د. قاسم بن محمد الصالحي لست وحدي كنت أترقب منذ بضع أسابيع في هذا العالم الذي يموج ظلمًا وعدوانًا، أبحث من خلال جهاز تحكم شاشة التلفاز، عن قناة تنقل الحدث مباشراً لما قد تقدم به الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، وتسليمه الملف إلى مقرر محكمة العدل الدولية بتاريخ 2023/12/29م، كنت أتحدث مع نفسي ولا أجد أحدًا حولي، لكن ما شدني في تلك اللحظة هو الرقي الحضاري والأخلاقي الذي وصلت إليه جنوب أفريقيا، بعد حقبة طويلة من الاضطهاد والتمييز العنصري، رقي فيه إشارة صريحة إلى أن جنوب أفريقيا استوعبت النضال الحقيقي من أجل الحرية والعدالة والمساواة، هي القيم التي ناضل من أجلها الآلاف وعلى رأسهم المناضل نيلسون مانديلا، كما لا أجد ما أحتمي به من هواجس لم تجد غيري لتنتابه في هذا الوقت العصيب، شعرت أنها تُجمع طاقتها السلبية في شعاع واحد يتعامد على رأسي تمامًا، ولم لا؟! فهي لم تجد غيري.. لقد انتهيت من اختيار القناة مبكرًا، وأصررتُ على سماع جلسة محكمة العدل الدولية، على الرغم من نصح البعض لي بعدم انتظار قرار منصف يضيء شمس الحقيقة في هذا الوقت، حيث درجة الظلم في ذروتها. درجات قفزت بجنون خلال السنوات الأخيرة، لا تكتفي باختراق المحظور بل صارت تخترق القيم الإنسانية وتحرق البشرية.. وصارت وحشيتها تخترق النفوس، وتزيدها همًّا وغمّا.. كما امتلأ العالم بالمشوهين خلقياً وفكرياً، عقول فارغة ونفوس مريضة.. لكن لماذا لا يوجد غيري في هذه اللحظة؟ أتكون مقدمة لاستجابة السماء لدعاء المظلومين؟ فيأُخِذَ أصحاب البذاءات والأفكار المتدنية من هذه اللحظة، تمهيدًا لأخذهم جميعًا! وما أكثرهم!.. آه، أخيرًا! أتمنى أن يكون ما أراه على المدى القريب، محطة لمراجعة الحق بالفعل وليس سرابًا، ها أنا أدنو من الحقيقة كما تدنو الهواجس من رأسي.. أتصبب عرقًا غزيرًا، الصداع يكتنف رأسي. حضر قضاة المحكمة بعد طول انتظار، ألقيت جسدي على مقعد من ثلاثة، لكن الهواجس ما زالت تستهدف رأسي؛ لا توجد مظلة من أي نوع تظلل العدالة.. أتذكر أني سمعت أحدهم يقول ذات مرة: كانت توجد مظلوميات قبل بضع سنين لكن ريح الظلم العاصف اقتلعتها وأطاحت بها بعيدًا، وقال آخر: لقد شوهت الحقائق، وفي جلستي هذه صرت أميل إلى الرأي الذي ينادي بأنه لم توجد عدالة من الأساس في هذا العالم.. أشعر بالغثيان، آه لو تأتي عدالة السماء في موعدها لتنقذ الإنسانية من احتفاء الظلم المبالغ فيه!.. حرارة جسدي ترتفع، الهواجس تحاصرني، بدأت كلمات رئيسة المحكمة تتسلل إلى داخل رأسي، تمس عقلي، النبض يتسارع، يهرول النفس خلفه، أين العدالة؟ كيف أصبحت الرؤية لدى المحكمة مع سطوع شمس الحقيقة؟!.. آه الظلم!.. الدم يغلي في رأسي، عقلي يذوب، الأفكار تتداخل، تتسارع، تتصارع. لم استغرب أن الفريق القانوني للكيان الصهيوني يهود، من بينهم أستاذ القانون الدولي البريطاني اليهودي "مالكولم شو" صاحب مؤلفات عدة في القانون الدولي ومنها الإبادة، غير أن الذي صدمني وقوفه أمام أعلى هيئة للعدالة الدولية، وقوله إن جريمة الإبادة تستوجب وجود نية وقصد لارتكابها، وأن الكيان الصهيوني لم ينتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة لعدم توافر نية ارتكابها؟!، بل زاد على ذلك أنه اتهم حماس بارتكاب إبادة جماعية ضد الكيان؟!، وكأن ما حدث في فلسطين طوال 75 سنة لم يكن هناك نية وراء ذلك، بل كل ذلك حدث صدفة.. غير أنَّ الفريق القانوني الجنوب أفريقي فند جازما أن كل جرائم الكيان الصهيوني تم ارتكابها في غزة على مدى 70 عامًا، ارتكبت بيد جيش الكيان المحتل، وبتحريض من قادته وسياسيين، تضمن ملف الدعوى جملة من الطلبات المستعجلة واللاحقة التي على المحكمة إصدار قرارات بشأنها. بعيد تلاوة حيثيات الدعوى من قبل رئيسة المحكمة، تأكد لي ما وقر في ضمير محكمة العدل الدولية، مبينة أن هناك انتهاك لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وما يؤكد ذلك العمليات العسكرية الصهيونية والتصريحات السياسية المحرضة على القتل والتدمير والتهجير والتهديد بالقوة النووية، وبعد سماع المحكمة لكل الأطراف ودراسة الطلبات العاجلة قبلت الدعوى المقدمة من جمهورية جنوب أفريقيا، باعتبار أن الأحداث في غزة تخضع لنصوص الاتفاقية وأن العمليات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني في غزة كمجموعة محمية، وما ترتب عليها من آثار كالقتل والتشريد والتهجير والهدم والتجويع والحرمان من الأمن والطمأنينة والغذاء والعلاج والتعليم كلها تشكل خرقا وانتهاكا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبتها، التي هي ملزمة لكل الأطراف التي وقعت وصادقت عليها.. عاودتني الهواجس.. المحكمة لا تملك سلطة تنفيذ قرارتها وأوامرها.. عدت محدثا نفسي.. لكن ستحيل قرارها إلى مجلس الأمن الدولي، وفي حال اعترض أحد الأعضاء الذين يملكون ورقة الفيتو ومنها الولايات المتحدة، التي اعتادت الوقوف بجانب الكيان الغاصب، فإن قرارها سيؤول إلى الأمين العام للأمم المتحدة لطرحه للتصويت عليه في الجمعية العامة.. الإحباط لازال يلازمني.. لأن التنفيذ في حال حصوله على الأغلبية يتطلب موافقة مجلس الأمن. هل توصلت إلى نتيجة تبدد الهواجس التي انتابتني قبيل النطق بقرارات المحكمة الدولية؟.. نتيجة لا يمكن التحقق منها للأسف، إنها نتيجة بلا برهان، عضلات جسدي تختلج جميعاً، نار تسري في جسدي، مخي يغلي، ثقل يطبق على صدري، لا أستطيع التنفس.. أخيرا، هل هذا كل شيء؟!، ما الذي يرمي إليه قرار المحكمة.. هو بصيص نور لمراجعة الحق.. هل أبصر ما يثير عقلي ويستأصل الظلمة من صبري.. نعم، ربما ما أصدرته محكمة العدل الدولية، هو أكبر انتصار للقضية الفلسطينية، وهو مكسب لأحرار العالم من المناضلين وعموم الناس في مختلف دول العالم، لأن أهم ما كشفته هذه المحاكمة غياب رجال القانون في الدول العربية والإسلامية لاتخاذ مثل هذا الإجراء على مدى عقود، رغم تكرار أعمال المجازر والمذابح والتشريد والتهجير منذ عام 1948م، رغم سطوع الحقيقة، التي لا تخفى إلا على من لا بصيرة لديه، في حين تلقفها القانونيون الأجلاء في جمهورية جنوب أفريقيا ليصارعوا الظلم الصهيوني وأعوانه.
مشاركة :