علمنا من المقال السابق أن الإضراب هو تعبير عن ظلم واقع، وسوء علاقة بين طرفين، وبناء على ذلك فإن الإضراب أنواع: 1- إضراب عام وهو الذي بيناه في المقال السابق، حيث إن عاملاً لدى شخص أو مجموعة عمال لدى حكومة أو شركة خاصة يمتنعون عن العمل، نتيجة هضم صاحب العمل لحقوقهم المنصوص عليها في العقد المبرم بينهم وبين صاحب العمل. 2- إضراب فئوي، كأن تمتنع فئة الأطباء أو فئة المهندسين عن العمل. 3- إضراب عن الطعام، كأن يقوم أسير مثلاً بالامتناع عن تناول وجباته، كنوع من الضغط على من قام بحبسه أو اعتقاله حتى الإفراج عنه، وقد حرم الشرع هذا النوع من الإضراب، لأنه قتل نفس عمداً، والله تعالى يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. - ولعل ما ورد عن الإضراب في الإسلام هو الإضراب عن الطعام، وقد أورد الحافظ بن كثير في تفسيره عند شرح الآية: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً.. (الآية رقم 15 من سورة لقمان). وذكر الحديث الذي أورده الطبراني عن سعد بن مالك قال: كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أماه، فإني لا أدع ديني لهذا، قال: فمكثت يوماً وليلة لم تأكل، فأصبحت وقد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل ولا تشرب، فأصبحت وقد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أماه تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فأكلت. - إذاً هذه هي المحاولة الوحيدة للإضراب عن الطعام في الإسلام، ولم يذكر غيرها، لكن حدث في بريطانيا وأمريكا في القرن العشرين، أن أقدمت نساء على الإضراب عن الطعام. ففي بريطانيا أقدمت متظاهرات على الإضراب عن الطعام في سبيل حصول المرأة على حق الانتخاب، وفي أمريكا أضربت نساء عن الطعام للحصول على حق الانتخاب أيضاً. - أما الإضراب عن العمل فهو مما لم يحدث في الإسلام، وحدث في أوروبا ثم تبعتها الدول العربية في العصر الحديث، ومن أسبابه إخلال أرباب الأعمال بالعقود المبرمة بينهم وبين العمال، مما يجعل المضربين عن العمل يتخذونه مبرراً لامتناعهم عن العمل لفترة أو بشكل مستمر حتى تلبى طلباتهم. - فأسباب الإضراب عن العمل تنحصر غالباً في: * حرمان العمال حقاً أو حقوقاً يستحقونها بحكم العدل والقانون. * مطالبتهم بها شفهياً لكن من غير جدوى. * عدم استجابة رب العمل للمطالب الشفهية أو المكتوبة. * عدم الالتفات إلى التهديد بالإضراب. * وجود فجوة بين حجم العمل والأجر المقرر للعامل. بناء على ذلك فإنهم يضربون عن العمل لحصولهم على حقوقهم، لا لإلحاق الأذى بالمسلمين أو بالمجتمع، بمعنى أنهم يقومون بدفع الظلم عن أنفسهم طبقاً للقاعدة الفقهية: الضرر يزال، وهذا القدر من الضرر يقره الفقهاء، لأن الحديث يقول: مطل الغني ظلم، ومن اتبع على مليء فليتبع. - يقول ابن تيمية في هذا الباب: امتناع الموسر دولة كان أم شركة عن دفع ما عليه من التزامات أو مماطلته في الدفع يعد ظلماً من جهة الشرع، فإذا كان رب العمل فرداً يماطل، فللعامل حق اللجوء إلى الدولة لفض النزاع. وإذا كانت الدولة نفسها تماطل، فإن حقها على العامل يسقط وليس لها أن تطالب العامل بالاستمرار في العمل. أقول: ومن المنطق أن يحتكم العامل ورب العمل إلى العدل والقانون، ولا يترك المجال للفوضى، فالحقوق محفوظ شرعاً وقانوناً، والفوضى والتمرد يخربان ولا يصلحان. د. عارف الشيخ
مشاركة :