فى الساعات الأولى من صباح الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، تمكنت الطائرات الإسرائيلية عبر ضربة استباقية للجيشين المصرى والسوري، من تدمير ٣٠٤ طائرات مصرية رابضة فوق الأرض ومعها ١٤ قاعدة جوية، ليحتل الجيش الإسرائيلى الضفة الشرقية لقناة السويس وهضبة الجولان السورية. الهزيمة العسكرية كسرت الروح المعنوية للعرب، وسدّدّت الضربة القاضية لحلم القومية العربية، ابتلع إدوارد سعيد المقيم فى نيويورك مرارة الهزيمة، وهو الناصرى المؤمن بالقومية العربية، لاقى سخرية لاذعة من جميع النيويوركيين، بشأن الحرب التى انتهت بعد سبعين دقيقة فقط من بدئها !. وذكر أنه فى حفل «لّم الشمل» المقام فى نفس عام النكسة فى نيويورك، تم تغيير شكل الزى المفترض للعرب، بجعله شخص يرتدى جلبابا وحافى القدمين ورافع يديه فى استسلام، بوصف العرب جبناء ورمزًا للهزيمة.كان رد فعل سعيد بعد هذه النكبة؛ أن قرر الخروج من نطاق كونه أستاذا أكاديميا، إلى مثقف موسوعى له دور ونضال سياسي، على ما اكتسبه من خبرات كبيرة، ظل محبطًا كسيرًا، فقد دفعته صفعة الهزيمة إلى نقطة البداية إلى الصراع على فلسطين. وبعد ست سنوات، وفى عيد الغفران اليهودي، استيقظ على أنباء قصف القوات المسلحة المصرية للساتر الترابى المنيع «بارليف»، والجاثم أمام الضفة الشرقية لقناة السويس بأكثر من ١٠٥٠٠ قنبلة، وبمضخات مياه الضغط الغالى فتحت فيه ثغرات، مكنتها من بسط ١١ جسرًا للعبور، وفى اليوم التالى كان هناك ١٠٠ جندي، و١٠٢٠ دبابة، و١٣٥٠٠ مدرعة ؛ مرابضون جميعًا على الضفة الشرقية لقناة السويس، وتوغل الجيش السورى فى النقاط الحصينة الحصينة للجيش الإسرائيلى فى هضبة الجولان المحتلة.ليؤكد سعيد أن حرب أكتوبر أذهلته وانتشى بها، وحركت الرواكد وألهبت أفكاره الثائرة، وكانت الدافع الرئيسى وراء التفكير فى كتاب «الاستشراق»، ثم العمل على كتابته بدءًا من العام ١٩٧٤. فقد شاهد أول مرة انتصارا عربيا على اليهود، مستعمرى وطنه المنكوب. وطالما أكد سعيد أن الصهيونية، جزء من الإمبريالية العالمية، والمرتبطة بشكل وثيق بالاستشراق عبر تاريخه الطويل، لاحتكامها لذات النظرة الدونية للشعوب، والتى لخصها رئيس الموساد الإسرائيلى «تفسى زامير» إبان انتصار أكتوبر قائلا «لم نكن نعتقد على الإطلاق أن باستطاعة العرب القيام بتلك الحركة العسكرية فقد كنا نحتقرهم!».الصدمات المباغتة لا تتوقف، عن تحريك أشجان وأفكار العبقرى المُرهف، صدمته التالية بعد نكسة ٦٧، اكتشافه عام ١٩٩٤ إصابته بمرض سرطان الدم. فسارع بكتابة مذكراته لتخرج عام ٢٠٠٠ فى كتاب «خارج المكان»، والذى أفرغ فيه كل أتراحه وشعوره بالاغتراب، وإحساسه بأنه على الرغم من خمسين سنة عاشها فى الولايات المتحدة الأمريكية، ما زال يشعر بنفسه فيها غريبًا ومتوحدًا. وهنا نستطيع فهم سبب اختيار سعيد، للروائى البولندى الأصل العظيم «جوزيف كونراد» النازح من الإمبراطورية الروسية، إلى غرب أوروبا - لندن وفرنسا - ليكون محور دراسته الأدبية، لما بينهما من تطابق اغترابى مرير، ونضال سياسى ضد الاستعمار.ولا يكف سعيد عن إثارة الجدل، حين سافر إلى فلسطين عام ١٩٩٨، وقف على أعتاب بيته القديم الكائن فى حى الطالبية بالقدس الغربية، والذى هجره منذ عام ١٩٤٧، ولم يقدر على دخوله حزنًا على ما آل إليه وطنه ؛ فلم يشعر أن ذلك البيت الذى عاش فيه طفولته يمتُّ إليه بصلة وهو تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية. ليعود إلى فلسطين مرة أخرى عام ٢٠٠٠، فى رحلة تتبعتها وسائل الإعلام العالمية، وقد بدا عليه أثر الإنهاك البالغ من عاديات المرض الخبيث، ولكنه ظهر أكثر عزمًا وإيمانًا بقضيته، وهو واقف على الحدود اللبنانية الفلسطينية، يُلقى بحجر نحو إسرائيل، لتثار مجددًا زوبعة عالمية، حوله فى آخر أيام حياته الحافلة، ويطلق عليه بعنصرية أحادية النظرة لقب «بروفسير الإرهاب» لمجرد تفكيره فى المقاومة، ينطوى اللقب الباغي، على جحد لحق ومبدأ تحرير بلده المحتل من المستعمر الصهيوني.
مشاركة :