بدأ دخول الإنسان إلى عالم البصريات الرقمية باقتحام أجهزة الواقع الافتراضي لمجال الألعاب ومشاهدة مقاطع الفيديو، لتخلق للإنسان عالماً موازياً لعالمه الواقعي، كما أبدعت شركة غوغل بابتكارها نظارتها الذكية، التي تسمح للإنسان بالولوج إلى العالم الرقمي من خلال نظارة تتلقى أوامره وتظهر له أدواته الرقمية أمام عينه. أدت تلك الثورة التكنولوجية إلى ابتكار ما يعرف ب العين الإلكترونية التي تحل محل العين الطبيعية وتضيف إليها العديد من المميزات التكنولوجية الخارقة، لتحولها إلى أداة بصرية تضاهي الكاميرات الحديثة وأجهزة التجسس الدقيقة، ولتعبر بالإنسان إلى الحياة الرقمية. وفي الآونة الأخيرة، حصل علماء أستراليون على نحو مليون دولار من المجلس الوطني للبحوث الطبية والصحية لتطوير الابتكار وبدء تجربته على البشر بشرط البدء بمرضى التهاب الشبكية الصباغي. لم يكن طرح فكرة العين الإلكترونية مجرد ضرب من الخيال، بل هي واقع ملموس في بعض النماذج التي أجريت عليها التجارب، إذ أعلن علماء كثيرون عن ابتكار نماذج عديدة من الأعين الإلكترونية، وأوضحوا أن من المقرر زرع العين للإنسان العادي أو الذي فقد بصره في المستقبل القريب، ولكن تبقى المعضلة الكبرى في استبدال أدوات الرؤية للعين الطبيعية وتحويلها للنظام الرقمي، فضلاً عن إيصالها للمخ لترجمتها إلى رؤية واضحة. وتتكون نماذج العين الإلكترونية بشكل عام من أقطاب كهربية بجانب أدوات إلكترونية دقيقة لتمييز الصور والشعور بالضوء، ويثبت بين كل ذلك كاميرا فائقة القدرة، تستطيع إضافة الشعور بالمسافات من أمامها. ويؤكد العلماء، أن العين الإلكترونية تضاهي دقة صورتها رؤية أحدث الكاميرات فائقة القدرة، ولكن سيبقى فقط للإنسان مهمة التكيف معها. ولا يختلف شكل العين الإلكترونية عن الطبيعية كثيراً، ويقول العلماء، إن الاختلاف يمكن ملاحظته، إلا أنه أمر طبيعي، ومن المقرر تلاشي تلك العيوب مع استمرار التطوير، وأكدوا أن كل ما يظهر من العين الإلكترونية الآن هو مجرد جهاز تنظيم يثبت خلف الأذن لضبط النبضات الكهربائية، في حين تُستخدم عدسة حساسة لالتقاط الصور وإرسالها إلى الشبكية، التي ترسلها بدورها إلى المخ لترجمتها. وفي خطوة وصفها كثيرون بالمتهورة، أقدم مخرج الأفلام الوثائقية الكندي روب سبينسر، على تحويل نفسه إلى ما أسماه بالروبوت الحي، بتركيب عين إلكترونية بدلاً من عينه التي فقدها في الصغر. وتعود قصة سبينسر في فترة المراهقة حين كان بصحبة عائلته في إحدى الغابات وكان يمارس صيد الحيوانات. وبسبب رعونته، صوّب سبينسر البندقية نحو غزالة بطريقة خاطئة تسببت في ارتداد الطلقة الفارغة إلى عينه اليمنى التي فقدت القدرة على الإبصار حينها. وبعد نحو 15 عاماً وكثير من العمليات الجراحية، اضطر الأطباء لإزالة عينه المتضررة، ليقرر سبينسر تركيب عين إلكترونية تعمل ككاميرا بالغة الدقة. وظن كثير من الأشخاص حوله، أن قرار سبينسر مزحة، أو فكرة فيلم جديد سيخرجه، فهي -في ظنهم- مجرد خيال علمي غير واقعي، ولكن حين حلّ المخرج ضيفاً في عدد من البرامج الحوارية ليشرح وجهة نظره، ادعى سبينسر أن الكاميرا الجديدة التي ستثبت مكان عينه ستمنحه القدرة على إجراء المقابلات دون الاستعانة بطواقم التصوير والعدسات. أثارت فكرة سبينسر العديد من التساؤلات، كان أبرزها يتمحور حول معايير السلامة، فعلى سبيل المثال تستطيع نظارة غوغل القيام بنفس الأمر والتقاط الصور لكل الأشخاص الذين نقابلهم، وتصوير مقاطع الفيديو وتخزينها، ولكن في المقابل لا تعد أداة فعالة في ظل تحديات معايير السلامة الشخصية أثناء التنقل وممارسة مهام الحياة اليومية. وتندرج العين الكاميرا لسبينسر ضمن فئة العمليات الترقيعية والتجميلية، ضمن عمليات زرع الأعضاء، وهي تحتوي على كاميرا مزودة بجهاز إرسال، ولكن حتى الآن لا ترتبط الكاميرا بالجهاز العصبي لسبينسر، بمعنى أنه لا يمكنه الرؤية بواسطتها، ولكن ما تقع عليه العين يظهر من خلال شاشة صغير يمكن حملها باليد أو داخل الجيب، كما يمكن التحكم في الكاميرا من خلال أزرار على الشاشة سواء بالإيقاف أو التشغيل أو عمل التكبير (زووم). يتمكن حالياً سبينسر من إجراء التصوير وتسجيل مقاطع الفيديو من خلال الكاميرا المزروعة، ولكن العائق الوحيد هو انتظاره لمدة 3 دقائق أو أكثر من تشغيل الكاميرا لتسخينها وبدء إرسالها الإشارات الراديوية للتسجيل. وكان أول فيلم تسجيلي صُوّر بواسطة الكاميرا، يناقش حياة الأشخاص الذين خضعوا لعمليات تركيب أطراف صناعية، وطرق تغلبهم على مشكلاتهم واندماجهم في الحياة العامة. بعدها أصبح سبينسر خبيراً بالتصوير بواسطة عينه الإلكترونية الجديدة من خلال التحكم في وضعية جسده، وتمكن من تصوير بعض الأفلام التي تعدت مدتها الساعة ونصف الساعة. يقول: تمنيت لو كنت أستطيع الرؤية بهذه الكاميرا، ولكنني واثق ذات يوم أنني سأفعل. وفي خطوات تتسم بالجدية، يحاول علماء أستراليون من جامعة نيو ساوث ويلز، التوصل إلى حلول عملية لزرع عين إلكترونية لها كل مواصفات العين الطبيعية، وربطها بالجهاز العصبي للإنسان. وأطلق العلماء على نظام العين الجديد Phoenix99، ومن المقرر زراعتها في الجسم بشكل كامل، وتمثل عددًا من التقنيات التي تُستخدم في مجال تكنولوجيا التحفيز العصبي لأول مرة، بعد أن أثبت الجهاز نجاحه على المستوى ما قبل السريري، على يد نخبة من خبراء الجراحين الموجودين في مدينة سيدني، وفي الآونة الأخيرة حصل العلماء على تمويل مادي للمساعدة في التحرّك تجاه مستوى جديد من البحث هو التجربة على المرضى. يقول جريج سوانينج، أحد مخترعي النظام الجديد: تأثّرنا للغاية بتجربة سبينسر، لأنها أثبتت أن التقنية الجديدة في مجال تكنولوجيا الزراعة ناجحة، وتعلم المرضى استخدام التقنية الجديدة بنفس الطريقة التي يتعلم بها زارعو قوقعة الأذن سماع النبضات الكهربائية. ومنذ عام 1997، وفريق جامعة نيو ساوث ويلز، يجري الأبحاث في مجال تكنولوجيا العين الصناعية بهدف إعادة الرؤية للأشخاص المصابين بمرض التهاب الشبكية الصباغي (retinitis pigmentosa) الذي يُعدّ السبب الرئيسي للإصابة بالعمى في صغار السن، والمصابين بالضمور البقعي المرتبط بالعمر، لكن إحدى طرق إعادة البصر لمرضى التهاب الشبكية الصبغي هي استخدام العين الإلكترونية، إذ يشارك الفريق في أولى التجارب لنموذج جهاز جزئي الزراعة، على 3 من المرضى منذ عام 2012. ويؤكد الباحثان المخترعان جريج سوانينج وزميله نايجل لوفيل، أن العين الإلكترونية الجديدة لديها الإمكانية لإعادة الرؤية للملايين حول العالم، بالإضافة لأولئك المصابين بمرض التهاب الشبكية الصبغي، والملايين من المصابين بالضمور البقعي المرتبط بالعمر حول العالم. وحصل فريق المبتكرين على تمويل يقارب المليون دولار من الجمعية الأسترالية الوطنية للصحة والأبحاث الطبية، لكن يقول العلماء، إنهم سوف يحتاجون ل10 ملايين أخرى خلال 5 سنوات مقبلة لنقل البحث لمستوى آخر، وجعل العين الإلكترونية خياراً رئيسياً في الاستخدام السريري. الإحساس بالمسافة يتكوّن النموذج الجديد Phoenix99 من 24 قطباً كهربياً، مرتبة في تناسق معين، ومزودة بإلكترونيات خارجية تسمح للمرضى برؤية بقع ضوئية تسمى (phosphenes)، وبمساعدة كاميرات خاصة يستطيع المريض الإحساس بالمسافة، إذ تصبح تلك البقع الضوئية أكثر سطوعاً عند وجود أجسام صلبة قريبة من المريض. وبعكس النموذج الأول، فإن أجهزة Phoenix99 يتم زراعتها بشكل كامل داخل الجسم. وينوي العلماء البدء في تجريبها على المرضى في أقرب وقت ممكن، ويُتوقّع أن تعطي رؤية أوضح عن تلك التي تمنحها التقنيات السابقة، ويخطّط كلا العالمين المخترعين جريج سوانينج وزميله نايجل لوفيل، لزراعة نظام وجهاز Phoenix99 في عدد كبير من المرضى خلال العامين المقبلين. وتستغرق الجراحة اللازمة لزراعة العين الإلكترونية بين ساعتين و3 ساعات، بعد ذلك يُزرع قرص صغير خلف الأذن لإرسال الطاقة والبيانات إلى الجهاز، الذي بدوره ينقل النبضات الكهربية للمنطقة خلف العين، وسيكون هذا القرص العلامة الوحيدة الظاهرة للجراحة. بعد ذلك يرتدي المريض نظارة مجهّزة بكاميرا صغيرة، تلتقط صوراً تساعد على تحديد الاستثارة التي تصل للخلايا العصبية في شبكية عين المريض، ومن ثم ترسل إشارات للقشرة البصرية في الدماغ.
مشاركة :