أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  • 11/10/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حقيقة ما آلت إليه أوروبا التي لم تعد "ولو ظاهرا" أوروبا العدالة الاجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان المعلنة وحرية الرأي والتعبير والمساواة وقدسية الروح البشرية والإنسانية كما روج لها على مدار العقود الماضية الطويلة. فحرب غزة الكاشفة وكأنها قد أعادت أوروبا لحقيقة واقعها السياسي المؤمن بذاتيتها المتعالية على من سواها من البشر، التي تراهم دونها مكانة وإنسانية وقدسية بشرية إن تقاطعت وتضاربت أي من حقوقها مع المصالح الأوروبية في الحقبة ما بعد الاستعمارية، التي مارست قبلها وأثناءها الإبادة البنيوية بعد بسط سيطرتها وسيادتها على العالم الآخر بما فيه الأرض والبشر. هي ذاتها أوروبا التي شهدت في حقب متعددة عزلها لليهود في غيتوهات مغلقة على أطراف المدن، وهي ذاتها من قامت العديد من دولها بطردهم من أراضيها وتشتيتهم وإقصائهم مجتمعيا، وصولا لارتكاب الهولوكوست الألماني بحقهم، بعد أن تمكنت النازية من تأطير ثقافة بيروقراطية الدولة المعطلة لأي شعور إنساني لدى المنتسبين لها حتى لا يشعروا بالذنب تجاه أيٍ من ممارساتهم القمعية والإبادية بحق اليهود والغجر والمعاقين الألمان، الذين كانت تراهم عبئاً غير مقبول وجوده وتواجده في دولة الرايخ. هي أوروبا نفسها العاملة بتفاهة الشر كما وصّفتها المفكرة اليهودية الألمانية الأميركية، حنة آرنت، والتي جعلت من ممارسة الشر تفاهةً تسمح بالقتل بضمير مرتاح، بعد أن مكنتها قوتها الصناعية والعلمية من تبوأ مكانة عليا سهّلت عليها استعمار العالم واستنفاد ثرواته بعد أمن منحتها الحداثة وعصر النهضة والتنوير ثورةً فكرية فلسفية أطّرت في خضمها للقيم والمفاهيم والمعايير الإنسانية العدلية والحقوقية، التي لم تكن في نفس الوقت كافية لبناء وعي حقيقي قيمي تستند إليه منذ قرنين ويزيد يؤطِّر لقدسية الإنسانية بما فيها من قيم العدالة والمساواة، عدا تلك التي خطتها في دساتيرها لشعوبها لتتمتع بهامش واسع من السعة والرفاه بعد قرون الاقتتال البيني والحروب الأوروبية المستعرة لمصالح قومية وعرقية وسياسية ودينية وجيوسياسية جعلت الاقتتال والإبادة عقيدة أوروبية وأسلوب حياة، لم تتخلص من وقعه في قارتها، إلا ونقلته للعالم الآخر غير الغربي الذي عانى وما زال من تبعاته، وإن ادعت خلاف ذلك عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وتبنيها ظاهرا لسياسات حقوقية تم قوننتها في إطار الشرعية الدولية ومؤسساتها، التي بات جليا فشلها وعقمها وشللها التام تجاه اتخاذ أي موقف منصف سوا بيانات الشجب والإدانة والاستنكار. ردة الفعل الأوروبية هذه المرة والتي تمثلت بالمستوى الرسمي على لسان وأفعال ومواقف رئيسة المفوضية الأوروبية، وقادة دول القارة الرئيسية، من منح تفويض مفتوح لارتكاب مجازر الإبادة بحق مدنيي غزة من مدنيين أغلبيتهم العظمى من النساء والأطفال وكبار السن دون أدنى محاذير، مع إنكارهم المتعمد ونفيهم لتلك التي طالت المدارس والمستشفيات؛ فاقت الخيال في تماهيها مع ما سمته الإجراء الانتقامي المبرر والمستحق رغم التقارير الدولية والإعلامية المحايدة والمستقلة التي تحدثت عنها بوضوح واتهمت القوات الإسرائيلية بارتكابها. هذا فضلاً عن الموقف الأوروبي الرافض لأي هدنة إنسانية، والغاض النظر عن قطع الماء والكهرباء، والتدمير الكامل والجزئي لما يعادل نصف المنازل في غزة بما فيها البنية التحتية والمؤسسات الخدمية والعامة، وسياسة التجويع الإسرائيلية بحق مواطني القطاع من المدنيين العزل، واعتبار ذلك تصرفاً إسرائيلياً مقبولاً، دعمته بغض نظرها عنه ورفضها المتواصل لاستنكاره وإدانته. يرى العالم غير الأوروبي بما فيه طيف واسع يتزايد يوماً بعد يوم في الشارع الأوروبي نفسه، أن انحياز الدول الأوروبية على المستوى الرسمي للجانب الإسرائيلي قد قضى بشكل كامل على أي اعتبارات كان يجد القيم والمعايير الأخلاقية والقانونية الأوروبية تمثلها في السابق، وبأنها في حقيقتها ليست إلا نفاق انفضح زيفه مع الحرب الإبادية على غزة تحت نظر العالم وسمعه، والتي يمثل المدنيين الأبرياء العزل الغالبية العظمى من ضحاياها. على الشعوب الأوروبية قبل العربية والإسلامية والشرقية وغير الغربية، أن تعي جيداً الآن أن ما قبل الحرب على غزة لن يكون كما بعدها، وبأن السياسة الرسمية الأوروبية الرسمية قد قضت على سمعة أوروبا التي اجتهدت على مدار عقود طويلة لتكريسها والدعاية لها، فلن تكترث شعوب العالم بعد الآن لأوهام الدعاية الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان، وسعيها لتكريس قيم الديموقراطية والعدالة والمساواة، ولن يصدقوا أبداً أن أي تدخل أوروبي غربي أممي في أي مكان في العالم وخوض الحروب هو في سبيل حماية المدنيين والدفاع عنهم. كما أن الجميع لن يولوا اعتباراً لما سيعدوها أكاذيب أوروبا المتعلقة بسيادة القانون، بما فيها المؤسسات الدولية والأممية كمنظمة العفو الدولية والمحكمة الجنائية الدولية المناط بها مسؤولية محاسبة ومحاكمة مجرمي الحرب، والتي لم تجرؤ حتى يومنا هذا على محاسبة أي مسؤول إسرائيلي أو غربي طوال تاريخها منذ إنشائها وحتى يومنا هذا. فقدت أوروبا مصداقيتها، ولن يصدق أحد أنها دول عدلية حقوقية أخلاقية تحترم الحقوق الإنسانية وتسعى للالتزام بها، بما فيها شعوبها التي ربما لن تعتبر لإسرائيل الحق مجدداً للدفاع عن نفسها بعد أن رأت صور المجازر المرتكبة بحق المدنيين العزل في غزة، ولن تتماهى مع المبدأ السابق المعتبر انتقاد تصرفات إسرائيل معاداة للسامية، والمستلهم قوته من تعاطف الشعوب الغربية سابقا مع الهولوكوست، التي ترى الحكومة الإسرائيلية ارتكبته بحق سكان غزة، وبهذا لن يشفع الهولوكوست مجددا ولن يبرر لفظائع العدوان الإسرائيلي على غزة. صدمة المثقفين العرب بمن فيهم المؤمنين بالقيم الغربية، والمعتنقين للعلمانية والليبرالية والتنوير الغربي الحداثي، استدعت طرح التساؤلات عن حنين أوروبا لماضيها القديم، وإصابتها بنوستالجيا الماضي وحلم العودة لبناء ذاتيتها القائمة على الآخرية Othering كما وصفها إدوارد سعيد، والمبنية على نحن الأعلى، والآخر الأدنى العدو الأزلي الهامشي. هذه الصدمة المنافية لقيم التنوير الأوروبية وحداثتها الما بعد تاريخية الْمُرسية لقيم كونية، لا تتعلق فقط بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وإنما تتعداها لقيم واتجاهات ثقافية اجتماعية سياسية ستلقي بظلالها على نظرة الجميع لأوروبا في حقبة ما بعد حرب غزة 2023، ولن يشفع لها الندوات والأقلام والدراسات والمساعدات وإعادة الإعمار ومحاولات التبرير العبثية، لتبرأة الموقف الرسمي الأوروبي من الدم الفلسطيني في غزة والذي سيكون علامة سوداء في تاريخها المعاصر، ستتجلى انعكاساته على التعامل معها على الأقل شعبيا، بما يحمله من تهديد كبير لمصالحها في الحاضر والمستقبل، وينبئ ببوادر صراع حضاري سيطول أمده، وستنال انعكاساته أوروبا اقتصاديا وسياسياً. ودون أن نستثني أيضاً مآلات المأزق السياسي الذي وضع السياسيون الأوروبيين أنفسهم فيه أمام شعوبهم، وما سيترتب على انحيازهم من مساءلة ومحاسبة مجتمعية لفرضهم قوانين وممارسات استثنائية لا دستورية على شعوبهم أثناء الأزمة، حدت من حقوقهم الأساسية في دولهم من قبيل حرية الرأي والتعبير والتظاهر، على غرار تصرفات وأفعال وأقوال وزيرة الداخلية البريطانية ورئيس حكومتها، ومثلها في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

مشاركة :