تقف هذه الدراسة "فن القصة لدى بسمة النمري..استبصار موضوعيّ وفنيّ" للناقدة ليديا راشد عند تجربة القاصة والفنانة التشكيلية الأردنية بسمة النمري بين فنّ القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً والفن التشكيلي، حيث أصدرت سبع مجموعات قصصية في الفترة 2002 ـ 2010 رسمت خلالها صورا كاشفة لأبعاد الواقع وعلاقات الأفراد الملتبسة والمعقدة داخله، وكشفت عن مقدرة كبيرة على الولوج إلى دهاليز النفس البشرية بصورة سلسلة تصور الإنسان وتتناول إشكالياته الداخلية من خلال بناء فني محكم. جاءت الدراسة الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون في ثلاثة فصول خصص الأول منها لحياة وثقافة وإنتاج الكاتبة موضوع الدراسة، كما تطرق للعلاقة بين فن القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، والثاني للقضايا الاجتماعية والفلسفية التي كانت موضع معالجات قصص الكاتبة، والثالث ناقش البناء الفني وتأثير كون الكاتبة فنانة تشكيلية على تشكيل رؤيتها وأفكارها في قصصها. والمجموعات القصصية التي تم تناولها تنوعت بين قصة قصيرة وقصة قصيرة جداً، وكانت عناوين المجموعات وتواريخ إصدارها كالآتي: "منعطفات خطرة" (2002)، "رجل حقيقيّ" (2003)، "حجرة مظلمة" (2004)، "أقرب بكثير مما تتصور" (2007)، "سفر الرؤى" (2008)، "كذلك على الأرض" (2009)، "وما لا يُرى" (2010). في إطار تناولها لحياة الكاتبة قالت الناقدة ليديا راشد "الوجع كان سيد الموقف الذي دفع الكاتبة إلى فن القصة؛ إذ عانت الكاتبة مع طفلتها المتوفاة "ماريا" معاناة كبيرة منذ كانت جنيناً إلى أن أنجبتها مصابة بشللٍ دماغيٍّ قاسٍ أمهلها سبع سنوات ثم سرقها الموت، تقول الكاتبة في مقابلة شخصية معها: "كانت هناك عملية دفع نحو فن القصّ، وكان الوجع سيّدها، يد الوجع التي طالتني، فَرَدَتْ راحتها على ظهري، وراحتْ تدفعني إلى كتابته، وإلى ترجمته من إحساسٍ يقلق سكينة الروح، إلى كلمات تحكيه، علّه يهدأ ويستكين إذْ يتحرّر من أسره داخل أعماق النفس السحيقة، وينطلق ليمتدّ على مساحات الصفحات البيضاء الواسعة يسكنها ويريحني منه". وأضافت "أثّرت وفاة ماريا "ابنة الكاتبة" على مسيرة القاصة الإبداعية؛ فهي سبب من الأسباب التي دفعت بالكاتبة إلى فن القصة، وانعكس أثره داخل أعمالها القصصية؛ إذ أهدت الكاتبة مجموعتها الأولى "منعطفات خطرة" إلى روح ابنتها الملاك ماريا؛ الأمر الذي يؤكد مدى تأثير الألم الذي أحسته الكاتبة من فقد ابنتها على مسيرتها القصصية، وظهرت ماريا أيضاً في مجموعة أقرب بكثير مما تتصور في قصة "قبلة معلقة"، ومجموعة "وما لا يُرى" في قصة "طفلتي"، وذلك يؤكد مدى تأثر الأم بفقدان ابنتها". وعن مفهوم الكاتبة لفنّ القصة، أوضحت ليديا راشد "تمتلك بسمة النمري مفهوماً خاصاً للقصة، فالنص القصصي بنظرها هو عالم مكتمل قائم بذاته، له مكانه وزمانه وقوانينه الخاصة به التي تحكمه، كما يمتلك فن القصة أطراً ومحدِّدات تتميز بها عن باقي الأجناس الأدبية، فأساس القصة هو فكرة تتناول اللحظة المعيشة وتحكي أفكار أبطالها وهواجسهم ومخاوفهم في لحظتهم تلك بلغة مرنة بسيطة سلسة متدفقة خالية من التعقيد، معتمدة في هذا على أسلوب التداعي الحر أو المونولوج لصياغة حوار الأرواح وترجمة الأفكار إلى كلمات، أما نهاية القصة فتكمن وراء انتهاء اللحظة التي يعيشها البطل، وما بعد ذلك يُترك للقارئ أن يختمها بنهاية تتفق ورؤيته الخاصة به، فالقصة لا تسرد واقعاً معيشاً تقودنا أحداثه إلى نهاية نتلهَّف إلى معرفتها. أما القصة القصيرة جداً، فتراها الكاتبة لهاثاً لكل شهقة تليها ومضة تترك أثرها حبراً على الورق، و لم يدفع الكاتبة شيء محدَّد إلى فن القصة القصيرة جداً، فتقول في مقابلة شخصية معها "لا أتخذ قراراً أني سأكتب الآن عن كذا.. بطريقةٍ تسمى كذا.. أو أرسم موضوعاً قد استقرّ بفكري مسبقاً، هي الكلمة تختار طريقتها بإرادتها الخالصة، كي تصل إلى روحي أولاً، لتتبلور في عقلي فكرةً ثانياً، ثم تأخذ بعد ذلك شكل الكلمة على الورق، فالكلمة هي سيف العقل وجسد الفكرة، وهي وعي وحياة توهب من خلالها، وهي القادرة على التغيير، والكلمة هي بذرة نزرعها في قلب الإنسان وروحه، نرعاها لتنمو وتغدو شجرةً تثمر أفكاراً، تتحوّل بالعمل وبالجهد وبالمثابرة إلى حقائق تغيّر واقع حياتنا إلى ما يناسب حياتنا الآن". تناولت الناقدة ليديا راشد علاقة فن القصة القصيرة بفنّ القصة القصيرة جداً، محاولة الإجابة عن أسئلة مثل: هل القصة القصيرة جداً هي ابنة شرعية للقصة القصيرة؟ وبماذا اختلفت عن أمها القصة القصيرة، وبماذا تشابهت؟ وما سبب مزج الكاتبة بين فن القصة القصيرة والقصيرة جداً في بعض المجموعات؟ وقالت إنّ أبسط تعريف شكلي للقصة هو أنها حكاية حدثت بين شخوص في زمان ومكان معيّنين، وما دامت (القصة القصيرة جداً) تحمل في مسمّاها مفهوم القصة، فمن الطبيعي أن ينطبق التعريف السابق عليها من حيث الإطار العام لعناصر البناء السرديّ. ثمّة اختلاف في تعريف القصة القصيرة بناءً على رؤية الناقد، فمنهم من اعتمد على زمن القراءة، فحدّد وقتاً لقراءة القصة، وآخر اعتمد على البدايات والنهايات المفتوحة للقصة، ومنهم من أكد ضرورة توفر بعض العناصر مثل الترابط المحكم والتشويق، كذلك نجد اختلافاً في تعريف القصة القصيرة جداً، حسب الزاوية التي يتناولها الناقد. وقالت "لعلّ القصة القصيرة جداً ابنة شرعية للقصة القصيرة في شكلها المعروف، إذ ما زال بناؤها الفنيّ في أغلب عناصره الرئيسية من زمان ومكان وشخوص وأحداث وحبكة مستنداً إلى مثيله في القصة القصيرة، وأحسب أنّ ما حصل من تغيير على هذا البناء هو نتيجة مجموعة من الظروف الاجتماعية والسياسية التي أصبحت تستوجب تغييراً في المادة المقدَّمة للقارئ، غير أنّ ثمة فرقين بارزين بين القصة الابنة والقصة الأم، يتمثل الفرق الأول في الحجم الصغير للقصة القصيرة جداً، ويبرز الفرق الثاني في فنّ اختزال كل عنصر من عناصر البناء الفني وطبيعة التفاعلات الحاصلة بين هذه العناصر.ويظهر الاختلاف بينهما في الاختلاف الكمي، ويتبدّى كذلك في الاختلاف النوعي الذي يتضح من خلال الكيفية السردية المستخدمة في كل من القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، فقد تعتِّم القصة القصيرة جداً الزمان والمكان، وقد تقتصر على شخص واحد هو الراوي، أو تقتصر الأحداث على حدث بسيط وصغير له أبعاد مختلفة بلغة مكثفة ومختزلة إلى حد كبير، فَصِلة القصة القصيرة جداً بالقصة القصيرة تتبدّى بصورة رئيسية في أنّ كلتيهما قائمة على بنية سردية، تنطوي على تتابع ما، في قصّ الحكاية أو عرض الحدث لإضاءة رؤى يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ، ونجد أنّ هذه الرؤى واضحة تظهر بيُسر في القصة القصيرة إذا قورنت بالقصة القصيرة جداً التي تحتمل التأويل المفتوح النابع من التشفير والتكثيف وفي ضوء هذه الرؤية أكدت الناقدة ليديا راشد أن بسمة النمري واحدة من القاصات التي دمجت بين فن القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا في مجموعة قصصية واحدة أكثر من مرة، ولا يوجد سبب محدَّد لمزاوجة الكاتبة لهذين الفنين.وأضافت أتوقع أنّ انتقال الكاتبة من القصة القصيرة إلى القصة القصيرة جداً يعود إلى أنّ القصة القصيرة جداً هي الأكثر قدرة على التعبير عن مكنونات الكاتبة بشكل يفوق أيّ جنس أدبيّ آخر، فهي فن يعبِّر عن الداخل والذات الفردية والأعماق في لحظة معيَّنة، قد تكون قصيرة جداً في زمنها، لكنها كبيرة في أثرها في أعماق الذات ودهاليزها، فالكاتبة تهتم اهتماماً ملحوظاً بالولوج إلى أعماق الذات وأحلامها ومخاوفها والتركيز على الهواجس التي تجري في الذهن، ولهذا نجد علاقة حميمة بين تجارب القاصة الحياتية وقصصها، الأمر الذي يؤكد اهتمامها بالداخل والتعبير عن ذاتها من خلال عمق اللحظة التي تقدِّمها عبر القصة القصيرة جداً، ولذلك، نجد أنّ الكاتبة تنتقل إلى فن القصة القصيرة جداً للتعبير عن هواجس الذات، والتركيز والتكثيف على الداخل من خلال ومضات نفسية شعورية تتجلى في القصة القصيرة جداً في لحظة عميقة، ولعلّ القِصَر والسرعة التي يتميز بها هذا العصر هما ما يميِّزان القصة القصيرة جداً، حيث أصبحت الحياة العملية أكثر سرعة بسبب التقدم التكنولوجي في السنوات العشرين الماضية، فأصبح الإنسان يميل إلى كل ما هو خفيف ولا يأخذ وقتاً كبيراً، فأصبحت وجبات الطعام وجبات سريعة، يأكلها الفرد بدقائق، وأصبحت الرسائل، التي كانت تحتاج وقتاً طويلاً، تصل من دولة إلى دولة بوقتٍ قياسيّ لا يتعدى ثوانٍ قليلة، فعصر العولمة والسرعة والإنترنت والهواتف الذكية، بما تحمله جميعاً من تسارع في وتيرة الحياة، خلق جواً ملائماً بانعكاسه على الأدب، إذ ابتعد القارئ عن الكتب والروايات الضخمة، ليتجه إلى الأعمال الأدبية صغيرة الحجم، فالتحولات الاجتماعية هي التي تفرض صعود شكلٍ أدبيّ وتراجع الآخر. وحول القضايا الاجتماعية والفلسفية التي تناولتها القاصة بسمة النمري من خلال مجموعاتها القصصية، رأت ليديا راشد أنها قدمتها بأسلوب خاص يستند إلى الخيال الذكي والمفارقات التي تنطوي على ثنائيات ضدِّية، فنجد الحلم والواقع، والأمل واليأس، والتحضر والتخلف، والحاضر والمستقبل، وقالت "امتلكت القاصة -كما أتوقع- بصمة خاصة وأسلوباً مميزاً بعيداً عن النمطية والطرائق التقليدية في القصّ منذ بداياتها، فعلى الرغم من أنها طرحت مواضيع متداولة ومطروقة في الساحة القصصية إلا أنها اشتغلت على تقديمها بأسلوب مميز ونظرة متفردة تعبِّر عن رؤيتها الخاصة، فقد طرحت القضايا التي شغلت تفكيرها وعبّرت عن رؤيتها وفلسفتها الخاصة في تأمل الحياة، محاولة من خلال طرحها الحداثيّ دمج القارئ مع القصة ليجد هو الآخر إجابات لتساؤلاتها/تساؤلات القصة. وأضافت أن الإطار الاجتماعي في قصص الكاتبة تضمن قضية الذكورة والأنوثة بما تشمله من توضيح موقف المرأة من الرجل، والكشف عن موقف الرجل من المرأة، وما يعتري هذه العلاقة من صراعات بين الطرفين، وقد اهتمت الكاتبة بقضايا المرأة وأولتها عناية خاصة، إذ سلّطت الضوء على قضايا مهمة تعاني المرأة منها؛ سواء كانت علاقتها مع الرجل أو مع المجتمع، فخاضت في قضية العنف، والوحدة والعزلة والتقاليد المهيمنة، والفقر، مع الكشف عما يمور في نفس المرأة تجاه هذا الظلم الواقع عليها. أما الإطار الفلسفي، فقد تضمن الحديث عن جدلية الحياة والموت وموقف الإنسان من هذه القضية، وكشف أيضاً عن أسئلة الوجود التي تعتري الإنسان ومحاولته البحث عن إجابتها، وناقشت الكاتبة كذلك موضوع الاغتراب من خلال الغوص في أعماق الإنسان وفهم طبيعته ونظرته إلى الأمور وعلاقته بالمجتمع الخارجي. وأشارت ليديا راشد إلى غياب موضوعات مهمة عن قصص النمري مثل المواضيع السياسية والوطنية، فلم تصرِّح الكاتبة بهذه الموضوعات، إنما يستطيع القارئ تأويل نص ما عدة تأويلات قد تحوي أحياناً تأويلاً سياسياً أو وطنياً، لكنها، فيما أرى، لم تضمِّن مجموعاتها قصصاً تتحدث عن السياسة أو الوطن بشكل خاص، فتقول في مقابلة شخصية معها: "لي في كل هذه المواضيع، وليس لي شيء منها حسب الطريقة التي ينظر القارئ من خلالها إلى النص، فأنا لا أورّط كلمتي في كتابات قد تحتمل تقييم الصواب أو الخطأ.. وقد تغيّر الأيام مصداقيتها، ببساطة أنا أكتب وأرسم الروح الخالدة الثابتة التي تراقب من عليائها دوران الزمان وتقلّب الموازين وتأرجحها وموت الأفكار لأجل انبعاثها من جدي". خصّصتُ الناقدة فصلا للحديث عن البناء الفني في قصص الكاتبة لما له من دورٍ بارزٍ في إيصال هدف القصة المنشود من خلال تضافر عناصر القصة جميعاً، سعت في هذا الفصل إلى الكشف عن عناصر البناء الفني التي ظهرت في الإنتاج القصصي للنمري، وتوضيحها، وإبراز خصوصية بعض العناصر في إيصال موضوع القصة، معرِّفة بكل عنصر من العناصر الفنية وموضِّحة لطبيعة ظهوره في القصص من خلال نماذج تطبيقية من قصص الكاتبة القصيرة والقصيرة جداً. وعرضت في نهاية الفصل لعلاقة الرسم بالأدب من خلال تبيان الوشائج بين النص السردي واللوحة الفنية التي عمدت الكاتبة إلى وضعها بجانب بعض القصص القصيرة والقصيرة جداً، من خلال الكشف عن شخصية الرسّامة بسمة النمري مقابل شخصيتها القاصّة، وكيف تجلّى الإبداع لديها من خلال جمع فنَّيْن في كتاب واحد.
مشاركة :