إمام الحرم: أمن المجتمع ضرورة حياتية للعيش الهنيء الرغيد والسعادة والسلوك الحسن

  • 4/1/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

قال فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور خالد بن علي الغامدي، إن البشرية تعاني اليوم من موجات عنيفة من الصرعات الفكرية والثقافية الثورات المحمومة والحروب النفسية والعسكرية التي نتج عنها ألوان من الخوف والجوع وسفك للدماء ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وأضاف فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم : إن هذه الصراعات المختلفة تؤثر على كثير من الناس في عقائدهم وتصوراتهم وثقافاتهم وأخلاقهم، مما كان سبباً في اختلالاتٍ ظاهرةٍ في الأمن الاجتماعي الذي أصبح تحقيقه في المجتمع والحفاظ عليه يشكل الهاجس الأكبر في حياة الأفراد والمجتمعات اليوم، وتسعى كل الممالك والأمم إلى إرسائه ليعيش المجتمع حياة الهدوء والاستقرار والعمل المنتج البناء، ويأمن الفرد على نفسه وأسرته وعمله ومعيشته. ومضى الشيخ الغامدي يقول : إن الأمن الاجتماعي غاية من أجل الغايات الشرعية، ومقصد عظيم من مقاصد الدين، وهو مِنةٌ إلهيةٌ كبرى يضرب الله بها الأمثال : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا )، وهو فريضة وضرورة من ضرورات العمران البشري والاستخلاف والنهوض الحضاري، ولذلك قرن الله بين نعمة العيش والأمن وامتن بهما على عباده وجعلهما من أهم أسباب التمكين من عبادة الله ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ )، وسوف يسأل الناس جميعاً عن نعمة هذا الأمن ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ )، قال ابن عباد وقتادة : هو الأمن والصحة لافتا أن شعور كل فرد في الأمة بالطمأنينة والسكينة في غدوه ورواحه وسفره وإقامته وتمكينه من عبادة ربه، والاستقرار النفسي والأسري والمعيشي، فلا خوف ولا فزع ولا تفرق ولا تناحر من أعظم نعم الله وأجل كرائمه ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا )، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشعور بالأمن في المجتمع أحد مقومات السعادة والقناعة حيث قال: (( من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ))، وهذا كله أثر من آثار شيوع الأمن الاجتماعي؛ فينعكس ذلك إيجاباً على الأمة فتظهر بمظهر العزة والقوة بسبب تلاحم أفرادها وترابطهم وتعايشهم فيما بينهم بالحب والمودة والتناصح والتباذل والتعاون والستر والصفح والعدل والإنصاف والعفو عن المسيء. وأفاد فضيلته أن أمن المجتمع ضرورة حياتية للعيش الهنيء الرغيد والسعادة والسلوك الحسن والتقدم والرقي فلذلك توالت النصوص من القرآن والسنة في التأكيد على الأمن الاجتماعي والحرص عليه لينعم المجتمع بأسره بالهدوء والاستقرار وليتمكنوا من إقامة شرع الله وتسخير الأرض وعمرانها في تحقيق الخير والصلاح، ولن يصلح لهم ذلك إلا بالتعاون على البر والتقوى والحذر من التعاون على الإثم والعدوان، وهو أساس عظيم من أسس بناء الأمن الاجتماعي ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى )، مشيرا إلى أن من أجل ما يبني عليه أمن المجتمع أن يقوم على قاعدة راسخة ثابتة من الأخوة الإيمانية التي تؤسس العلاقات بين أفراد المجتمع تأسيساً قوياً ثابتاً فتشيع بينهم أواصر المحبة والإيثار والتناصر والتناصح والتعاون وحب الخير بعضهم لبعض، وتنتشر بينهم صور الإحسان والبر للوالدين والأرحام والجيران والتكافل الاجتماعي ورعاية الأيتام والأرمل والمساكين والسعي في تفريج كربات وحوائج الناس وقضاء ديونهم وإنظار معسرهم والستر على مخطئهم، وغير ذلك من صور الإحسان والأخوة الإيمانية التي هي من أعظم مقومات المجتمع الآمن كما قال تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )، وقال ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، وقال ( المؤمن من أمن الناس على دمائهم وأموالهم ) ، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام ( أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي دينه أو تطرد عنه جوعاً ). وقال إمام وخطيب المسجد الحرام :" إن الأخوة الإيمانية الصادقة من أهم أسس فشو الأمن الاجتماعي فيشعر كل مسلم أنه في مجتمع أفراده بررة رحماء متعاطفون متحابون هينون لينون مشفقون متباذلون يكرمون المحسن ويعينونه، ويسترون على المخطئ ويرحمونه، ولا يقابلونه بالتشهير والتعنيف والإقصاء ولا يعينون عليه الشيطان، فهو ما زال أخاً لهم، فينشأ من ذلك كله مجتمع آمن مستقر متماسك قوي كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسم )، وهذا الشعور بالاستقرار والأمن والمعاملة الحسنة لا يختص بالمسلمين فقط، بل هو حق مكفول لكل من يعيش بينهم من أهل الأديان الأخرى كاليهود والنصارى والمعاهدين والمستأمنين، فقد ضمن لهم الإسلام الأمن والعيش والاستقرار وأن يعاملوا بالعدل والإنصاف والرحمة والإحسان كما قال سبحانه ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )، وقد كان لابن عمر رضي الله عنهما جار يهودي فكان أول ما يبدأه في الإطعام والهدايا وكان يوصي به دائماً، وهذه صورة مشرقة ناصعة من محاسن الإسلام وحرصه على شيوع الأمن الاجتماعي لكل أفراده ولمن يعيش تحت كنفه، فأين من يتهم الإسلام بالإرهاب ويحاول وصم أهله بذلك، زوراً وبهتاناً. وأبان فضيلته أن أمن المجتمع لن يتحقق ويسود بين جميع شرائحه إلا إذا كانت شريعة الله هي الحاكمة والمهيمنة، وكان لها من قوة السلطان والدولة ما يجعل لها الثبات والشمول والهيئة فتطمئن النفوس وتهدأ الخواطر ويشعر كل فرد أنه آمن على دينه ونفسه وأهله فيعيش بحرية وكرامة وعزة، ولذلك جاءت الشريعة بحفظ مكانة أهمية الحاكم والأمير المسلم وأمرت بطاعته في المعروف وإجلاله وإكرامه، وحرمت عصيانه والخروج عليه وإظهار عيبه والتشهير بأخطائه تشغيباً وتأليباً عليه، ورغبةً في زعزعة أمن المجتمع وفشو الفوضى والاضطراب، وانفراط قاعدة من أهم قواعد بناء الأمن الاجتماعي.. إن المجتمع الآمن هو الذي يقوم على طاعة الله وطاعة رسوله وأولى الأمر، ومن أطاع الأمير فقد أطاع الرسول ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والشريعة تحث وتأمر أن تنشأ المحبة والوئام والثقة بين الراعي والرعية والحاكم والمحكوم فتعيش الأمة في أمنٍ وارف وظل ظليل من الاستقرار والتمكين والثبات. وأضاف أن أمر آخر في غاية الأهمية له أثره البالغ في أمن المجتمع وهو أن يعلم الواحد منا أنه لا يعيش لوحده في المجتمع ولا يحيا لذاته أو لتحقيق مصالحه الشخصية فقط، لأن المسلم الواعي الصادق يشعر أنه مسؤول عن نفسه وأهله ومجتمعه وأمته ووطنه، مسؤول عن الأمن والاستقرار، مسؤول عن كل ما يحفظ للأمة عقيدتها وعزها ومكانتها خاصة في ظل الهجمات المتوالية والحملات الإعلامية المحمومة من أعداء الأمة التي تهاجم عقيدة الأمة وثوابتها وتشوه صورة القائمين عليها في بلاد الحرمين وغيرها من بلاد المسلمين، وإن إحساس كل فرد في الأمة أنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن الحفاظ على عقيدته وكيان أمته ووطنه يجعله عنصراً إيجابياً نافعاً ومفيداً لنفسه ولمجتمعه، ومدركاً للأخطار والمكائد المحدقة بدينه ووطنه وأمته، ويرد ويرتقي بوعيه فلا يغش أمته ولا يخونها، ولا يكون عيناً وظهيراً لأعدائها في الداخل والخارج مبينا أن الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية من أهم أسس بناء مجتمع آمن مستقر واعٍ متماسك، كما قال سبحانه ( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راعٍ في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راعٍ مسؤول عن رعيته ) متفق عليه. وبين فضيلته أن من كمال الشريعة أنها تتشوف دائماً إلى تحقيق الأمن واستقرار المجتمع لما في ذلك من المصالح الكبرى والمنافع العظمى في الدين والدنيا، ولذلك حرمت جملة من الأعمال المنافية لهذه المصالح والمناقضة لأمن المجتمع واستقراره كالظلم والبغي والخيانة وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، وأكل أموال الناس بالباطل بالربا والرشوة والسرقة والاحتيال، كما حرمت الشريعة قتل النفس بغير حق وشرب الخمر والزنى والتبرج والسفور، والاعتداء على الناس باللسان والقول من الغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب وشهادة الزور والتجسس وتتبع العورات والظنون الكاذبة وغير ذلك مما يشيع الفاحشة في المجتمع ويسبب شرخاً مهلكاً في بناء المجتمع الآمن ووحدته وتماسكه، ومن أعظم ما حرصت عليه الشريعة لبناء المجتمع الآمن هو الصيانة الفكرية للأمة من فتنة الشبهات والأفكار الضالة، وأفكار التطرف والغلو التي تسبب العنف والقسوة والجنوح والتعامل مع المجتمع، وهذا من أخطر ما تواجهه المجتمعات الآمنة فتجبلها إلى مجتمعات ثورية فوضوية متمزقة متناحرة متقاتلة، مما يشكل أعظم مناقضة لمقصد الشريعة العظيم أن تكون الأمة جسداً واحداً قوياً متماسكاً.

مشاركة :