غالباً مايشعر الكاتب في مثل هذا الموضوع بنوعٍ من (التردد) النفسي والفكري. فالتسطيحُ البالغ في الخطاب السائد، حتى بين كثيرٍ من المثقفين الذين يعتبرون أنفسهم (تقدميين) بمعنىً أو آخر، يضع الكاتب وكلماته في خانة التصنيف منذ اللحظة الأولى لقراءة العنوان. «آها..» يقول هؤلاء في أنفسهم. «ها قد أمسكناهُ بالجُرم المشهود، وحَكَمنا عليه بأنه مُعادٍ للعلمانية» والٌأغلب أن يُضيفوا «ومُعادٍ لليبرالية». لافرق أن يحصل هذا بلسان المقال أو أن يكون بلسان الحال. والحقيقة أن التردد المذكور أعلاه لاينبع من رهبةٍ قد تصيب البعض بسبب هذا الموقف على المستوى الشخصي، فالتعامل مع هذه القضايا لايأتي «رغَباً أو رَهَباً»، والمرءُ لايبحث في هذا المقام عن رضا أحدٍ أو سخطه فيما يطرح، فهذا أهونُ من أن يكون مقياساً للحسابات في الرأي والعمل. وإنما ينبثق التردد من خوفٍ يصيب المرء من المساهمة في خلط الأوراق، وزيادة الفوضى الفكرية التي تملأ ساحتنا، العربية عموماً، والسورية تحديداً، خاصةً بسبب التسطيح الذي نتحدث عنه. وأكثر من هذا، بسبب عمليات الفرز والتصنيف الحادة السائدة في ثقافتنا الراهنة، والتي تتمحور بشكلٍ كبير حول الموقف من الإسلام ودوره في الحياة. فمنذ سنوات طويلة، أشهر عزيز العظمة سيف الترهيب بالوقوع في عقلية النزعات التوفيقية أو التلفيقية على كل من حاول أن يجد لـ (التراث) مكاناً في واقع العرب ومستقبلهم.وحتى ندرك حجم المفارقة، يجب أن نتذكر أن السيف المذكور لم يطل (إسلاميين) بالمعنى المألوف لهذا التوصيف، وإنما مثقفين من أمثال الجابري وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وحتى غالي شكري! لقد كتبنا مقالاً سابقاً بعنوان (الثورة السورية إذ تكشف المستور). والحقيقة أن هذه الثورة تبقى في جوهرها عملية تعريةٍ هائلة لكل عيوب المجتمع السوري وثقافته، ربما قبل أن تكون حركة انعتاقٍ من الطغيان السياسي. والواقع أن في هذا خيراً كبيراً، لأن تحطيم أغلال الطغيان الثقافي بكل ألوانه ومصادره هو في النهاية الطريق الوحيد لامتلاك الحرية والكرامة، وإزالة منظومة الطاغوت السياسية مرةً واحدة وإلى الأبد. ونحن حين نتحدث عن الطغيان الثقافي هنا فإن معانيه لاتنحصر في الظلم العملي المباشر، وإنما تمتد لتشمل محاولات القفز على كل ماله علاقة بالهوية الحضارية الإسلامية التاريخية للمجتمع السوري، وخاصةً حين يحصل هذا من قبل مثقفين (تنويريين) ليبراليين وعلمانيين يُفترض بهم أن يكونوا طليعة المجتمع ووعيهُ المتقدﱢم. والواضح أن مآلات الثورة، و(شُبهة أسلَمتها) تحديداً، وضعت الغالبية العظمى من هؤلاء في موقفٍ حرج ثقافياً وسياسياً. ونحن إذ نتأمل حالهم مع نهايات العام الثالث للثورة فإننا نرى كيف يُصبحون بشكلٍ مضطرد جزءاً من المشكلة بدل أن يكونوا جزءاً من الحل. مامن شكٍ أن الثورة كشفت عوار الفكر الإسلامي التقليدي بأشكاله المتنوعة. لكننا نعترف فوق ذلك، وهذا رأيُنا على الأقل، أن الإسلاميين في سوريا كانوا فقراء قبل الثورة في صنعة الثقافة، وأنهم لم يكونوا قادرين على تقديم رموز ثقافية بالمعنى الأصيل للكلمة. من هنا، بقيت ساحة الثقافة حكراً (حلالاً) على من عمل فيها ممن كانوا يوصفون عادةً علمانيين أو ليبراليين. لكن هذه الحقيقة بحد ذاتها تضع على هؤلاء مسؤوليةً كبيرة. فلئن كان الزهدُ في استيعاب الرؤية الإسلامية وتأثيرها في المجتمع السوري ترفاً ممكناً قبل الثورة. إلا أن استمرار تلك الممارسة في واقعها الراهن يعني في أقل الأحوال تجاهلاً مُعيباً للدور الطليعي للمثقف. أسوأ من هذا أن يصبح هاجسُ بعضهم، خاصةً ممن انتقلوا إلى عالم السياسة، معارضةً وموالاة، العملَ بكل طريقةٍ ممكنة لمحاصرة أي صفةٍ إسلامية للثورة. ليس غريباً إذاً أن نرى كيف يُكرسُ العلمانيون أنفسهم ظاهرة العلمانوفوبيا. وهانحن اليوم بإزاء ظاهرةٍ فريدة في سوريا، حيث خسرت الثقافة بعضاً من كبار رموزها دون أن تربحهم السياسة. ثمة مائة مأخذٍ ومأخذ على ممارسات كثيرٍ من الإسلاميين الذين أصبحوا القوة الأكبر في الواقع السوري. وعندنا أن هذه المآخذ تنبثق من رؤيةٍ شموليةٍ للإسلام نفسه قبل أن تكون صادرةً عن أي رؤيةٍ أخرى. لكن طريقة تعامل الغالبية العظمى من المثقفين العلمانيين والليبراليين مع الموضوع بأسره يبقى غريباً وغير مفهوم، إذا أخذنا بعين الاعتبار مقتضيات دور المثقف الحقيقي في عدم إنكار الواقع أولاً، ثم في فهمه بدقة، والإحاطة بمتغيراته، وصولاً إلى امتلاك اليقين بالقدرة على التأثير فيه إذا توفرت شروط العدل والموضوعية في القراءة والتحليل. الأرجح أن الأمل بات مفقوداً فيمن اقتحم ساحة السياسة ودهاليزها من أولئك المثقفين، ولئن كان هناك بصيص أملٍ في قلةٍ كان يبدو أنها تحاول إلى أمدٍ قريب، إلا أن بعض الوقائع تجعل المرء يخشى من فقدان الأمل نهائياً بدورهم أيضاً. وهذه أزمةٌ مؤلمة لسوريا، فضلاً عن كونها مؤلمة على غياب الكمون المأمول لهم ولمنظوماتهم الفكرية في تقوية منظومة التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية لسوريا المستقبل. أخشى مانخشاه أن يصدُقَ في زملائنا تحليل المثقف السعودي الليبرالي تركي الحمد منذ سنوات حين قال: «.. بوضوحٍ أكبر، يمكن القول أن الليبرالية هي ايديولوجيا واعية بذاتها الايديولوجية، وهنا تكمن قوتها من حيث وعي القائلين بها أن كل شيء ممكن. وبإيجاز العبارة، فإن الليبرالية في النهاية هي تحرير الايديولوجيا من الايديولوجيا، وهذا ليس تلاعباً بالألفاظ بقدر ماهو تقرير حالةٍ تاريخية معينة بأقل قدرٍ من الإسهاب. نقطة الضعف الرئيسية في الايديولوجيا الليبرالية لاتكمن في نسقها المفتوح، ولا في أفكارها الفلسفية، بقدر ماتكمن في المعبرين عنها، دولاً أوأفراداً أوجماعات، حين يمنحون مفاهيمها معاني مطلقة وفق ظروفهم ومحيطهم هم دون غيرهم، وبذلك يُغلقون ماهو مفتوحٌ أصلاً، ويزعزعون فكرة التعددية والتسامح والتعايش التي لا ليبرالية دونها. بمثل هذا الفعل، تتحول الليبرالية إلى ايديولوجيا بنصٍ مُغلق، مثلها مثل غيرها من ايديولوجيات، ويغيب الوعي عن معتنقيها من أنهم يُمارسون فعلاً ايديولوجيا في النهاية مهما بلغ عمق الإيمان بالمقولات المطروحة، وبذلك تحكم على نفسها بالفناء في النهاية». waelmerza@hotmail.com waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :