لم يكن مسار المقاومة الفلسطينية، بالأشكال العنيفة أو المدنية، العسكرية أو الشعبية، هو ذاته في كل مراحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل أن تعرجاته، أو تماوجاته، تتوازى مع تعقيدات ومشكلات الحركة الوطنية الفلسطينية وأوضاع الشعب الفلسطيني، ومكانة قضية فلسطين عربيا ودوليا. في هذا الإطار، يمكن ملاحظة أن التحول في الأهداف السياسية، وفي تعريف معنى الحقوق الوطنية، عكس نفسه، أيضاً، في التحول في تعريف وسائل تحقيق هذه الأهداف واستعادة تلك الحقوق. فبينما نصّ «الميثاق الوطني» على أن «الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك إستراتيجية وليس تكتيكاً». (المادة 3)، وهو ما أكدت عليه قرارات دورات المجلس الوطني المتعاقبة حتى الدورة (11)، بات الكفاح المسلح فيما بعد ذلك، أي في الدورات التالية يعدّ أحد أشكال النضال، في حين باتت تلك القرارات، في دورات المجلس الوطني المنعقدة بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993)، تتحدث عن المقاومة الشعبية والجماهيرية بكافة اشكالها. ففي الدورة السابعة للمجلس الوطني (القاهرة 1970) تم التقرير بأن «الكفاح الشعبي المسلح هو الحل الوحيد للصراع القائم بيننا وبين إسرائيل»، و«أن حرب الشعب الثورية هي الطريق الأساسي لتحرير فلسطين». كما تمت التوصية بـ«العمل على تسليح جماهير شعبنا الفلسطينية والعربية في الأقطار العربية المجاورة للأرض الفلسطينية المحتلة لحماية المقاومة من محاولات ضربها وتصفيتها والمساهمة القتالية الفعالة في مجابهة أي غزو صهيوني إمبريالي للأرض العربية المحيطة بفلسطين». وقد تضمنت القرارات الصادرة عن الدورة الثامنة (القاهرة، 1971) الآتي: «الكفاح الشعبي المسلح» هو الحل الوحيد للصراع القائم بيننا وبين إسرائيل.. إن حرب الشعب الثورية هي الطريق الأساسي لتحرير فلسطين». مقابل ذلك، وفي النقلة الأولى، فقد نصت قرارات الدورة (12، القاهرة 1974) على الآتي: «تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها». وفي الدورة 13 (القاهرة 1977) تم النص على: «مواصلة الكفاح المسلح وما يترافق معه من أشكال النضال السياسي والجماهيري لتحقيق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني». وأن «النضال بجميع أشكاله العسكرية والسياسية والجماهيرية في الأراضي المحتلة يشكّل الحلقة المركزية في برامج المجلس الوطني. وعلى هذا الأساس تناضل منظمة التحرير الفلسطينية من أجل تصعيد الكفاح المسلح في الأراضي المحتلة، وتصعيد كافة أشكال النضال الأخرى المترافقة معه، وتقديم جميع أشكال الدعم المالي والمعنوي لجماهير شعبنا في الأرض المحتلة من أجل تصعيد هذا الكفاح وتعزيز صمودها لدحر الاحتلال وتصفيته». وفي الدورة 14 (دمشق 1979) جاء القرار كالآتي: «التصميم الثابت على مواصلة وتصعيد الكفاح المسلح وكافة أشكال النضال السياسي والجماهيري، ولا سيما داخل الأرض المحتلة باعتبارها تشكل ميدان الصراع الرئيس مع العدو الصهيوني». وهكذا لم يعد الكفاح المسلح شكلاً وحيداً أو رئيسياً أو أساسياً وبات إلى جانبه أشكال أخرى. وبعد الانتقال من الكفاح المسلح إلى المقاومة الشعبية حصلت نقلة خرى تمثلت بتعزيز العمل السياسي والدبلوماسي، والبحث عن حلول سلمية وتفاوضية، مع الدورة 18 للمجلس الوطني (الجزائر 1987) الذي نص في أحد قراراته على اقتران الحق «المشروع بممارسة الكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال الصهيوني».. بـ «رغبة الشعب الفلسطيني في تحقيق سلام دائم وعادل، يستند إلى حقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف، بما فيها حق العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوق التراب الوطني، وذلك، في إطار مؤتمر دولي فاعل تشارك فيه الدول الأعضاء دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وكافة الأطراف المعنية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى». وقد تم التأكيد على ذلك، أيضاً، في «وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني (10)»، والتي تم إقرارها في الدورة 19 للمجلس الوطني (الجزائر 1988)، في ما سمي وقتها بـ «هجوم السلام الفلسطيني»، والتي تحدثت عن «تسوية المشاكل الدولية والإقليمية بالطرق السلمية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها». ومما جاء في هذه الوثيقة: «قرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947، الذي قسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.. ما زال يوفر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني.. استناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني.. إن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين.. للفلسطينيين أينما كانوا.. تؤمن بتسوية المشاكل الدولية والإقليمية بالطرق السلمية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها». هكذا، باتت هذه العبارات معتمدة في مقررات دورات المجلس الوطني التالية، إلى حين اندلاع الانتفاضة الأولى، حيث باتت أشكال النضال تدمج بين العمل السياسي والمقاومة الشعبية وحتى المقاومة المسلحة، وهذا ما نلاحظه، مثلاً، في مقررات الدورة 19 (الجزائر 1988) التي رأت في الانتفاضة شكلا لـ«التراكم الثوري المتواصل والخلاق لثورتنا.. داخل وخارج الوطن»، حيث «التناغم الثوري بين أطفال (الآر بي جي) وأطفال الحجارة المقدسة.. عبقرية شعبنا حاضرة دوما.. لابتداع الأساليب والوسائل النضالية التي تعزز صموده ومقاومته.. وتصاعد انتفاضته». وهكذا بات التعويل على الانتفاضة الشعبية يزداد، وهو ماتكرر في قرارات الدورة العشرين للمجلس الوطني (تونس 1991) التي دعت إلى «تطوير الانتفاضة المباركة، وتعزيز طابعها الجماهيري والديمقراطي، ومشاركة شعبنا بأسره في إسنادها ودعمها»، باعتبار ذلك «الضمان الحقيقي الذي يكفل تحقيق الأهداف السياسية والوطنية في المرحلة القادمة من كفاحنا الوطني». هذا مع تأكيد عزم منظمة التحرير «على الوصول إلى تسوية سياسية.. وضرورة انعقاد المؤتمر الدولي الفعال الخاص بقضية الشرق الأوسط.. تحت إشراف الأمم المتحدة.. ووفق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية». أما بعد إقامة السلطة (1994) فقد حدثت النقلة الثالثة، إذ بات الأمر منوط بالأمن المتبادل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، لاسيما مع التوافق على التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بحسب اتفاقات أوسلو. على ذلك فقد نص قرار المجلس الوطني في الدورة 21 (غزة 1996)، وهي أول دورة للمجلس تعقد في الأراضي المحتلة، بعد إقامة السلطة (1996)، على «أن الأمن لا ينفصل عن تحقيق السلام، وأن أقصر الطرق لتوفير الأمن هي السير في طريق السلام والانسحاب (الإسرائيلي) التام من الأرض الفلسطينية». بل إن هذا المجلس – الذي عقد في ظلّ موجة من العمليات التفجيرية التي شنّتها مجموعات تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي- أكد على «دعمه الكامل لاتفاقات السلام بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل، والتصدي لجميع المحاولات الرامية إلى تعريض عملية السلام للخطر». وفي آخر دورة للمجلس الوطني (رام الله، 2018) تم تأكيد تلك النقلة، مع إضافة مهمة، تمثلت بالنص الآتي: «يؤكد المجلس الوطني الفلسطيني أن علاقة شعبنا ودولته مع إسرائيل، هي علاقة ت تقوم على الصراع بين شعبنا ودولته الواقعة تحت الاحتلال، وبين قوة الاحتلال، ويدعو إلى إعادة النظر في كافة الالتزامات المتعارضة مع ذلك… الهدف المباشر هو استقلال دولة فلسطين؛ ما يتطلب الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة التي تناضل من أجل استقلالها، وبدء تجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967». وهي عبارة تفيد باختزال الصراع مع إسرائيل من ناحية بشرية وجغرافية، بحصره في الضفة وغزة (الأراضي المحتلة عام 1967)، ومن جهة الحقوق السياسية، بحصره بإقامة دولة فلسطينية، مع اعتبار أن السلطة القائمة هي بمثابة دولة تحت الاحتلال، والتي تسعى للاستقلال. أما فيما يخص أشكال النضال فقد نصت قرارات تلك الدورة على «انتهاج سبيل المقاومة الشعبية، مع التأكيد على أنها ليست بديلًا عن سائر أشكال النضال التي يشرعها القانون الدولي لشعب واقع تحت الاحتلال. ومع التأكيد على التمسك بحقنا في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل وفقًا للقانون الدولي؛ فقد أثبتت المقاومة الشعبية السلمية التي يتبناها شعبنا منذ وقت طويل في كل انتفاضاته ومقاومته ضد الاحتلال والاستيطان الاستعماري، نجاعتها وفعاليتها واستقطابها للدعم الدولي». وهكذا. ______________________________________ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :