ليس من السهل دائمًا فهم القوى الاقتصادية المعقَّدة التي تحكم حياتنا. ويُعَد الدولار الأميركي ـ العملة الأقوى في العالم ـ إحدى أهم تلك القوى. وفي محاولةٍ لفهم قوة الدولار، يتتبَّع هذا الكتاب رحلة دولار أميركي واحد حول العالم.تصحبنا الكاتبة وعالمةُ الاقتصاد والمذيعةٌ البريطانية دارشيني ديفيدفي كتابها "سطوة الدولار: رحلة مذهلة لدولار أميركي لفهم طبيعة الاقتصاد العالمي" في تلك الرحلة لمعرفة آلية عمل الاقتصاد العالمي، وتُحاول الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة، من بينها: ما الذي يحدث على أرض الواقع عندما ينتقل الدولار من مكانٍ إلى آخر حول العالم يوميًّا، وكيف يؤثر ذلك على حياتنا؟ ولماذا تُعَد الصين أكبر الدول المُصنِّعة في العالم، والولايات المتحدة أكبر مستهلك لمنتجاتها؟ وهل التجارة الحرة مفيدة حقًّا؟. ترى دارشيني ديفيد في كتابها الذي صدرت ترجمته عن مؤسسة هنداويوترجمة سارة فاروق ومراجعة هاني فتحي سليمان، أن الدولار ليس مجرَّد عملةٍ مثل بقية العملات. حيث يُعَد الدولار واجهةَ القوة الاقتصادية الأميركية. مثل جميع العملات، يمكن اعتبارُ الدولار مقياسًا لثروات الدول. نحن نسمع ساسةً ومعلِّقين يتحدثون عن قوةِ أمةٍ من حيث عُملتها: "انخفض سعر الجنيه اليوم"؛ "ارتفع سعر الين". بالطبع الدولار قويٌّ. إنه يمثِّل أقوى أمة على وجهِ البسيطة. وبالنسبة إلى أولئك الموجودين على الأراضي الأميركية، فإنه يمثِّل أيضًا قوةَ الحُلم الأمريكي.الدولار هو أيضًا واجهةُ القوة الأميركية والمصالح الأميركية. إن الدولار لا يجلِب القوةَ الشرائية فحسب؛ بل يجلِب النفوذ. إن امتلاك دولار، أو عدم امتلاكه، يمكن أن يمليَ الطريقة التي تعيش بها الشعوب على الجانب الآخر من العالم. اشتهرت دبلوماسيةُ الدولار، أي استخدامُ الاستثمارات أو القروض الأميركية للتأثير على السياسة في الخارج والوصول إلى الأسواق الخارجية، في جميعِ أنحاء أمريكا اللاتينية، لكن وجودها أصبح محسوسًا في جميع أنحاء العالَم منذ استقلال أمريكا. وتضيف أن الدولار يعتبرأكثرَ من مجرَّد رمزٍ للقوة والنفوذ: إنه أيضًا أحدُ أكثر مخازن القيمة ثقةً في العالم. فقد يجد عمالُ الإغاثة أن ضخَّ الدولارات بشكلٍ سريع هو أسرعُ طريقة لتوفير المعدَّات للتخفيف من وطأة أزمة إنسانية في المناطق التي تعاني حالةً من عدم الاستقرار الشديد. مع ارتفاعِ الأسعار في الأرجنتين في عامي 2001 و2002 وانخفاضِ قيمة البيزو بسرعة، رأى بعضُ الأثرياء أن إخفاء مُدَّخراتهم بالدولار تحت مرتبةِ السرير هو الخِيار الأكثر أمانًا. فالدولار مستقر، ومن ثَم فهو عملة بديلة شائعة. وبالمِثل، فهو المفضَّل لدى رجال الأعمال والساسة الفاسدين في كل مكان؛ إذ يتمتَّع بالقبول العام، ويسهُل إنفاقه. ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد. فالدولار هو أيضًا "العملة الاحتياطية" في العالَم، يتعلَّق الأمر بالثقة. فالدولار هو العملةُ الأكثر موثوقيةً في كل مكان، سواء بالنسبة إلى البنوك اليابانية التي تُخزِّن ثرواتها أو بالنسبة إلى تاجرٍ من بنما يُقايض في السوق. وحتى في روسيا السوفيتية، يُفَضِّل الكثير من الناس الدولارَ الأمريكي على الروبل الروسي. وتوضح دارشيني أنه نظرًا لأن الدولارَ هو العملةُ الأكثر موثوقيةً على وجهِ البسيطة، فقد أصبح أداةً قوية لإنشاء الاقتصاد العالمي الذي نحن جميعًا جزءٌ منه، شئنا أم أبينا. تحدُث العولمة لأننا وجدنا طرقًا لربطِ الناس معًا؛ والدولار هو جزءٌ أساسي من ذلك. إنه واجهةُ الاستقرار (وعدم الاستقرار) المالي العالمي؛ وحجرُ الزاوية لبقائنا (أو عدم بقائنا). إنه اللغة المالية التي تُعَد أساسًا لحياتنا جميعًا، أيًّا كانت العملات الورقية والعملات المعدِنية التي نستخدمها يوميًّا. إنه يدُل على مدى ترابط مصائرنا جميعًا. باختصار، قد ننظر إلى الدولار على أنه أداةُ العولمة، التي توزِّع الرخاء، ولكن ليس على الجميع.نظرًا لكون والديَّ من الرحَّالة، فقد أصبحتُ على درايةِ بالوجود الكلي للدولار منذ سنوات عمري الأولى. إنه، في النهاية، اللغةُ الشائعة المُستخدَمة في فواتير الفنادق من بروناي إلى باربادوس. واليوم، ربما يكون دفْعُ الدولار لعجلة الثروة في جميع أنحاء الولايات المتحدة هو أفضلَ ما يشتهر به، لكن بالرغم من ذلك، فإن اسمَه حتى ليس أمريكيًّا. كانت اﻟ "ثالرز"Thalers، أو اﻟ "دالرز" dolers. كما كانت تُعرَف أيضًا، عملاتٍ فضيةً استُخدمت للمرة الأولى في بوهيميا خلال القرن السادس عشر. تطور الاسم إلى النسخة الإنجليزية، "دولار"، والتي ظهرت حتى في مسرحية شكسبير "ماكبث" في عام 1606. استُخدم الدولار على نطاق واسع، بما في ذلك في إسبانيا والبرتغال، ومن ثَم شقَّ طريقَه إلى العالَم الجديد حيث نَهب الغزاة الإسبان مناجمَ الفضة في المكسيك لإنتاج عملاتٍ معدِنية من فئة الدولار. تسلَّل بعضها شمال الحدود إلى الأراضي البريطانية، مما سهَّل الأعمالَ التجارية؛ إذ لم تكن الجنيهات البريطانية (أو العملات البديلة، ومنها التبغ) متاحة. ثم حدَث الاستقلال، فتخلَّص الأميركيون من الجنيه، مثلما فعلوا مع الشاي، واتخذوا الدولار عملةً رسمية بشكلٍ كامل للولايات المتحدة في عام 1792. وتشير إلى أن الارتفاع المستمر لسعر الدولار خلال القرن العشرين يعكس نهوضَ النظام العالمي الحالي، وقد تزامن ذلك الارتفاعُ مع تفوُّق الولايات المتحدة. يبدو أن اكتسابَ الولايات المتحدة للمركزِ الأول يرجع في المقام الأول إلى الحظ بقدْرِ ما كان يرجع إلى التخطيط. في ثلاثينيات القرن الماضي، أضعفَ الكسادُ الكبير الولايات المتحدة وعُمْلَتَها، ولكن جاءت الحرب العالمية الثانية بعد ذلك، وبينما كانت أوروبا واليابان تضمِّدان جراحَهما، كانت أمريكا بصدد التوسُّط لإحلال سلام دائم. لقد جعلت الدولار عملةً للتجارة الدولية ووسيلةً للاستقرار. وقد ازداد تأثير الدولار مع تسارُع وتيرة العولمة. ربما أتاحت الحربُ الباردة وتداعياتها فرصةً لتغيير ذلك، لكن انهيار الشيوعية وتفكُّك الاتحاد السوفيتي خلق فراغًا، ويمكننا جميعًا تخمينُ العملة التي كانت مهيَّأة للاستفادة من الفوضى الناتجة. على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يُشكل أقلَّ من ربع اقتصاد العالم، فإن الدولار الآن يظهر في 87 في المئة من جميع المعاملات التجارية التي تتم بالعملات الأجنبية. وتقول دارشيني في هذه الأيام، ربما يكون وجهُ جورج واشنطن هو الأكثرَ استنساخًا على هذا الكوكب. فهو يُطبع على 17 مليون ورقة من فئة الدولار يوميًّا. "الرئيس الراحل" هو مجردُ واحد من العديد من الأسماء التي تُطلق على ورقةٍ من فئة الدولار. يوجد الآن أكثرُ من 11.7 مليارًا من الدولارات، بشتَّى أسمائها في اللغة الإنجليزية، في محافظ النقود، أو في أجهزة الصرَّاف الآلي، أو تحت مراتب السرير، أو في أدراجِ النقود بالمتاجر، بالإضافة إلى جميع الدولارات المُحتفَظ بها إلكترونيًّا في البنوك. بالنظر إلى التفوُّق العالمي للدولار، ربما ليس من المُستغرَب وجودُ نصف أوراق الدولارات المتداوَلة في العالَم خارج الولايات المتحدة.لم يكن من غير المألوف أن تسمع الاقتصاديين والساسة، لا سيما أعداء أمريكا، يتنبئُون بتراجع الدولار، خاصةً بعد الانهيار الاقتصادي عام 2008. ولكن تظل القوة المحضة للدولار قائمةً. لقد سمِعتُ ذلك لأول مرة بعد انتقالي إلى نيويورك عام 2006 لتقديم تغطية شبكة "بي بي سي" المالية ﻟ "وول ستريت". في ذلك العام، عرَض أحدُ الاقتصاديين توقُّعاته لسوق الإسكان الأمريكي في برنامجي. بعد صعوده بشكل مريح خلال العَقدين الماضيَين، انخفض الخط الموجود على الرسم البياني انخفاضًا حادًّا. كان هذا هو توقُّعه بِناءً على أدلةٍ دامغة ومعادلات جرى اختبارها جيدًا. كان الأمر مخيفًا، أشبهَ بنظرية المؤامرة. وكان من المُغري اعتبارُ ما قاله لا يهدُف إلا إلى إثارة الذعر ومن ثَم يتعيَّن رفضُه وتجاهُله. وترى أنه بعد عَقد من الزمان، لا تزال أميركا هي المهيمنة، ولا تزال تحظى عملتها بشعبية دولية كما كانت دائمًا. فالدولار هو الملاذ الآمن، ويبدو أن ما تفعله كلُّ عاصفة جيوسياسية هو تعزيز هذه السُّمعة فحسب. شهدت الصين توسعًا سريعًا، لكنها كقوةٍ عظمى لا تزال تُحلِّق في انتظار الفرصة. لا يزال الدولار لا تشوبه شائبة. إن العملة هي التعبير النهائي عن التفوق السياسي والاقتصادي لأمريكا؛ وكما سنرى، فإن الدولار الواسع الانتشار يساعد أميركا أيضًا في بسطِ سطوة قانونها خارج حدودها.وقد أكَّدت الأزمة العالمية كيف يتجاوز المالُ الحدود؛ فيمكن أن يكون للمعاملات التجارية في بلدٍ ما تداعياتٌ في كل مكان. إن المال هو المحرِّك الرئيسي للنظام وهو الغراء الذي يربطنا بعضنا ببعض. ومثل أي عملة أخرى، تعتمد قوة الدولار على الثقة؛ قد يعتبرها البعض ثقةً عمياء. لكن من دون هذه الثقة، أي إذا لم يثِق به أحد، سينهار النظامُ ومعه المجتمع. تتبعدارشيني الدولار في جميع أنحاء العالم، لإدراك قوَّته. ستشمل رحلتها عملاتٍ أخرى بجانب الدولار: اليورو والروبية والجنيه الإسترليني، وجميعها ذاتُ صلة. حيث تتبُّع النقود وهي تنتقل من شخص إلى آخر، سواء ماديًّا أو إلكترونيًّا، وتلقي الضوء على أساس المعاملات التي تشكِّل جميع جوانب عالمنا..وتبدأ برحلة عادية من إحدى ضواحي تكساس إلى "وول مارت"، أحدِ أكبرِ متاجر التجزئة في العالم، الذي يوفِّر الطعام والملابس للأميركيين بشكلٍ ينال رضاهم. يؤدي شراء أحد الأشخاص راديو بأسعارٍ معقولة بشكلٍ اندفاعي إلى سلسلةٍ من ردود الفعل المعقَّدة، متسببًا في انتقال دولار إلى الصين، حيث صُنع الراديو. كيف تنتج الصين هذه السلعَ بهذا الثَّمن البخس، ومَن المستفيد من ذلك؟ سنرى كيف تتناسب الدولارات مع طموحات الصين في واحدة من القصص العالمية الكبرى في عصرنا.وأين تخبِّئ الصين كلَّ أموالها؟ في بعض الأحيان في الأماكن التي لا تخطر ببالِ أحد، بما في ذلك نيجيريا، حيث نتَّجه بعد ذلك، إلى معرفة سبب اهتمام بعض البلدان بضخِّ أموالها في الخارج، وما إذا كان ذلك ناتجًا عن الإيثار أو الجشع. وتقول "يتطلب هذا الدينامو الاقتصادي وقودًا ليعمل، ولهذا السبب، ترسل الهند الدولارات إلى العراق، حيث سنفحص العالم الغامض للذهب الأسود. فالنفط الخام هو عنصر حاسم لبقائنا، ولسيادة الدولار. إنه يمثل نظامًا عالميًّا تتَّجه فيه كل الأنظار إلى المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط، لكن هذا قد يتغيَّر في القرن المقبل. يُعَد السلام العالمي من الأخبار السيئة بالنسبة إلى روسيا، الوجهة التالية للدولار. يمكن لأحدِ صانعي الأسلحة أن يرويَ قصة أو اثنتين عن الرقص المضطرب، والمهم في الوقت نفسِه، لوطنه مع الدولار: هذه لعبة قوة على نطاق عالمي.ومن روسيا نتوجَّه إلى برلين، قلبِ الاتحاد الأوروبي. ربما يوحِّد الدولار الولايات الأميركية الخمسين، لكن ألمانيا، سيدة أوروبا الكبرى، لديها تجربة مختلِفة تمامًا في منطقة اليورو. ما الذي يسبِّب نجاح اتحاد العملة؟ لماذا لم يتغلب اليورو على الدولار؟ وهل المملكة المتحدة مُحقة في إدارة ظهرها للاتحاد الأوروبي؟ على الرغم من تَفَوُّق الدولار، لا تزال لندن هي العاصمة المالية للعالم، على الرغم من أنها قد لا تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الكازينو، من حيث الفرص التي لا تُعَد ولا تُحصى لخسارة المال وكسْبه. كيف دفعتنا تلك المقامرات إلى أكبرِ أزمةٍ مالية على الإطلاق؟ بينما تضع المملكة المتحدة مستقبلها على المحكِّ مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نعود غربًا، حيث يستقر الدولار مرةً أخرى في جيبِ شخص أميركي، مما يُظهِر أن ازدهارَ حتى أقوى دولة في العالم، وهي الدولة التي تقف بمفردها في أغلب الأوقات، مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بازدهار بقية العالم.
مشاركة :