أصدر عزيز أزغاي، الفنان التشكيلي والكاتب، كتابه الجديد الموسوم بـ"التصوير المغربي الحديث صيرورته التاريخية وإبدالاته الأسلوبية" وهو عبارة عن دراسة من نشر دار خطوط وظلال، حول هذا الكتاب، واهتمامات الكاتب النقدية، وتقاطع التصوير والتشكيل والكتابة عنهما، والتكنولوجيا وتحديات الذكاء الاصطناعي، كان هذا الحوار مع عزيز أزغاي. حدثنا عن كتابك الجديد ماذا يعالج تحديدا وكيف جاءت فكرة الاشتغال عليه؟ تسعى هذه الدراسة إلى الاقتراب أكثر من أحد الموضوعات، التي ظلت محور نقاشات وسجالات، على الأقل، في تاريخ الممارسة التصويرية الصباغية الحديث، أعني بذلك أسلوب التصوير في بعديه التشخيصي والتجريدي وما ترتب عنه من اختلاف في وجهات النظر وتباينها بين النقاد والفنانين المنخرطين في هذا النقاش. ذلك أن قضية الأسلوب لم تكن، في كثير من الأحيان، قضية فنية خالصة، وإنما عكست، في كل مرحلة من مراحل تخلقها، اختيارات ثقافية ورهانات إيديولوجية واصطفافات اجتماعية واقتناعات عقدية، ظلت في مجملها تشكل المنتج لإشكالاتها المتجددة. على أن الدراسة، وهي تسعى إلى الكشف عن ملامح هذا الإبدال الأسلوبي في التجربة التصويرية المغربية الحديثة، لم تكن معنية بكل هذه الروافد والمؤثرات غير الفنية بدرجة أولى، وإنما كان راهنها منصبا على مقاربة هذا البعد الأسلوبي فنيا، بل واتخاذه ذريعة موضوعاتية، فقط، لوضع خريطة تقريبية لتطور الممارسة التصويرية في بلادنا، بالشكل الذي يترجم وجهة نظرنا الخاصة. ارفقت العنوان المركزي بعنوان ثانوي حول الإبدلات الأسلوبية في فن التصوير. ماذا نعني بهذا الموضوع تحديدا؟ لا شك أن كل المتتبعين للممارسة الفنية - التصويرية في المغرب مقتنعون بحداثتها، وأقصد بذلك ظهورها المتأخر مقارنة مع عدد من الأقطار العربية المجاورة. إذ لم يكتشف المغاربة فن التصوير الحديث – فن لوحة الحامل – إلا مع مطلع القرن العشرين، لأسباب تاريخية يعرفها الجميع. غير أن هذا التأخر لم يحل دون ظهور تجارب تصويرية مغربية بادر أصحابها، في زمن قياسي وصعب، إلى استيعاب ما بلغه العقل الفني الغربي، معرفيا وتقنيا وأسلوبيا، لتدارك الفراغ الكبير الذي تكرس تاريخيا في هذا المجال، رغم الإكراهات والعوائق التي كانت تنتصب أمام القلة القليلة من الشباب المغاربة، الذين كان يحذوهم طموح إبراز ذواتهم الفنية. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، غياب مؤسسات تعليمية مختصة، عدا ما خلفته السلطات الاستعمارية من بنيات اعتُبرت "غنيمة حرب"، وهو ما لم يكن كافيا لسد هذا الفراغ المهول. ومع ذلك، نزعم أن الفنانين المغاربة استطاعوا التغلب، بإمكاناتهم الشخصية، على هذا العائق ومراكمة تجارب ملفتة خولت لهم، اليوم، تبوأ مكانة رفيعة في خريطة التشكيل العربي، وبذلك أمكننا معاينتها وتصنيفها أسلوبيا في أفق دراستها، وهو ما سعت الدراسة إلى بيان بعض ملامحه. أنت فنان تشكيلي ولك إسهامات في الموضوع، أي مواكبة ما ينتجه الفنانون المغاربة والعرب بشكل عام. أيهما يكمل الآخر، في نظرك، التشكيل أم الكتابة عنه؟ - يشير الباحث السيميائي المغربي سعيد بنكراد في أحد كتبه إلى أن "تاريخ الإنسان هو تاريخ العين"، أي أن الإنسان وعى العالم، أول مرة، بعينيه. وانطلاقا من هذه اللحظة الفارقة انتقل إلى مرحلة التعبير عن هذا العالم عبر وسيط الرسم. ومن ذلك ما كان يتصل بمشاهداته في الطبيعة، من مظاهر تفوق إدراكه، كانت تقض مضجعه. معنى ذلك أن وعي الإنسان بهذه الممارسة "الفنية" والتعبير عنها باللسان – اللغة الإبلاغية جاء في مرحلة تالية، بعدما راكم تجارب اعتُبرت طقوسية وسحرية ثم حِرفية، قبل أن تتحول، مع الزمن، إلى فعالية فنية خالصة ومستقلة. وفي هذا الإطار، لسنا في حاجة إلى التذكير بأن الرهان على تجويد وتطوير أية ممارسة إبداعية يحتاج إلى سند معرفي، بحيث لا يمكن الاطمئنان إلى مجرد الاعتقاد بالملكة أو بالموهبة والنبوغ، لأن مثل هذا الفهم يغلب عليه جانب معتبر من الرومانسية الحالمة. المطلوب، في تقديرنا، المزاوجة بين الممارسة والمعرفة النظرية، وهذا شرط من بين شروط أخرى كثيرة لتجويد أي نشاط إبداعي يدوي بالضرورة. دعنا نتحدث، قليلا، عن عملية النشر في المغرب. أليس الأمر مغامرة أولا بسبب تراجع المقروئية ثم ثانيا بسبب نخبوية موضوع الفن والتصوير تحديدا؟ - صحيح أن التصوير ممارسة نخبوية، بل إن كل الفنون يمكن أن تصنف في هذه الخانة وهذه ليست سبة أو حكما سيئا. لكنها تبقى، مع ذلك، من ضرورات الحياة، بالمعنى الذي عبر عنه نيتشه حينما اعتبر العالم بدون موسيقى يصبح بلا معنى. هذا الأمر يتصل، في جانب منه، بمسألة المعنى والجدوى والفعالية العملية الملموسة والحاجة المادية المحضة. هذا الطرح، كما هو واضح، يهمل الجوانب الحسية والروحانية والنفسية والوجدانية لدى الإنسان، وهي جوانب لا يستطيع الخبز، وحده، أن يُشبِعها أو يلبي متطلباتها. بهذا المعنى، تتحول مختلف التعبيرات الفنية إلى رافد أساس من بين روافد أخرى كثيرة لإشباع النهم الإنساني للطمأنينة، وهي، إلى ذلك، عنصر توازن من شأنه أن يخلق إنسانا سويا نفسيا وروحيا ومتماسكا وجدانيا. في هذه الحالة يصبح الفن، بمعنى من المعاني، قريب من تأثير الدين في وجدان الإنسان. أما ما يتعلق بالنشر، ليس في المغرب فحسب بل في العالم قاطبة، فالمسألة تتصل بنشاط تجاري ربحي بدرجة أساسية. وهي فعالية اقتصادية تتحكم فيها عناصر متشعبة وتخضع لها كل التعبيرات الإنسانية بأبعادها المادية والرمزية. وفي هذا الإطار، لا بأس من التذكير بأن كل الفعاليات الإبداعية قد شهدت، منذ منتصف القرن العشرين، ظهور أنماط تسويقية مبتكرة في العالم الغربي، راهنت على ما عرف ب "الصناعات الثقافية" ثم "الصناعات الإبداعية"، من أجل إيجاب صيغ جديدة لتصريف "البضاعة" الفنية. ولعل هذا الواقع الجديد هو ما أدى إلى ظهور صيغ جديدة في التعامل مع المنتجات الإبداعية ومن بينها ميدان نشر الكتب. ما هو مؤكد، أننا في المغرب، مازلنا بعيدين عن هذه الدينامية الثقافية، التي أفادت، بهذا القدر أو ذاك، في دعم سياسات النشر والتوزيع والتسويق والترجمة والانتشار، التي تصب، جميعها، في تنويع مداخيل اقتصاديات الدول المتقدمة. معنى ذلك أن واقع النشر عندنا في المغرب مازال خاضعا لمنطق الربح السريع والمضمون دونما حاجة المنتفعين منه إلى الرهان على صناعة مجتمع قارئ. ومن أبرز مظاهر هذا الواقع الجشع خضوعه إلى انتقائية معيبة في اختيار وفي قبول ما ينشر، وهي الانتقائية التي يقع الكتاب الإبداعي ضحية لها. أي تأثير لهذه القفزة التكنولوجية على فن التصوير وهل الذكاء الاصطناعي يهدده أم يساهم في تطويره وتجويده؟ سبق للمبدع والباحث الإيطالي أومبيرتو إيكو أن أدلى برأيه في الموضوع، حينما سئل عن مصير الكتاب الورقي في مقابل ظهور الكتاب الالكتروني. وقد ذهب في ذلك إلى التذكير بكل الاختراعات الإنسانية السابقة، ومنها اختراع الباخرة والسيارة والقطار والطائرة وسواها، التي لم تستطع أن تحل محل استمرار استعمال الإنسان للدواب وللدراجة الهوائية وما شابههما. بهذا المعنى، ينبغي ان نستحر، على الدوام، أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل من تلقاء نفسه، بل يظل في حاجة دائمة إلى العقل الإنساني لبرمجة المطلوب منه. وبهذا المعنى أيضا، لا يمكن مقارنة عمل فني يدوي بآخر من نتاج البرمجات التكنولوجية. ثم إن الأعمال الفنية اليدوية تتميز بالتفرد وهي، إلى ذلك، غير قابلة للتكرار بنفس الدقة في التركيب والإنشاء حتى لو تعلق الأمر بمجرد نقطة عزلاء فوق بياض، على عكس البرمجيات التي يمكن أن تنتج نسخا من العمل الواحد بنفس الدقة والجودة. الأمر لا يعدو، في تقديرنا، أن يكون تنويعا على أصل ثابت وفريد لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.
مشاركة :