لم يحمل ديوان خلود المعلا مصادفة عنواناً ذا دلالة صوفية هو «امسك طرف الضوء» (دار فضاءات)، فالشاعرة تقترب في قصائدها من منابت الشعر الصوفي ولكن بعيداً من الترميز المغلق والمصطلحات المعقدة، بل هي تداني الصوفية بصفتها مناخاً شعرياً تحيا القصيدة وتتحرك داخل أرجائه الفسيحة. إنها الصوفية الشعرية المشرعة على أفق رومنطيقي حيناً ووجداني حيناً، تكون الذات فيه هي النقطة والدائرة، ناهيك عن الحب في أحواله الموّارة والمتقلبة. ولعل «إمساك» الشاعرة بـ «طرف الضوء» ليس إلا إمساكاً بالقصيدة والشعر اللذين يضيئان ليل العالم ويجعلانه ليلاً أليفاً تخاطبه الشاعرة قائلة: «تعال ضمّني إليك أيها الليل/ كم احبك». ولا تتوانى عن الاعتراف بأنها تترك روحها «تتيه في بساتين النور» على غرار الشعراء الذين خبروا أحوال التجلي الروحي. قد توصف تجربة خلود المعلا في هذا الديوان بـ «تجربة الصعود» التي تواجه بها كل ما يعيق الكائن من التحرر والانعتاق من أسر المادة والخيبة والألم والوحدة والجفاف والقفر (كل شيء مقفر حتى الذاكرة، تقول). وهي تعتبر أنّ «في الصعود كل شيء يظهر على حقيقته»، وحتى الكون كـما تقول، يصبح نقياً «حين نعلو». وتـحـتدم هذه الرغبة في التحليق عندما تكتشف الشاعرة أنها أشبه بعصفور يُفتح له القفص كي يطير لكنه يكتشف أنّ لا جناحين له. إنها المأساة الإنسانية التي يؤكدها الصراع بين الحلم والواقع، بين الأمنية والعجز عن تحقيقها. لكنّ الشعر يظل هو الحافز على الارتقاء وعلى تخطي المعوقات التي تحول دونه: «أرقى جبل روحي بصعوبة لأستحث الغيم»، تقول الشاعرة. وعندما ترقى هذا «الجبل» لا تنثني عن ملامسة «الزرقة»، كما تعبر. اختارت خلود المعلا الابتعاد عن القصائد الطويلة في ديوانها الجديد، مؤثرة كتابة قصائد قصيرة تقترب أحياناً من روح قصيدة «الهايكو» اليابانية. قصائد مكثفة لغة ومعاني، مقتصدة في أسلوبها، لا تسعى إلى الاطناب والتفسير، تقول ما تبتغي قوله بهدوء وشفافية. وقد تبدو القصائد هذه كأنها تكمّل بعضها بعضاً لتصنع الديوان. وقد يكون من الممكن قراءتها من دون التوقف عند العناوين، فهي تخضع لسياق شعري واحد وينتظمها خيط داخلي متين. ولعل هذا التداخل هو ما منح الديوان وحدته ورسّخ أواصر الصنيع الشعري. أنها قصائد تخفي وتضمر أكثر مما تعلن وتفشي. وفي أحيان تبرق لحظات شعرية في طريقة خاطفة: «يظهر/ أصعد إليه بلهفة/ فيغشاني ضباب المساء»، «قلبي سديم»، «لست سوى قلق»، «أذبتك الليلة في كأس الزنجبيل»... وما يزيد من وحدة القصائد ويرسخ سياقها العام هو استخدام الشاعرة للضمير المتكلم «الأنا» الذي يشكل اللحمة التي تحوك القصائد واحدة إلى أخرى. القصائد القصيرة لا تتخلى عن هذه «الأنا» إلا نادراً جداً، وهي إذا غابت، تظل مضمرة، نظراً إلى ذاتية التجربة التي تخوضها الشاعرة. هذا شعر ذاتي في معنى أن الذات هي مرجعه الأول والأخير، كما في معنى أن الذات الشاعرة هي مرآة العالم والحياة، مرآة الآخر و «الأنا». وما يؤكد ذاتية هذه التجربة على سبيل المثل ورود مفردة «قلب» أكثر من عشرين مرة في القصائد. والقلب عنصر صوفي ورومنطيقي بامتياز، وهو، كما علمنا الصوفيون، «الحضور بالحق عند الغيبة عن الخلق». ويرى الجيلاني أن العالم هو مرآة القلب، فالأصل هو القلب والفرع هو العالم. يحضر القلب حضوراً روحياً ووجدانياً وعشقياً: «عليّ أن أهرول إلى قلبي»، «لا أسمع سوى جلبة قلبي»، «يجثم قلبي»، «كل شيء يتصل بالقلب له رائحة»، «اسقط رذاذاً في قلب حبيبي»... وهنا لا بد من تذكر ما قاله الشاعر الفرنسي فيكتور هيغو في هذا الصدد: «أيتها المرأة اصغي إلى قلبك/ لا تقرأي كتاباً سواه». وعلى غرار القلب تحضر حال الوحدة أو العزلة، وهي حال شعرية صرف، الوحدة الصامتة، الوحدة التي تمثل فعل الهروب من العالم والخلود إلى سكينة الداخل، الوحدة التي تحقق الشرط الروحي... تقول الشاعرة: «مقدّر لي أن أحيا وحيدة/ ولهذا استيقظ كل صباح بشيء من الحكمة»، «أنا كائن من وحدة»، «تشع مراياي بالعزلة»... ومثلما قال الشاعر الفرنسي راموز (ليس هناك من عزلة حيث يكون الشعر) تؤكد الشاعرة أن العزلة التي تعيشها تصبح «عامرة بالقصائد» وتقول أيضاً: «ها أنا في منتصف وحدتي/ أنام مبتهجة في حضن قصيدة». العزلة مهما كبرت أو ثقلت تظل فسحة للقاء مع الذات، لمحاورة هذه الذات شعرياً. إنها مثار الإبداع في شتى أشكاله. في إحدى القصائد الجميلة والطريفة تحدد خلود المعلا ما تسميه «أدوات» الحياة التي يحياها الشاعر عادة: الصمت الذي لا أطيق، الزمن الذي أخاف، العمر الناقص الذي يمر، القلب الذي لا يسمعه أحد، الوطن البعيد، الانتظار، الهذيان... هذا التحديد هو بمثابة بيان صغير ومتواضع لكنه يختصر فعلاً أزمة الشاعر والشعراء في هذا العالم. و «الأدوات» هذه إنما هي نابعة من صميم القصائد والتجربة التي تحياها الشاعرة، الشاعرة التي تلف الأمس على جسدها «مثل حبل دخان» والتي تتناسل في روحها «كائنات شتى» والتي تعلن في ما يشبه الدعوة الأبيقورية، مواجهة الخواء والخوف والزمن المنقضي: «الحياة هنا/ فلنغتنمها». الشاعرة الإماراتية خلود المعلا صوت فريد، دافئ دفء الأنثى الكامنة في دخيلائها، صوت متقد بنار الوجد، مبرح بالشوق والحنين. إنها شـاعرة الحـياة في ما تعني الحياة من نبض وألق، شاعرة الصمت في ما يحمل من تأمل ومجاهدة، شاعرة مغرقة في الذات ومنفتحة في آن على العالم، مغرقة في الماضي ومشرعة على الحاضر الذي يعني في ما يعني، التمرد والتجدد والنظر إلى الأمام.
مشاركة :