندها نستطيع ربط أداء الجامعة بالجوهر الحقيقي لمخرجاتها. بالتوازي مع ذلك، كان كذلك لقطاع الرعاية الصحية نصيبه من الفشل الناجم عن مؤشرات الأداء السطحية. وأخطر مثال على هذا هو في أحد أقسام وحدات الطوارئ، حُدد مؤشر معالجة الحالات في القسم بمعدل مدته لا تزيد على أربع ساعات، وهو إجراء عرض سلامة المرضى للخطر بطريقة غير مباشرة، فبدلاً من إعطاء الأولوية للحالات الخطيرة، حفز هذا المؤشر الأطباء على علاج المرضى الأقل خطورة أولاً لضمان مغادرتهم القسم قبل مؤشر الحد الأقصى أربع ساعات. ونتيجة لذلك، تركت حالات أكثر خطورة في الانتظار! المأساة أن جهاز الحوكمة هو من وضع هذه المؤشرات البلهاء. لسوء الحظ، تمتد هذه العقلية إلى عالم الشركات، فعلى سبيل المثال، وضع هدف كزيادة إيرادات الغرامات من المخالفات المرورية، يؤدي إلى تحفيز الموظفين على ضبط مواقع الكاميرا لتحسين رصد السائقين الذين ينتهكون قواعد المرور، لزيادة الدخل المرتبط بالغرامة. وبالتالي، تحول هذا المؤشر من الهدف الحقيقي للغرامات المرورية وهو تقليل المخالفات المرورية إلى السعي لزيادة المخالفات المرور من أجل توليد إيرادات إضافية، وهذا مثال آخر على المؤشرات السطحية التي تؤدي إلى نتائج عكسية. وتجدر هنا الإشارة إلى قرار مجلس الوزراء الموقر بإنشاء المركز الوطني للتفتيش والرقابة، والذي يهدف إلى رفع معدلات الامتثال للأنظمة، وهي الغاية الحقيقية للرقابة والغرامات. تؤكد هذه الأمثلة على الدور المحوري الذي تلعبه مؤشرات الأداء في تشكيل السلوكيات، وبالتالي النتائج. عندما تبلور المؤشرات بشكل سيئ بأدوات حوكمة شكلية، فقد تحفز سلوكيات ضارة، حيث إنها توجه الأفراد والمنظمات لتحقيق أهداف ظاهرياً يعتقد أنها جيدة في حين قد تكون جوهرياً ضارة، أو لها آثار جانبية ضارة. لا يمكن إنكار فعالية مؤشرات الأداء كأدوات إدارية فاعلة، ولكن تكمن المشكلة في الممارسات الخاطئة لاختيار المؤشرات الشكلية بدلاً من المؤشرات الجوهرية بأدوات حوكمة مترهلة. فإن مؤشرات الأداء سيئة التصميم يمكن أن تعيث فساداً على نطاق واسع لا يمكن التنبؤ به، وفضيحة رئيس جامعة ستانفورد ليست منا ببعيد. لا توجد حلول سهلة، ولكن هناك حاجة إلى تحول في المنظور وعمق في الاختيار، نحن بحاجة إلى الابتعاد عن مؤشرات الأداء الشكلية إلى مؤشرات أداء جوهرية، مبنية على فوائد حقيقية مستدامة. ويتطلب ذلك إلى سبر أغوار مؤشرات الأداء والتعمق في الآثار الجانبية لكل مؤشر بآليات حوكمة مستقلة، بما يعكس قياس للمخرجات الحقيقية. فمثلاً قياس أداء الجمعات، هل هو بالتصنيف والترتيب العالمي ومن نشر علمي وخلافه، وهو مؤشر شكلاً جميل، ولكن هل يمكن قياس علاقته بجودة المخرج الأساسي للجامعة وهو الطالب، وحقيقة الأمر كما أشارت صحيفة الإيكونمويست أن قياس قيمة التحصيل المالي للطالب بعد التخرج وفترة بقائه خارج سوق العمل هي المؤشرات الجوهرية لجودة الجامعة. ومع ذلك، لا ينبغي أن نتجاهل العوامل غير القابلة للقياس التي لا تزال مهمة، كما أشار الخبير توماس جونسون: "ربما ما تقيسه هو ما تحصل عليه. وعلى الأرجح، ما تقيسه هو كل ما تحصل عليه. وما لا تستطيع قياسه، قد يضيع". ونحن نتعامل مع فخ الألغام المعقدة لإدارة الأداء، من الأهمية بمكان أن نتذكر أن مؤشرات الأداء هي وسيلة وليست أهدافًا حقيقية في حد ذاتها. فهي بمثابة معالم، وليست غايات، تمكننا من تتبع الأداء وتحسينه بطرق هادفة ومستدامة. ومثل أي وسيلة، لا تستمد فعاليتها من خصائصها، ولكن من مدى جودة استخدامها. لذا يجب أن نقيس بحكمة وتفكير، مع الأخذ في الاعتبار الآثار الجانبية الضارة المحتملة، والحفاظ على التركيز على الهدف النهائي، التحسين الحقيقي المستدام، بدلاً من مؤشرات السراب للعطشان يلهف وراءها يحسبها ماءً، فتنجح الحوكمة والمؤشرات وتفشل المؤسسة والمنتجات.
مشاركة :