يعود غيلنر في بداية هذا العقد ومن خلال مؤلفين آخرين ليواصل طريقته في مزج الفلسفي بالانثروبولوجي وذلك عبر تعاطيه لموضوعات هذين الميدانيين من المعرفة. ففي مؤلفه الاول العقل والثقافة يحاول غيلنر معالجة التشعبات الناتجة عن مقابلة العقلانية مع المفاهيم التقليدية للثقافة. يبدأ غيلنر العقل والثقافة من خلال تناول محاولات ديكارت لتحرير نفسه من إنحيازات الثقافة ثم ينطلق إلى مقارنة المشروع الديكارتي مع مشروع أميل دوركايم الذي ينظر إلى الثقافة باعتبارها أرضية للعقلانية، وبنفس الطريقة يذهب غيلنر إلى معالجة ماكس فيبر. ثم ينتقل غيلنر ثانياً إلى تتبع الإرث الفلسفي لفلاسفة مثل: كانط، وهيوم، وهيجل في مقابل آخرين آمثال: شوبينهاور، ونيتشه، وفرويد. وأخيراً يعرج غيلنر على معالجة أطروحات عدد من فلاسفة العقلانية المعاصرين من بينهم: فيتجنستاين، وتوماس كان، وكارل بوبر، ودانيال ييل. أما في كتابه الثاني العقل والدين ومابعد الحداثة، وهو عبارة عن سلسة من المقالات التي سبق أن قام بنشرها في دوريات مختلفة، فهو يعالج من خلالها وفي أماكن متفرقة منها موضوعات مثل: الأصولية الدينية، وخصوصاً الإسلامية منها، وكذلك الاتجاهات الفكرية لما بعد الحداثة وخاصة ما كان يراه غيلنر من أثر سلبي قد يترتب على سيادة الاتجاهات النسبية والتأويلية في فلسفة العلوم الاجتماعية. في العقل والدين وما بعد الحداثة وقد أراد غيلنر التصدي لأصحاب هذه الاتجاهات في مجال الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية وخاصة الانثروبولوجيين الامريكيين مثل: كليفرد غيرتز، وبول رابينو، وجورج ماركوس، وجيمس كليفرد. 3. تمثيلات إثنواغرفية لننتقل الآن ونلقي نظرة على واحدة من التمثيلات الإثنوغرافية التي قام بها غيلنر للإسلام والقبلية في المغرب العربي وسنحاول أن ننطلق في هذه المحاولة التمثيلية نحو معالجة الدلالات السياقية لتجربة إرنست غيلنر الانثروبولوجية. يقول غيلنر: (إدراج كل من الصوفيين الحقيقيين وصلحاء القبائل في صنف واحد، وتشير المصطلحات المستعملة إلى هذا التعميم الذي قد نلمس فيه نوعاً من الخلط. والواقع أنه ليس هناك تجانس بين الصنفين المذكورين يسمح بدمجهما سواء في مستوي المدلول الاجتماعي أو من زواية الفينومينولوجيا الدينية. وبصفة عامة يمكن القول إن التصوف في الحواضر يشكل بديلاً لإسلام الفقهاء الذي يُنعت بالتشدد والجفاف بينما التصوف في البوادي يقوم مقامة. ففي الحالة الاولي، يُبحث عند الصوفية عما لا يوجد عند الفقهاء من الإشباع الروحي الكامل. وفي الحالة الثانية، يُتبع الصلحاء لأن التصور الحرفي الذي يحمله فقهاء المدن غير قابل للتطبيق). هكذا يعرض لنا إرنست غيلنر واحدة من تمثيلاته الاثنوغرافية عن الاسلام والقبلية بين بربر جبال الأطلس في المغرب. وغيلنر في عمله هذا إنما شأنه في ذلك شأن كل أنثروبولوجي وربما كل مؤرخ و رحّالة وروائي أيضاً أي أن عمله في محصلته الاخيرة ما هو إلا إنتاج لنصوص يتم من خلالها تمثيل ثقافة أو مجتمع آخر. أي أن الانثروبولوجي، إذا ما إستخدمنا لغة أنثروبولوجيي ما بعد الحداثة، ما هو إلا كاتب يقوم بإنتاج نص، هذا النص الذي يراد له ترجمة وإيصال تمثيل ما عن ثقافة أو مجتمع معين. ووفق مفهوم هذا الاتجاه، أي أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة، يكاد يكون الفرق إذاً معدوماً بين الانثروبولوجي، الذي يقوم عمله أساساً على تجربة العمل الحقلي الاثنوغرافي، وبين المؤرخ الذي ترتكز تجربته على قراءة شواهد الماضي من وثائق ومخطوطات وأقوال شفاهية، وكذلك أيضا الروائي الذي تتأسس تجربته على تأسيس الاتصال بواقع أو مجتمع مهما صغر أو كبر- ليقوم بعد ذلك بتكييفها مع ما هو خيالي. ففي كل حالة من هذه الحالات الثلاث، وكذلك في حالة الرحالة، فإن ما يتم إنتاجه هنا هو: تمثيل معين لمجتمع أو ثقافة معينة. إن البحث في جانب مهم في الفكر الانثروبولوجي كموضوع كيفية قيام الأنثروبولوجي ببناء تمثيلاته عن الثقافات الأخرى، والتي تترتب عادة على علاقته الحقلية الاثنوغرافية بهذه الثقافات (كالتمثيل الخاص بإرنست غيلنر عن الاسلام والقبيلة في جبال الاطلس والمشار إلى شيئ منه وبصورة حرفية أعلاه)، يعد أمراً هاماً في تقييم بعض مصادر نظرية المعرفة بصفة عامة وتلك المتعلقة بعلم الانثروبولوجيا بصفة خاصة. إن التوقف قليلاً عند التمثيلات التي تم تشّيدها مثلاً عن الثقافة والمجتمع العربي في الفكر الانثروبولوجي، وخصوصاً تلك التمثيلات الناتجة عن علاقة الأنثروبولوجي بالمجتمعات العربية لهو أمر على غاية من الاهمية. إن التمثيلات الانثروبولوجية الغربية تستمد أهميتها، على سبيل المثال، من العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، وكذلك من الدلالات السياقية لهذه العلاقة. لذلك فإننا إذا أردنا القيام بمحاولة تأريخ لعلاقة الفكر الانثروبولوجي الغربي بالمجتمع والثقافة في العالم العربي، فإن إيفانز بريتشارد وإرنست غيلنر سيتصدران ليس فقط قائمة عدد من الانثروبولوجيين الذين تعاملوا مع ثقافات ومجتمعات العالم العربي والاسلامي، وإنما أيضاً لأن تجربة الاثنين معاً تعبر عن إحدى أشكال تجليات هذه العلاقة في جانبها الاوروبي على الاقل. فإيفانز بريتشارد من جهة، وغيلنر من جهة أخري، قد حاولا من واقع انتمائهما للثقافة الاوروبية المعاصرة، أي باعتبارهما مثقفين قبل أن يكونا أكاديميين، فهم هذا الواقع الاجتماعي والثقافي ذي الخاصية العربية الاسلامية، أي هذا الواقع الذي يقع في مقابل الغرب الثقافي والاجتماعي. إن الهاجس الأهم الذي كان، ولا يشكل صلب اهتمام غيلنر في هذا الجانب مثلاً، ليس هو التفاصيل الإثنوغرافية المميزة للثقافة وللمجتمع العربي الإسلامي، وإنما البحث في الآليات والقوانين المنطقية التي يعمل وفقها النظام الاجتماعي في هذه البقعة من العالم. إن أعمال إرنست غيلنر الهادفة إلى محاولة فهم هذا النظام وثنائياته المتعددة ( كثنائية البداوة / الحضر، الانقسام / الوحدة، الشعبي / الرسمي وغيرها من الثنائيات) قد تكون واضحة وجلية في أعماله العديدة التي أخذته إلى ضفاف مشكلات عربية وأسلامية معاصرة. 4. إيكولوجيا الانقسام ها نحن إزاء هذا الانثروبولوجي والفيلسوف إرنست غيلنر الذي عبر دراساته الاثنوغرافية أولاً والانثروبولوجية ثانياً، قد أتى على ذكر وتحليل جانبين على غاية من الاهمية، إن لم يكونا إحدى الثوابت الرئيسة البارزة في البنى الاجتماعية العربية، ألا وهما: الإسلام والقبلية. فإرنست غيلنر قد غادر مقاعد دراسة الفلسفة والاقتصاد والسياسة في أكسفورد ولندن في خمسينيات هذا القرن ليذهب إلى جبال الاطلس في المغرب محاولاً الاستقراء، أي كما يقول هو: أريد رؤية واقعية لكيفية عمل النظم العقلية والايدولوجية في الواقع. وهكذا قادته محاولته الاستقرائية، أي عمله الحقلي الاثنوغرافي، إلى إختبار ثان من جانبه لمفهوم الانقسامية، وذلك على اعتبار أن الانقسامية هي السمة البنيوية البارزة للنظم القرابية والسياسة في المجتمعات العربية القبلية. وقد رأى غيلنر في هذه الانقسامية باعتبارها احدى نتاجات تفاعل البداوة العربية (أي البداوة حسب المفهوم الخلدوني والذي استهوى غيلنر كثيراً إلى الحد الذي يشيد به في أعماله) مع النظام الايكولوجي في الصحاري والجبال والوديان العربية. فبذهاب غيلنر إلى جبال الاطلس إنما كان يريد أن يجعل أطروحة معلمة إيفانز بريتشارد بارزة للعيان، وعلى أنه مثلما قام المعلم باختبارها بين قبائل برقة في الصحراء الليبية، فإنه ها هنا يأتي هو بصحبة قبائل البربر ليثبت كيف أن الانقسامية لاتعد سوى تجربة إبداعية في تكيف الإنسان أيكولوجياً في هذه البقاع من العالم. ومثلما ذهب المعلم إيفانز بريتشارد إلى البحث في العوامل المحلية المساعدة على إعادة التوازن في الانقسامية القبلية، أي فيما رآّه المعلم من دور للاسلام باعتباره نظاماً أيديولوجياً تجسد في التنظيم الاجتماعي لأبناء برقة و في الحركة الصوفية السنوسية، هكذا أيضا سعي غيلنر. ففي كتابة أولياء جبال الاطلس حاول غيلنر إيضاح كيف كان يؤدي التصوف الإسلامي، عبر نظام الزوايا والأولياء، أدوراً تعتبر مفصلية في إعادة التوزان إلى بنى اجتماعية يدفع بها نظامها الايكولوجي نحو الانقسام المتتالي. وهكذا دخل إرنست غيلنر بصحبة المعلم إيفانز بريتشارد إلى معترك النظرية الأنثروبولوجية، أي إلى حيث كان السجال قائماً على أشده منذ الخمسنينات حول نسق القرابة. فالسجال الأنثروبولوجي الذى إمتد حتى نهاية السبعينيات والذي دخل غيلنر فيه مسلحاً بإثنوغرافياته المستمدة من مجتمع وثقافة تنتمي حسب المفهوم الانثروبولوجي إلى المجتمعات المعقدة قد قطعت الصلة بالنظريات الانثروبولوجية الاولى التي كانت تبحث في الجانب التطوري للقرابة كنسق، وكذلك بمحاولة إعادة الانتاج التي قامت بها الماركسية لأطروحات لويس مورغان ويوهان باخوفن والتي تجلت في كتاب فريدريك أنجلز أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. فالنظرية الأنثروبولوجية، سواء تلك المتمثلة في البنائية - الوظيفية البريطانية أو البنيوية الفرنسية، لم يكن يعنيهما أمر ما كانت تتحاور فيه الماركسية من أولوية للبنى التحتية في عمليات صياغة التشكيلات الاجتماعية. الشيء الأهم بالنسبة للنظرية الأنثروبولوجية هو: كيف يمكن لنسق القرابة أن يحتل هذه الاولوية في البنى الاجتماعية للمجتمعات غير الصناعية، ليصبح النسق الأكثر أهمية وبالتالي الاعظم هيمنة بين جميع الأنساق الاجتماعية (كالنسق الديني، والسياسي، والاقتصادي، إلخ)؟ لقد أظهر غيلنر في كل هذه السجالات مقدرته التنيظرية في مجال الفلسفة السياسية، هذا المجال الذي سيظل غيلنر يتردد عليه رغم إنشغاله بعد أولياء جبال الاطلس بالبحث في مجالات فلسفية أخرى، أخذته مثلاً إلى نقد فلسفة اللغة عند فيتجنشتاين وكذلك إلى نقد مدرسة التحليل النفسي، ولكن مع ذلك ظل غيلنر أنثروبولوجياً في الصميم. فهو رغم إعتلائه الأكاديمي مثلا لكرسي الفلسفة إلا أن اهتماماته الانثروبولوجية قد ظلت باقية، لتشكل كذلك الرافد الرئيس لمواصلة إنشغاله بالفلسفة. فهكذا تقوده اهتماماته الأنثروبولوجية مثلاً إلى مواصلة أعمال حقلية أثنوغرافية أخرى، فتأخذه اهتماماته هذه المرة إلى الهملايا ثم إلى موسكو في الثمانينات. كان غيلنر يريد من الهملايا، حيث البوذية في شكلها الهندوسي، ومن موسكو، حيث الأكاديمية السوفيتية للعلوم المشيدة على نظام من المعتقدات غير الدينية، أن يري مرة أخري، ومن مواقع زوايا مختلفة عن جبال الاطلس: كيف يمكن لنسق المعتقدات، باعتباره أيديولوجيا، أن يؤدي دوراً في صياغة الحياة الاجتماعية. (الايدولوجيا الجمعية)، (التصورات الجمعية)، (الروح الجمعية)، هذه هي بعض من أحجار الزاوية لما كان ينشغل به السوسيولوجي الفرنسي: أميل دوركايم. ولقد دفعت تلك المفاهيم بالمعلم أولاً، أي بإيفانز بريتشارد، إلى البحث عنها، ثم ليأتي بعده إرنست غيلنر، المريد. إن مريدية غيلنر لم تبق عليه معزولاً في حضرة علم الاستاذ المفضل: أي الانثروبولوجيا، وإنما أخذته، وبخلاف شيخه، إلى الفلسفة. أي إن المريد إذا صح القول قد تجاوز شيخه. وربما كانت هذه العلاقة المريدية بين إرنست غيلنر وإيفانز بريتشارد من بين أهم الجوانب غير المضاءة في الحوار الذي أجراه جون ديفيز مع غيلنر عندما بحث معه جوانب من سيرته الذاتية. ذلك لكون الاثنين معاً، أي غيلنر وجون ديفيز، قد ذهب كل منهما في زاوية معينة بحثاً عما تحدث عنه الشيخ. فإذا كانت تعاليم الشيخ، إيفانز بريتشارد، قد أخذت إرنست غيلنر إلى بربر جبال الأطلس فإن تعاليم الشيخ قد ذهبت بجون ديفيز أيضا إلى فلاحي إيطاليا أولاً ثم إلى القبائل العربية في ليبيا. وكان سفره هذا محاولة لتتبع ما قد بدأ يتضح لإيفانز بريتشارد من معالم مميزة لثقافة البحر المتوسط، جديرة بالبحث الأنثروبولوجي. ولنا أن نقول إنه إذا كان غيلنر لايؤمن بالتأويلية، بل يحاربها، فهذا شأنه. ولكنه إذا قال إن التمثيلات الإثنوغرافية ماهي إلا وقائع إجتماعية قائمة ومستقلة موضوعياً عن ذواتنا، ففي هذا يكون غير موضوعي. حيث أن عملية تمثيله لهذا الوقائع لها شروطها التاريخية التي تم بموجبها التمثيل، والذي يعد غيلنر طرفاً، إن لم يكن نتاجاً لهذه الشروط. فشروط تلك المرحلة قد أدت فيها البنائية - الوظيفية البريطانية ونظريتها الانقسامية دوراً في فهم واقع البنى الاجتماعية للمجتمعات العربية الاسلامية. وكان للانثروبولوجي البريطاني، إيفانز بريتشارد، دوراً أساسياً لايستهان به في محاولة فهم هذا الواقع وربما حتى التنظير له. إننا نرى أنه في ضوء شروط هذه العلاقة التي كانت قائمة بين غيلنر والبنائية-الوظيفية وإيفانز بريتشارد خاصة، يتحتم علينا الاقتراب من تجربة غيلنر مع المجتمع العربي الاسلامي. هذا لا يعني طبعاً أنه في ضوء نفس تلك الشروط يجب النظر إلى بقية التمثيلات الاثنوغرافية والتنظيرات الانثروبولوجية التي قام بها غيلنر لمجتمعات وثقافات وربما حتى مجالات نظرية أخرى. فلكل تجربة من تجاربه شروطها التاريخية الخاصة بها والتي يجب إمعان النظر فيها حتى يتسنى لنا القيام بعد ذلك بعملية النقد الشاملة لمساهمة غيلنر الانثروبولوجية والفلسفية. 5. رجم الاستشراق تلك جردة سريعة وضعت بشكل متعمد في مقابل رؤية إدوارد سعيد الخاصة بإرنست غيلنر. وهو أمر لا أعتقد معه أن أعمال مثل الاستشراق و الثقافة والامبريالية تشكل وحدها مصدراً كافيًا للشرعية والسلطة في مجال المعرفة لازاحة وتهميش ما أسهم به غيلنر. إنني أرى بأن إرنست غيلنر قد وقع ضحية لإسلوب من النقد الكاسح والعنيف، والذي عادة ما يميل سعيد إلى التسلح به في تصديه لخصومه وخصوصا النقاد منهم. وفي هذا النوع من المعارك عادة ما يلجأ سعيد إلى وضع أسلوبه النقدي في أطار سياق سياسي. إنه السلاح الذي لجأ إليه سعيد في معالجته مثلاً لموضوع الاستشراق في كتابه الاستشراق، وهو الأسلوب الذي كثيراً ما يلجأ إليه أيضا كتّاب ما بعد الحداثة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية تأثراً بطريقة تناول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو لعدد من المواضيع من بينها: المعرفة، والجنس، والمؤسسات العقابية، والكتابة. ولذلك من يقرأ كتاب الاستشراق يعاين على الفور البراعة والحماسة الشديدة التي تناول من خلالها سعيد مفهوم نسق علاقات السلطة بين الغرب والشرق التي في ضوئها تم للمستشرقين، كما يري سعيد، إنتاج نصوصهم حول الشرق. وهكذا تعامل سعيد مع الاستشراق باعتباره مؤسسة قد تم إنتاج أعرافها وتقاليدها عبر سياق علاقات السلطة، سواء السلطة السياسية الفعلية أو المعرفية، بين الغرب والشرق. برأيي إن هذه هي واحدة من أشكاليات سعيد التي كان يتعامل عبرها مع شئون الأدب والثقافة والفن عامة، وهي إشكالية ظلت ترافقه حتى في كتاباته الأخيرة، وربما يكون كتابه الاخير الثقافة والامبريالية هو من أكثر تجلياتها. أما الاشكالية الثانية برأينا، والتي على النقاد المعنيين بكتابات سعيد أن يسعوا إلى إدراكها وأخذها بعين الاعتبار: فهي تلك المتمثلة في موقع سعيد السياقي وتجربته في التعامل مع الثقافة والمجتمع في الغرب، أي من حيث كونه عربيًا من فلسطين قد أُلحق الضرر بوطنه على أيدي المستعمرين البريطانيين ثم الصهاينة، وهذا أمر لا ينبغي التقليل من أهميته عند قراءة تعامل سعيد مع الشأن الاوروبي أو الغربي عامةً. فكان من نتيجة هذا النوع من التعامل أن تخلى سعيد عن المستشرقين باعتبارهم أفراداً وعوضا عن ذلك ذهب ليتعامل معهم كما لو كانوا نتاج مؤسسة، وبالتالي فإن ما ينطبق على المؤسسة (باعتبارها نسقاً) ينطبق على الافراد كذلك، هذا رغم ما يوجد بين الافراد من تمايز. وهكذا وقع سعيد نتيجة استنباطيتهِ، من جهة، واختزاليته للأمور من جهة أخرى في مغبة التعامل مع الاستشراق كمؤسسة، وهو أسلوب يعود إلى المعلم فوكو (أي ميشيل فوكو) حيث استخدمه سعيد وبنجاح باهر في معالجة ظواهر كثيرة باعتبارها مؤسسات وأنساقاً، وهكذا تعامل سعيد من جهته مع المستشرقين باعتبارهم أما مساهمين في مشاريع هيمنة الغرب على الشرق وذلك فيما كان يراه من ضلوع مباشر لهم في هذه المشاريع، وكذلك بشكل غير مباشر عبر ما كانت تكرسه كتاباتهم عن الشرق وذلك من خلال التمثيلات التي كانوا يقومون بإنتاجها. وضمن هذا الاطار النقدي المحمل بمسؤلية الدور الرسالوي تعامل سعيد بهذا الشكل غير المنصف مع عدد كبير من المستشرقيين أولاً، ثم ذهب ليتناول وبنفس الادوات كل من حاول من الغربيين الاقتراب والتعامل أو إقامة علاقة مع ثقافات أخرى غير غربية، ومن مثل هذا المنطلق تعامل سعيد مع الأنثروبولوجيا وكتابات الرحالة والأعمال الأدبية كالقصص والروايات. برأينا إن ما قام به سعيد في الدوائر والساحات الثقافية في الغرب كان يتوفر فيه نوع من الشروط الموضوعية للأطراف التي يدخل سعيد في سجال ومعارك معها أما للمحاورة أو التطاحن، ولكن في العالم العربي أو الشرق الذي ينتمي إليه سعيد لا تتوفر لهؤلاء تلك الشروط المتعادلة. وهكذا ترتب على غياب تلك الشروط أن يقوم أبناء الشرق والعالم العربي بالامساك بمقولات سعيد النقدية وخصوصًا تلك ذات النكهة السياسة العالية. وما يقع نتيجة كل ذلك هو قيام بعض النقاد والقراء بالتعصب لتلك المقولات والمواقف التي يبديها سعيد من المستشرق أو المفكر الغربي الفلاني، دون أدني عناء من قبلهم للعودة إلى تلك النصوص الأصلية التي كتبها هؤلاء المستشرقون أو المفكرون الغربيون. إن إدوارد سعيد قد قام، ومن واقع عمله كمفكر وناقد وأستاذ جامعي، بواجب قراءة تلك النصوص وبالتالي التوصل إلى تلك الاستناجات التي توصل إليها. وعلى الاخرين برأينا، وخصوصًا النقاد العرب، أن يعملوا أيضا قراءاتهم قبل أن يصدروا أحكامهم. 6. الأحكام المسبقة نخلص من كل ذلك إلى القول إن الخبرة التاريخية للاستعمار قد تركت عند طرفيها (أي الشعوب المستعمِرة والمُستعمرة) آثاراً متعددة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحتى النفسي، لدرجة أن هذه الخبرة التاريخية ما زالت تؤثر إلى حد بعيد في طبيعة العلاقات اليومية القائمة بين طرفي التجربة. ولقد تأثرت العديد من المؤسسات الاجتماعية والأفراد وجوانب هامة من الحياة الثقافية بنتائج هذه الخبرة، وكانت للعلوم الطبيعية والانسانية والمعارف والمؤسسات الاكاديمية العائدة لها نصيب من هذه الخبرة التاريخية. فقد نتج عن هذه الخبرة في مجال المؤسسات الاكاديمية في الغرب أن برزت علوم ومعارف ساعدت الخبرة الاستعمارية في تطورها وربما حتى دعم مشاريعها البحثية، فكان لعلوم إنسانية مثل الجغرافيا والانثروبولوجيا والاستشراق نصيب الاسد في هذا المجال. فقد ارتبطت الجغرافيا مثلاً بمشاريع علمية كانت تهدف إلى تحقيق كشوفات جديدة تتعلق بتحديد طبيعة الكرة الارضية، أي التخوم اليابسة منها وأقاليمها وبيئاتها الجغرافية وكذلك توزيع البحار والمحيطات. كما إرتبطت الانثروبولوجيا واهتماماتها (البيولوجية والثقافية الاجتماعية) بمشاريع إستكمال معارفها حول الانسان وبيئاته الاجتماعية وثقافته، أي بتلك المشاريع الأنثروبولوجيه التي بدأت في الغرب والتي آن الاوان لاستكمالها خارج أوروبا، وها قد أتت ظروف الاستعمار في القرن التاسع عشر لتمهد الطريق لتلك المشاريع العلمية. ومثلما أدت الخبرة الاستعمارية في حالة الجغرافيا والانثروبولوجيا فإن الخبرة الاستعمارية قد أدت دورها في حالة الاستشراق. فإذا كان تاريخ الفكر الجغرافي والانثروبولوجي الغربي قد ارتبط في مرحلة من مراحله بأقاليم ومجتمعات وثقافات غير غربية، فإن الاستشراق، كحالة ثالثة، قد تأسس منذ البداية في الاكاديميات الغربية على بروز الاهتمام العلمي بالشرق كموضوع. فإذا كان الشرق أو العالم غير الغربي قد شكل ولا يزال يشكل جزءا من موضوع الجغرافيا والانثروبولوجيا، فإن الاستشراق والدراسات الشرقية ما زال يشكل الشرق موضوعها الأول والأخير. لاشك أن البحث في طبيعة العلاقة التي قامت بين هذه العلوم في أوروبا وبين العالم غير الأوروبي باعتباره موضوعاً للبحث (كما في حالة الجغرافيا والانثروبولوجيا في فترة تاريخية معينة، والاستشراق الذي لايزال يشكل الشرق بالنسبة له موضوع دراسة) قد تم بحثها والكتابة في موضوعها وحتى عقد الندوات والمؤتمرات العلمية حولها بصورة متتالية في العقود الثلاثة الماضية. وقد كان لأبناء الغرب ومؤسساته الاكاديمية نصيب الأسد في هذا النشاط وذلك مقارنة بنصيب الدول التي كانت يوماً ما مُستعمرة من قبل الغرب. إن موضوع هذه المقالة ليس البحث في العلاقات التاريخية بين الغرب والشرق أو الخبرة الناتجة عن الاستعمار كما ورد في السطور السابقة، إن كاتب هذه المقالة يعتقد أن الاستغراق في دراسة الخبرة التاريخية لهذه العلاقات قد ترتب عليه حالة من جلد الذات ونقدها بصورة مبالغ فيها بين عدد من المفكرين واختصاصي العلوم الانسانية والاجتماعية في الغرب، لدرجة أن الغرب (ونتائج تجربته الاستعمارية) أصبح ليس فقط هو المسؤول عن حاضر مشكلات التخلف في العالم النامي وإنما حتى عن مستقبل هذا العالم. وظهر بين أبناء العالم النامي من وجد في إطروحات هذا الفريق من المفكرين والاختصاصيين التبرير الكافي لنسب كل مشكلات التخلف التي تعاني منها أوطانهم إلى الغرب المستعمر، أي أن معوقات التنمية ذات الطابع البنيوي في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية لمجتمعات العالم النامي إنما تعود أساسًا لما أصبح متعارف عليه بـ العوامل الخارجية أي إلى الاختراق الرأسمالي الكولونيالي للبنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه التشكيلات. أن هذه الاطروحة، في رأينا المتواضع، وإن كانت تحمل جانباً من الصحة إلا أن العامل الخارجي هذا لا يمكن تحميله وحده مسؤولية الاعاقة التي تعاني منها هذه التشكيلات، فالمبالغة في هذا الامر قد ترتب عليه إلغاء كامل لدور العوامل الداخلية أو المحلية الخاصة بهذه المجتمعات ذاتها، وبالتالي آلت الامور إلى تهميش دور شعوب هذه المجتمعات في صناعة تاريخها ومستقبلها. وكان أن أدت هذه العقلية المتحاملة إلى سيادة نهج من التفكير السطحي والاختزالي الطابع، فبإلقاء مسؤولية الأوضاع التي يعاني منها حاضر المجتمعات النامية على الاستعمار استطاعت قوى سياسية نشطة من الأحزاب السياسة في العالم العربي (ذات هويات قومية وشيوعية ودينية الطابع) أن تجد في الغرب الجهة التي تجمع عليها منذ استقلال دولها باعتبارها المسؤول الاول والاخير عن نكباتها. وكان أن أدت هذه العقلية الاختزالية والروح المتحاملة إلى سيادة ميل هائل نحو تسييس المعارف والعلوم وكذلك المؤسسات والعلاقات الناتجة عنها. وكان من أبرز ضحايا تلك العلوم: الانثروبولوجيا والجغرافيا والاستشراق. وإذا كانت الجغرافيا قد نفذت بجلدها لاسباب تعود مثلاً إلى ترسخ هذا العلم في الاكاديميات العربية منذ أربعينيات القرن الماضي، وإلى إسهام الجغرافيين المسلمين البارز في هذا العلم منذ القدم، الأمر الذي جعل العرب أكثر ألفة مع هذا العلم مقارنة بالانثروبولوجيا، حيث نصيب العرب والمسلمين الأوائل في الانثروبولوجيا أقل بكثير إن لم يكن معدوماً عند مجاراتهم بالاوروبين. وهكذا تم التعاطي مع أي اهتمام أوروبي أو غربي بالمجتمعات والثقافة العربية أو الاسلامية على أنه يقع في دائرة الأطماع الاستعمارية أو التآمر على العرب أو الاسلام. وأصبح كل إنسان غربي (يُبدي شيئاً من الاهتمام بهذه الموضوعات) موضع شبهه وريبة في العالم العربي. إن هذا الامر لايحتاج إلى مستوى متفوق من العلم والدراية لكي يصنف هذا النوع من العلاقات الإنسانية بين المجتمعات أو الثقافات على أنها علاقات مريضة، وإن في استمرار هذه العلاقات أمراً لايجلب التقدم للبشرية جمعاء. إن استمرار الجهل بأهمية هذه العلوم والمعارف، وخاصة الانثروبولوجيا، لازال يكرس بين العرب غياب الفضول لمعرفة الثقافات غير العربية أو الاسلامية وإلى انعدام النظرة الموضوعية لطبيعة إسهام الثقافات الانسانية الاخرى المؤدية إلى فهم واقعي لطبيعة وحجم المساهمة العربية والاسلامية في الثقافة الانسانية. وبرأينا إن من بين إحدى السبل الموصلة إلى هذه الغاية هي المساهمة في نقد طبيعة هذه العلاقة، ومن زوايا مختلفة، ولهذا يجب أن يوجه النقد بنظرنا من هذا الإطار إلى الأحكام المسبقة والقيمية الطابع، والتي ما زالت تهيمن على أوساط المتعاطين مع الثقافات غير العربية أو الاسلامية. كما يجب أن تصب المساهمة (في جانبها العربي) على نقل الفكر الانثروبولوجي وترجمته ونقله من مصادره الغربية إلى العربية، وكذلك التعريف النقدي باصحاب هذا العلم من المسهمين البارزين في نظريات الانثروبولوجيا والأعمال الإثنوغرافية ملاحظة: قدمت المقالة الحالية كورقة في الندوة التي عقدتها كلية الاداب بجامعة البحرين حول المفكر والناقد إدوارد سعيد في نوفمبر *2003م، وقد سبق نشرها في مجلتي البحرين الثقافية البحرينية والاجتهاد اللبنانية، وقد أجرى عليها بعض التعديلات والاضافات اللازمة بمناسبة الندوة المذكورة، راجع: عبدالله عبدالرحمن يتيم، من المحراث إلى الكتاب: في حوارية إرنست غيلنرمع العرب والاسلام، مجلة البحرين الثقافية (البحرين)، المجلد*6، العدد *21، يوليو *1999م.مجلة الاجتهاد (بيروت)، المجلد*13،العدد *5150، يوليو *2001م.[/ALIGN]
مشاركة :