لن أتحدث عن معرض القاهرة للكتاب، ولا عن معرض الرياض بالمطلق. لن أتحدث مقارنا بينهما على امتداد تاريخ التجربتين، على أهمية المقارنة هنا، وإنما سأتحدث – بإيجاز – عن بعض ملامح تجربة شخصية مع هذا المعرض وذاك. فما سأذكره – إيجابا أو سلبا - له طابع الأحكام الشخصية؛ لكونه – في العموم – صادراً عن تجارب شخصية مع المعرضين اللذين أسهما في إمداد مكتبتي الخاصة بالمهم والنوعي والخاص. إن الخسارة الحقيقية التي لا أزال أستشعر ألمها، كانت في تلك الكتب التي اخترتها من المكتبات العشوائية، فاضطررت لتركها، إذ يستحيل أن أظفر بها بعد ذلك إلا على سبيل المصادفة النادرة جدا، بينما يسهل استدراك الكتب التي تباع عند دور النشر المعروفة، بعد ازدهار معرض الرياض للكتاب في السنوات العشر الأخيرة، بات من المتعارف عليه أن أهم معرضين في العالم العربي هما: معرض الرياض ومعرض القاهرة؛ رغم الاتفاق على أن معرض الرياض هو الأهم من ناحية القوة الشرائية التي تمثل الإغراء الأبرز للناشرين، وليس بالضرورة – بل ربما بالضرر! – الإغراء الأبرز للمهتمين بالقراءة، الذين ترتفع عليهم الأسعار المسعورة؛ جراء ارتفاع الطلب على الكتاب، واستعداد كثيرين لدفع ثمنه مهما تجاوز سقف المعقول المتعارف عليه في معارض الكتب التي تتناوب على أقطار العالم العربي. قبل سنتين، كتبت عدة مقالات عن ذكرياتي مع القراءة، وعن سقفها الذي كان محدودا بحدود بيئتي التقليدية، وعن محاولاتي البدائية لاختراق هذا السقف الخانق. وكان من أهم هذه المحاولات وأكثرها جدوى، تلك الزيارة الأولى التي شددت فيها الرحال إلى أهم معرض للكتاب في العالم العربي: معرض القاهرة للكتاب، يوم كنت في السنة الثانية من الدراسة الجامعية في كلية اللغة العربية – فرع جامعة الإمام بالقصيم!. في تلك السنوات، كنت أبحث عن بعض الكتب التي يشير إليها بعض المؤلفين في هوامش مؤلفاتهم، أو يقتطفون منها بعض النصوص؛ فلا أجدها في المكتبات المتوفرة في محيطي، فحتى مكتبة الجامعة لم تهتم بتوفير إلا ما تراه رائجا ومشهورا، والأهم، أنها لا توفر إلا الكتاب الذي لا يكون متهما بأي تهمة دينية أو سياسية أو ثقافية، مهما صغرت التهمة، بل ومهما كانت متوهمة/ ظنية حتى عند سدنة خطاب التحصين الإيديولوجي. عندما دخلت الجامعة، كان أساتذتنا، وخاصة المصريين منهم، وهم الأكثر، يشيرون – في لغة إعلانية/ دعائية لا تخلو من فخر واعتزاز - إلى معرض القاهرة للكتاب؛ بوصفه المعرض الأكبر عربيا، المعرض الذي يستطيع أن يُوفّر لك ما تبحث عنه من كتب ممنوعة، يتعذر عليك أن تجدها داخل وطنك، والأهم، تأكيدهم أن المعرض يُوفّره لك بأرخص الأثمان، مؤكدين على هذه النقطة؛ عندما يعقدون مقارنة صريحة بين أسعار الكتاب في المكتبات التجارية في القصيم، وأسعارها في معرض القاهرة للكتاب. آنذاك، كانت القاهرة في مخيلتي العامة، هي قاهرة الكتاب، قاهرة المعرفة، قاهرة الأدب، هي قاهرة العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، والرافعي، والزيات، ونجيب محفوظ..إلخ، فضلا عن البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل. هؤلاء هم القاهرة، هم مصر بكل جمالها وألقها، مصر التي ناجيتها في الليالي الحالمة طوال سنواتي التي سبقت دخولي الجامعة. القاهرة خصوصا، ومصر عموما، كانت – ولا تزال - معشوقتي لأجل عيون هؤلاء وأمثال هؤلاء من النبلاء معرفيا. وقد أكون متطرفا إن قلت: إن مصر بالنسبة لي، هي إما أن تكون مصر الليبرالية التي أخرجت كل الجمال المعرفي/ الأدبي المتمثل فيما كتبته أقلام هؤلاء، أو لا تكون. إذن، ثمة مُحفّزان يدفعان بي لزيارة معرض القاهرة الكتاب في تلك المرحلة المتقدمة من علاقتي بالكتاب. الأول: الحصول على الكتاب الممنوع أو شبه الممنوع. والثاني: الحصول على الكتاب بسعر يصل إلى ربع ثمنه في كثير من الأحيان. وللحق، فثمن الكتاب كان حافزا مُهمّا لا يستهان به لمن هو في مثل حالي، أي لطالب يحاول تأسيس مكتبة خاصة يعدّها جنّته على الأرض، بينما هو لا يملك موردا ماليا إلا مكافأة الجامعة للطالب: (850 ريالا). ولهذا، كنت أوفّر منذ السنة الأولى مبلغا ماليا للزيارة الممكنة في السنة الثانية، وكنت أعِدُ نفسي باقتناء الكثير؛ عندما أقسم المبلغ المتوفر لدي على الثمن المتوقع لكل كتاب؛ فأخرج – منتشيا - بعدد الكتب الذي يتراوح بين 250 إلى 300 كتاب. مازلت أذكر تلك الرحلة الأولى إلى القاهرة بكل تفاصيلها، رغم مرور أربعة وعشرين عاما، وكأنها حدثت بالأمس. أذكر سفري من مطار القصيم إلى مطار جدة، وانتظار طائرة القاهرة لأكثر من خمس ساعات. أذكر تلك اللحظات، ففي ساعات الانتظار جلس بقربي شاب أنيق كنت لمحته في رحلتي من القصيم إلى جدة. طال الجلوس، فتعارفنا، وعرفنا أن هدفنا معرض الكتاب. منذ ذلك اليوم نشأت بيننا صداقة، بدأت بالفعل؛ بعد تعييني معيدا في قسم الأدب في كلية اللغة العربية. يوم التقيت به في المطار؛ كان للتو قد عُيّن معيدا في قسم النحو في كلية اللغة التي كنت طالبا فيها آنذاك. وقد شدني فيه أن لديه شغفا معرفيا واضحا، وأنه يتقاطع معي في الاهتمامات الأدبية التي كنت أهيم في وديانها. وقد تأكد لي فيما بعد، أي بعد تعزز صداقتنا بفعل الزمالة، أنه رجل الانفتاح بحق، رجل منفتح على الأدب الحديث؛ بقدر ما هو منفتح على الأدب القديم، مستوعب للاختلاف المجتمعي؛ بقدر ما هو مستوعب للاختلاف الفكري. وهذا انفتاح تسامحي نادر في شاب قصيمي، خاصة أوائل التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم. ولهذا لم يكن من المستغرب أن تجد لديه لمحات وتنبؤات تسبقان وقتهما، خاصة في عالميْ: الفكر والسياسة؛ لأنه كان قادرا على فهم وجهات، ومن ثم سلوكيات، كثير من المؤثرين في ساحة الفكر والصراع الإيديولوجي. والأهم أنه يتمتع بأخلاق عالية قلما تتوفر في كثير من المهتمين بالثقافة؛ فضلا عن غيرهم. إنه د. سليمان البشري، الذي يشغل الآن منصب الملحق الثقافي للمملكة في تونس. في القاهرة، ولمدة أسبوع كامل، كان معرض الكتاب يستهلك وقتي من العاشرة صباحا إلى السادسة مساء. لم أحضر معرضا دوليا قبل ذلك. ولهذا كانت تلك الصالات الصاخبة بدور النشر مبهرة لي بكثرة ما فيها، وبتنوعه أيضا. لكن، ما أخذ من وقتي وجهدي هي تلك المكتبات العشوائية في الساحات، أقصد (البسطات) التي تبيع الكتاب القديم المستعمل، والتي تجمع بين رخص أثمانها وندرتها. ففي هذه المكتبات، وبعد ساعات من تقليبك للكتب المُغبرّة، والمتراكمة من غير ترتيب ولا فصل بين مواضيعها وحقولها المعرفية، تقع على كنوز ثقافية لم تكن لتحصل عليها في أي مكان آخر. ورغم الإرهاق الناتج عن الوقوف لساعات طويلة، وعن الحساسية التي تثيرها تلك الكتب القديمة، إلى درجة أني كنت أمسك المنديل بيد والكتاب باليد الأخرى، مع فواصل من العطاس الشديد، فإن بعض ما حصلت عليه منها لا يزال إلى اليوم محل احتفاء به في مكتبتي، ولا أرضى بإعارته لأي أحد، كائنا من كان!. لكن، بقدر البهجة التي أسرتني نشوتها على مدى سبعة أيام في هذا المعرض: معرض القاهرة، كانت الحسرة تأخذ بي في كثير من الأحيان. كنت أبتهج بما أحصل عليه وأقتنيه، وأتألم حسرة جرّاء عجزي عن اقتناء كثير مما أراه أمامي من كتب تدعوني لنفسها وتقول: هيت لك، فأقف عاجزا. هناك الكثير مما أراه أمامي، وأحلم أن أراه على رفوف مكتبتي الصغيرة في قريتي الصغيرة، وهناك المبلغ المادي المحدود الذي يخنقني في غمرة هذه اللحظات الساحرة. لقد كنت أختار بعض الكتب، وأضعها عند الدار التي تبيعها، ولا أشتريها إلا بعد البحث، والتأكد من أنني لن أجد غيرها مما تكون له الأولوية عليها. وهكذا، فقد ضحّيت – متحسرا - بكثير مما اخترته بعد عناء طويل؛ لأني وجدت أنني لا أستطيع شراء كل ما وقع عليه اختياري. إن الخسارة الحقيقية التي لا أزال أستشعر ألمها، كانت في تلك الكتب التي اخترتها من المكتبات العشوائية، فاضطررت لتركها، إذ يستحيل أن أظفر بها بعد ذلك إلا على سبيل المصادفة النادرة جدا، بينما يسهل استدراك الكتب التي تباع عند دور النشر المعروفة، إذ لا بد وأن تعرضها في السنوات القادمة في أكثر من معرض على امتداد العالم العربي. وبالتالي، يمكنني الظفر بها مستقبلا، عكس تلك الكتب التي تأتي مصادفة وتذهب مصادفة في عمر الإنسان. (يتبع) ma573573@hotmail.com
مشاركة :