طلب الحق، والبحث عنه، والسعي وراء الحقيقة، والصبر في سبيلها، هدف لبعض الناس قديم، ومطلب لهم في الحياة بعيد، لم يدفعهم إليها محيط، ولم يطلبها منهم سياق، هؤلاء الطلاب، وأولئك الساعون، لو خضعوا لعصورهم، وتمكنت منهم أقاليمهم، واستبدّت بهم ظروفهم؛ لتركوا البحث عن الصواب، والمضي في سبيل الحقيقة، وجروا على خطى من تقدمهم، وعاش معهم، وتركوا الشقاء لغيرهم، فمن يسير في طريق البحث، ويتحرّى عن الحقيقة؛ يستكثر الأعداء، ويُناصبه الناس الضغينة؛ فما في البحث إلا مساءلة المستقر، ومناكفة المألوف، ومن ذا الذي يرضى بهذا، وتطمئن نفسه به؟ من شروط الباحث أن يكون قصده الحق، ومراده في البحث عنه، والتفتيش عن قائليه، وهذا مبدأ قديم، وخصلة إنسانية عتيقة، عرفها طلاب الصواب، واتخذوا التدابير إليها البحث العلمي بصورته الحالية التي يعرفها الطلاب، ويُدرسها الأساتذة، هي الشكل النظري الذي سار عليه الإنسان الذي يطلب الحقيقة، ويُنبّش عنها، وليس بين الإنسان القديم والحديث سوى أن الأخير تجسّدت أمامه السبيل، واتّضح له الشكل، وتنوّعت عنده طرائقه، وأضحى يحفظها نظريا، ويملك قدرة على سرد مناهجها، وعدّ مدارسها، ولم يكن كل ذلك منه قدرة على تمثّلها، والأخذ بمبادئها وشروطها؛ فبين حفظ الشيء واستظهاره وحمل النفس عليه، وظهوره في ملكاتها، بون كبير، وفرق عظيم، وما أكثر ما يستظهره الإنسان، من مبادئ وأفكار، ويكتفي من ذلك كله بقدرته على إعادة المحفوظ، واسترجاع المجموع، ولنا في قواعد العربية، وقوانين بلاغتها، ما يشهد بهذا، ويدل عليه؛ فكثير من الناس تختزن ذاكرته قواعد هذا وذاك، وحين يكتب أو يتكلم يجري قلمه، وينطلق لسانه، وكأنْ لم يُحط بهما علما، ولم يدرِ عنهما شيئا. في طلب الصواب، وسلوك دروبه، لا يختلف البشر، قريبهم وبعيدهم، قديمهم وحديثهم، وهذا ما يجعلني أذهب إلى أن البحث العلمي، بشروطه ومبادئه الحديثة، كان سجيّة قديمة للبشر الذين يسعون إلى معرفة الحقائق، وتمييز الغث من السمين، وفحص المعارف والآراء، وهذا الرأي يدفعني إلى النظر في تراثنا، ورجاله، من خلال البحث العلمي وشروطه، وإن كان ثمرة حديثة لا قديمة، وما دُمنا نُطالب الباحثين اليوم بهذه الشروط، ونُلزمهم بها، ونراها أمارة للإجادة، وبرهانا على الإتقان، فنحن مدعوون إلى اتخاذها وسيلة في معايرة التراث، وتقييم كتبته، والنظر في قيمة رجاله. من شروط الباحث أن يكون قصده الحق، ومراده في البحث عنه، والتفتيش عن قائليه، وهذا مبدأ قديم، وخصلة إنسانية عتيقة، عرفها طلاب الصواب، واتخذوا التدابير إليها، ومهما كانت حصيلتهم في هذا السبيل، وجهودهم فيه؛ فسبيلهم النظري هو الذي يؤمن به الباحثون اليوم، ويدعون إليه، لا فرق بين باحث في المذاهب والنحل وباحث في أصول النظر وقواعده؛ فالجميع، وإن أثقلتهم معهوداتهم ومألوفاتهم عنه، يرونه الطريق الأسدّ، والدرب الأصوب، وهذه الحال المتفق عليها نظريا، تضطرني إلى طرح السؤال التالي: لو نظرنا إلى تراثنا، وإلى مؤلفيه، بهذه الصفة التي نعدها شرطا من شروط الباحث، ومبدأ من مبادئ الإنسان حين يفكر، ونتفق على أننا ننتظرها من كل باحث، ونتوقعها منه؛ فهل نجد في تراثنا نماذج من الكتب المؤلفة تحقق هذا الشرط، وأمثلة من رجاله تقوم أحسن القيام بهذا المبدأ؛ فننصح طلابنا ونوصي طالباتنا بقراءتها، والاطلاع على تراث أولئك الرجال؛ حتى يجدوا في تراثهم ورجاله قدوات في تطبيق هذه المبادئ، ونماذج يُهتدى بها، ويُستعان بجهودها، في الاستمساك بالبحث العلمي الحر وأهدافه؟ يقول الجاحظ في مقدمة كتابه المفقود حول الفُتيا، وهي ما بقي منه: "وليس يكون الكتاب تاما، ولحاجة الناس إليه جامعا، حتى تحتجّ لكل قول بما لا يُصاب عند صاحبه، ولا يبلغه أهله..." (رسائل الجاحظ، 1/ 314). هذا دستور الباحثين الذين يسلكون طرائق البحث، ويميلون إليه، يُوجزه الجاحظ في عبارته، ويُسطّره لنا بقلمه، فمن الطائفة المسلمة التي استطاعت أن تُقدّم في ميدان العقائد والحديث عنها نماذج تُعين على فشو هذا الدستور وانتشاره بين الباحثين؟ ومَنْ مِنْ هذه الطوائف استطاع رجالها أن يضربوا الأمثال للمسلمين في الأخذ بهذا الدستور في علاج هذه القضايا والنظر فيها؟ المسلمون يبحثون عن القدوات في الأعمال الظاهرة، ويروون في هذا المعنى الروايات، ويحكون الأقاصيص، وهذا غير منكر فائدتها، ولا معترض على صاحبه؛ بيد أنّ الباحثين، وهم من نُخب المجتمع، وعقله المحرك لثقافته، محتاجون لقدوات يسيرون على نهجهم، ويقتفون آثارهم؛ فأين هذه القدوات في التراث العقائدي الذي يُعدّ أكثر مُشكل لثقافة المسلمين، ومؤثر في أقوالهم وأفعالهم؟ أين هم المؤلفون والباحثون الذين كانوا يُوردون الحجج، ويسوقون الأدلة، ولا يتّهمون مخالفهم، ولا يُبدّعونه أو يُفسّقونه، وإنما يُحسنون الظن بأمثالهم من الباحثين، ويرون الخطأ ضريبة طبعية من ضرائب البحث الجديد والنظر المختلف؟ وأين أولئك الذين كانوا يحفظون حق الباحثين، المخالفين لهم؛ حفظا لسبيل البحث أن تندثر، وصيانة لها من أن تعدم السالكين؟ أحسب أنني لو كُتب لي وطرحتُ هذه الأسئلة على المسلمين، وأعلنتها في جماعاتهم؛ لوجدت كل طائفة تسرد أمامي رجالها، وتُعدد باحثيها ومؤلفيها، وتراهم النماذج المثلى، والقدوات العليا، وهي لو نظرت في حالها اليوم، وتبصّرت في واقعها؛ لفطنت أنها، إن كانت تلك صفاتهم على الحقيقة، فلم ترث منها قليلا ولا كثيرا، ولم تنتفع بها في فتح أبواب البحث، وإطلاق عقول الباحثين، وترك الرقابة عليهم، وهي لو فعلت لاقتدت بأولئك الأسلاف في أس مناهج التفكير، وأصل طرائق النظر، وهي قضايا أهم بمئات المرات، إن لم يكن بآلافها، من الاقتداء بمسائل عقدية أو فقهية، لكل مدرسة فيها قول، ولكل مذهب فيها رأي؛ إذ ذاك هو المشترك الإسلامي الذي لولاه ما وجدنا هذا التراث المترامي الأطراف، والمتباعد الجنبات. matroody5@hotmail.com
مشاركة :