لقد بقيت وقائع الذاكرة المتعلقة بالكتاب حية؛ كأنما أعيشها اللحظة، ومنها ذلك الموقف الذي سردت مقدمته في المقال السابق، حيث وقفت أمام موظف الخطوط، وفيما يشبه انتحار اليائسين، قلت له، وبلغة حاسمة وقاطعة كحد السيف، وكأني أحرق كل سُفني من ورائي: انظر، ليس لدي إلا هذا المبلغ القليل، وبه سآخذ الحقيبتين، أما الكراتين الأربعة، فسأتركها هنا... في المطار!. قلت هذا، وأنا مضطرب المشاعر جدا، فلا أعرف؛ هل كرهت في تلك اللحظة اهتمامي بالكتب، وتحملي لهذا العناء، بالشقاء الذي لا تفرضه عليّ وظيفة ولا دراسة؛ أم كرهت إهمال معارض الكتب في بلدي، وهو الإهمال الذي اضطرني لتكبد هذا العناء في بلد آخر، على ضعف خبرتي وقلة مالي، هل كانت نتائج هذه اللحظة ستحدد طبيعة علاقتي بالكتاب مستقبلا؛ فيما لو رجعت بخفي حنين، بل بقبض الريح؛ بعدما ملكت جواهري بجهدي وبمالي؟!. كنت أدرك سلفا أن الكتب التي لا تصرخ عناوينها في الرقيب طالبة المنع، والتي قد تكون مبررات منعها – وفق شروط الرقابة – أقوى، لن يستدل عليها الرقيب؛ لأنه لن يعرف مضامينها؛ إلا إذا كان من كبار الأدباء أو من كبار المثقفين كان الموظف شابا دمث الأخلاق. لم يكن لدي ما أقدمه بعد الذي قلته، فأصبح الموقف لديه واضحا، وهو يراني أنتظر الحكم النهائي لأعمل بمقتضاه. سألني: هل كل هذه كتب؟. وهنا، ارتحت لسؤاله، ورأيت فيه بداية انفراج. لهذا أجبت عن سؤاله بالإيجاب، وزدت – من غير أن يسألني – : أنا كل رحلتي من أجل معرض الكتاب في بلدكم، وهذا ما اشتريته منه، بعد تعب أسبوع كامل. في إجابتي حاولت توظيف الاحترام العام للثقافة، وفي الوقت نفسه استثارة الحس الوطني، فكأنني أقول له بطريق غير مباشر: أنا لا أحمل بضاعة للتجارة، بل ولا بضاعة استهلاكية (فلا تتعامل معي بلغة المال)، بل أحمل معي معرفة تستحق أن تُعامل بشكل مختلف، وأيضا أنا زبون لبلدك، لمعرض معرفي وتجاري في آن، وعليك تقدير هذا وذاك، أي الدفع لتعزيز موقف بلدك المعرفي والتجاري. صمت لبرهة، ثم قال: ممكن أطلع على ما فيها؟. حينئذٍ أحسست بالأمل يفتق كُوّة فيما اختنق من أنفاسي. بمجرد أن فاه بسؤاله؛ تلاشت المشاعر المضطربة إلى حد كبير، وأصبحت تتوحد في اتجاه واحد، حيث بصيص من النور الواعد في آخر النفق. قلت له: نعم، افتحها، فمعي ملصق لإعادة تغليفها. مد يده إلى أحدها، فمددت يدي، وأعنته على فتحه. رأى الكتب، ومَرّ عليها ببصره مرورا سريعا، ثم قال - وكأنه يعيد سؤاله السابق -: كلها كتب، قلت: نعم، هل تريد الاطلاع عليها؟. قال: لا، خلاص!. ثم قال: ضع كل شيء على السَّير. هنا، صرخت من أعماقي بصرخة انتشاء مكتومة مفادها: لقد نجوت. وضعت الكراتين، وأبقيت الحقيبتين. قال: ضع الحقيبتين. قلت: سيكون الوزن أكثر (فقد تصورت أنه سيأخذ كل ما بقي معي من مال، مقابل تجاوزه عن 85 كلغم زيادة، ويكتب أن الزيادة 10 أو 15 كيلو). قال: ضعها كلها، لن آخذ منك أي شيء. ومع أني كنت أود اصطحاب الحقيبتين معي، إلا أنني في غمار فرحتي العارمة، وضعتهما بكل سرور، وأنا غير مصدق أنه سيتجاوز عن كل هذه الزيادة، وبلا مقابل. في لحظة/ لحظات لم أكن أعي تفاصيلها؛ لاضطراب مشاعري التي تجاذبتها نوازع الفرح من مسارب شتى؛ وجدته وقد أنهى كل شيء، أعطاني كرت صعود الطائرة، مع ابتسامة صافية تفوح برائحة الانتصار. أخذت كرت صعود الطائرة وأنا أكرر شكره، فقال: (ما فيش داعي للشكر، هذا دعم للثقافة، هو التخلف اللي العرب فيه إلا بسبب إهمالنا للثقافة). لا أزال أتذكر عبارته هذه بلهجته المصرية العذبة. وفيما بعد، كنت عندما أتذكر ابتسامته التي تشي بالانتصار، وأتساءل بيني وبين نفسي: انتصر على ماذا؟؛ أدرك – بالقرائن - أنه شعر بأنه ينتصر على أشياء كثيرة من أجل الثقافة التي من الواضح أنه يعدّها شرط الخروج من واقع التخلف العربي العام، وهو التخلف الذي يعاني ويلاته على أكثر من صعيد، كأي عربي. لم يكن ليتخذ مثل هذا الموقف؛ لو لم يكن ينطوي على وعي ثقافي يدرك به محورية المعرفة في مسار مكافحة البؤس العام. ربما اعتقد أنه بمثل هذا الدعم (الذي يشكل نوعا من الخيانة لمهام وظيفته في شركة طيران) يُوجّه ضربة حانقة إلى واقع التخلف الذي يشير إليه، وأنه – في هذه اللحظة – ينتصر للعلم على المال، بعد أن رأى – رأي عين – أن المال، ممثلا بشركة الخطوط، سيتغلب – بقسوة بالغة - على فرد مثله، لا يملك إلا حلما ثقافيا يراود مستقبلا غامضا. أي أن هذا الفرد/ أنا أصبح في وعيه ينتمي إلى المستقبل الواعد الذي يتمناه (عالم اللاّتخلف/ الحضارة)، بينما الشركة ومصالحها تنتمي إلى الواقع الذي يرفضه (عالم التخلف/ اللاّحضارة)، والذي يرى أنه مصدر بؤسه وبؤس ملايين العرب من أمثاله. الآن، تجاوزت عقبة لم أكن أعرف عنها شيئا من قبل، عقبة اصطدمت بها دون سابق إنذار، وبقيت عقبة طالما سمعت عنها. بمجرد أن تجاوزت مكاتب الطيران حاملا كرت صعود الطائرة، بدأت أفكر في الرقيب الإعلامي المنتظر في بلدي، والذي هو عقبتي الكأداء في مطار جدة. طبعا، أدركت في غمار الموقف الأول المتمثل في المشكلة مع زيادة الوزن، أن ثمة مشكلة سأقابلها بشأن الوزن في رحلتي الداخلية من جدة إلى القصيم. لكن، كان إحساسي يتخطى هذه المشكلة بقناعة متفائلة، أيقنت أنني إن تجاوزت عقبة الرقيب، وأصبحت كتبي في حوزتي على أرض الوطن، فكل شيء قابل للحل، ولو أن أضعها – بثمن - عند أي محل في جدة، وأعود إليها مرة ثانية بالطائرة أو بالسيارة. وكان قراري الواضح، أن الوزن إن وقف عقبة دون اصطحابها معي، فسألغي الرحلة، وسأذهب بحافلات (النقل الجماعي) من جدة إلى المدينة المنورة، ومن المدينة إلى القصيم. وصلت مطار جدة، وكان قد بقي على رحلة القصيم خمس ساعات. وقفت عند موظف الجمارك في جدة، وبمجرد أن سألني عن محتويات حقائبي وكراتيني، وأجبته بأنها كتب، أحالني إلى غرفة الإعلام. سألني موظف الإعلام عن وظيفتي، فأجبته بأنني طالب، فقال: لماذا كل هذه الكتب؟ قلت: هذا اهتمامي منذ أكثر من خمس سنوات. قال: هل تشتغل ببيع الكتب؟ قلت: لا. ولأني سمعت من قبل، أنهم قد يتسامحون في الكتاب الممنوع إذا ما كان نسخة واحدة - لأن المشكلة لديهم تتحدد في كون الكتاب نسخا كثيرة للتوزيع بيعا أو إهداء - فقد أردفت قائلا: هي لي فقط، ولن تجد من أي كتاب أكثر من نسخة واحدة، وإن وجدت من أي كتاب نسختين؛ امنعها كلها. وهنا، ومن خلال هذه الإجابة المتوترة، بدا واضحا أنني أستبطن في مشاعري معركة خفية بين المنع والسماح حتى قبل أن تبدأ. قال الرقيب: هل فيها كتب ممنوعة؟ فأجبته فورا: لا، أصلا أغلبها كتب أدبية، ومجلات أدبية، كفصول وإبداع. بهذه الإجابة التفصيلية، أردت أن أشتت انتباهه بالتفاصيل، وكنت أعرف أنه لا يعرف عن هذه الدوريات شيئا، مع أني كنت سمعت أن بعض أعداد مجلة إبداع منعت بمبررات أخلاقية!. لم يكن في حوزتي من الكتب التي تُحرّض عناوينها على المنع إلا بضعة كتب (6 أو7 فقط)، وكنت قد نزعت أغلفتها، ووضعت عليها أغلفة أخرى. وطبعا، كنت أدرك سلفا أن الكتب التي لا تصرخ عناوينها في الرقيب طالبة المنع، والتي قد تكون مبررات منعها – وفق شروط الرقابة – أقوى، لن يستدل عليها الرقيب؛ لأنه لن يعرف مضامينها؛ إلا إذا كان من كبار الأدباء أو من كبار المثقفين. ومن هنا، كنت واثقا من نفسي، فلا كتاب يستطيع هذا الرقيب أن يقول لي بعد أن يراه: لماذا كذبت علي، وقلت: لا يوجد ما هو ممنوع. وحتى لو شك في كتاب ما، سأجادله فيه، وحتى لو قرر منعه بتعسف، فلا ضير، ليمنع كتابا أو كتابين أو ثلاثة، سأعتبرها ضريبة عابرة، أو طُعْماً للرقابة؛ لتمرّ بقية الكتب بأمان. أخذ الرقيب آلة حادة، وبدأ بفتحها. فتح أول كرتون، ومر ببصره على ما هو ظاهر منها، ثم فتح الثاني، ولم يجد فيه ما يلفت النظر. قبض على المجموعة العليا من الكتب، ووضعها على الطاولة، وأخرج مجموعة من وسط الكرتون، وأمسكها بيده، وأخذ يتصفح عناوينها. وفجأة، التفت إلي، وقال فيما يشبه النصر - وكأنه قبض علي متلبساً بجريمتين: بالكذب عليه، وبمحاولة تهريب كتاب ممنوع -: وهذا ليس ممنوعاً؟!. كان يمسك بكتاب: (من قتل حسن البنا) لمحسن محمد، وهو كتاب كبير، يقع في أكثر من 600 صفحة. وفعلا، كانت صورة الغلاف تعكس حالة عنف أو إرهاب، إذ توجد صورة مرسومة لحسن البنا، وعليها نقط دماء تحكي واقعة القتل/ الاغتيال. ولا شك أن الناشر تعمد الإثارة في هذه الصورة / الرسم، من أجل الترويج للكتاب. كنت قد قرأت الكتاب من قبل، إذ هو موجود في المكتبة العامة في البكيرية، المكتبة التابعة آنذاك لوزارة المعارف. والكتاب يحكي قصة البنا والإخوان، ويرصد تطورات الأوضاع في مصر خلال الأربعينيات من القرن العشرين، وإحداثيات الثورة اليمنية الأولى التي بدأت بمقتل الإمام يحيى، وتدخّل الإخوان في الثورة، والتطورات التي انتهت بمقتل البنا. ولهذا كنت متأكدا تماما أن ليس في الكتاب ما هو ممنوع. طبعا، لو جلست أشرح له مضامين الكتاب، فلن يقتنع، هذا إذا كان لديه القدرة والاستعداد للسمع والفهم/ التفهم. تذكرت ما كان يتداول في الإعلام إبان حرب تحرير الكويت من نظام صدّام، أن أفضل وسيلة للدفاع: الهجوم. قلت له فيما يشبه التحدي: مستحيل أن يكون هذا الكتاب ممنوعا، لأني قرأته في المكتبة العامة، وهي مكتبة حكومية (وضغطت على نبرات صوتي وأنا أنطق: حكوميّة، فما تسمح به الحكومة لا يكون ممنوعا)، وأنا اشتريته فقط؛ لأني وجدته يباع في مصر بخمسة جنيهات. ثم أكدت منطق التحدي بقولي له: وأنا جالس الآن عندك، اطلب من دليل الهاتف رقم المكتبة العامة في البكيرية، واسألهم عن هذا الكتاب، هل هو عندهم أم لا، وإذا لم يكن عندهم؛ فامنع كل كتبي، بل وبلّغ عني أنني حاولت تهريب كتاب ممنوع. أَحسَّ بأنني واثق من كلامي، بل وأحس – أو أنا أحسست بأثر رجعي فيما بعد – أنني أعطيت المسألة أكثر مما ينبغي. كان يبدو أنه يأخذ مسألة منع الكتب وسؤالي عن هذا الكتاب ببساطة، وكنت آخذها بأهمية بالغة؛ لأنني لم أمر بالتجربة من قبل، ولأن القرار البسيط في مثل هذا الموقف، والذي قد لا يعني لهذا الرقيب شيئا، هو قرار خطير بالنسبة لي. إزاء التحفّز الواضح من قِبلَي، والرتابة التي تنعكس برودة موقف من قِبَله، بدا وكأنه مشغول بما هو أهم من التدقيق على كتاب عابر مع مسافر عابر. كان الجو العام في مكتبه يوحي أن ثمة ما هو أهم مني ومن كتبي. لهذا، أعاد الكتب التي على الطاولة إليّ، وقال – وهو يعود لكرسيه خلف طاولته: خذها. ma573573@hotmail.com
مشاركة :