وجهة نظر: التفاهة الاقتصادية والنفاق الاقتصادي

  • 7/15/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

النصف الأول من عنوان هذه المقالة مستمد من عنوان كتاب صدر عام 2015، باللغة الفرنسية: نظام التفاهة، لمؤلفه الكندي: آلان دونو، وترجمته إلى العربية، عام 2020، بحرفية وكفاءة (كما يتضح من وضوح ودقة المصطلحات والمعاني لهذه الترجمة) د. مشاعل الهاجري، جامعة الكويت، التي أضافت تلخيصاً رائعاً للمحتويات. ويشير هذا الكتاب إلى نظم التفاهة Mediocracy بأشكالها الاقتصادية في الفصل الثاني: التجارة والتمويل. ولعل من أهم ممارسات التفاهة الاقتصادية هي: أولاً، إفراغ مفهوم «الحوكمة Governance» من معانيها الهادفة للمواءمة بين مصالح المجتمع والأفراد، ونشر الشفافية والمحاسبة، ومن خلال إيجاد مجالس إدارات للشركات تتمتع بالانضباط والموهبة والأخلاق. بدليل انتشار الفساد جنباً إلى جنب مع انتشار الحوكمة. ثانياً، تجسدت التفاهة الاقتصادية في دور الإفراط بالاعتماد على آليات السوق في استبدال «المهنة» محل «الحرفة». فمثلاً يمكن الآن إنتاج الوجبات الغذائية دون معرفة بالطبخ، وبيع كتب لا تتم قراءتها، والأمثلة عديدة. ثالثاً، أصبح السوق يعمل، في حالات كثيرة، من دون تدخل العقل البشري، إنما من خلال خوارزميات، خاصة في الأسواق المالية، وتأثير ذلك على الكثير من الانهيارات والصدمات (ويستشهد الكتاب بالعديد من الأمثلة الواقعية في هذا المجال). رابعاً، رغم فشل نظرية التقاطر لأسفل Trickle Down، إلا أن الكثير من متبني النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية ما زالوا يتبنونها، والتي تشير الى أن معدل النمو المرتفع له الأولوية في إصلاح الاقتصاد، ومن ثم تتدفق أمطار توزيع الدخل العادل، بالتالي لابد من تحمل أعباء سوء توزيع الدخل في بداية برامج الإصلاح للتمتع بدخل مرتفع، لاحقاً، للفئات المنخفضة والمتوسطة الدخل. خامساً، انتشار المصانع الآسيوية الاستغلالية Sweetshops، ومحاولة الصين إنشاء منطقة تجارية تفضيلية Preferential Commercial Zone في أميركا الشمالية، وما يترتب على ذلك من إقصاء الوسطاء من المنتجين الآسيويين، واتجاه الأسعار للارتفاع. سادساً، تفاهة العديد من الخبراء، ومن ضمنهم تجّار الحوكمة، من خلال نجدة الأقلية Oligarchy التي تتورط في قرارات تضرّ بالاقتصاد. ويستشهد الكتاب، هنا، بقضية مسؤول إداري كبير بمستشفى في مقاطعة «كيبك» الكندية، اتُهم بقضية نصب. فوجد في خبراء بالحوكمة، والجرائم المالية، والإدارة، من يقدمه على أنه نزيه ومهاجر إفريقي عصامي، ومستشاراً سابقاً لمسؤول تنفيذي كبير وخريج جامعة كمبرج. سابعاً، فرضت النقود نفسها على الثقافة، وتحولت وظيفة النقود، كما هو متعارف عليه اقتصادياً، من وسيلة للقياس وتبادل السلع والخدمات، إلى وسيلة لقياس متوسط القيمة Average Value. ولابد أن تستكمل التفاهة الاقتصادية، في النصف الثاني من هذه المقالة بالنفاق Hypocrisy الاقتصادي. ولعل من أفضل، إن لم يكن أفضل، من تطرق الى هذا النوع من النفاق هو الاقتصادي الكوري الجنوبي جانك H. Chang، من جامعة كمبردج البريطانية (والذي استضافه سابقاً، في محاضرة مع آخرين، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والإجتماعي)، في كتابه «Kicking Away the Ladder, Development Strategy in Historical Perspective, Anthem Press, 2002 ركل السلم: استراتيجية التنمية من منظور تاريخي». ويستعرض المؤلف التجارب الاقتصادية في عدد من البلدان المتقدمة حالياً، والنامية سابقة، وهي: النمسا، وبلجيكا، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وهولندا، وروسيا، وإسبانيا، والسويد، وسويسرا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة. ويفنّد المؤلف، بالأدلة التاريخية الاقتصادية، ما يقال من أن البلدان المتقدمة حالياً قد اعتمدت على آلية السوق الحر في تحولها من نامية دول متقدمة (وهذا، بطبيعة الحال، لا يقلل من أهمية العمل بقوى السوق الحرّ إذا توفرت الشروط التي تعمل لمصلحة البلدان النامية: تقاتل الصادرات الصينية من أجل تفعيل العمل بقوى السوق في البدان المتقدمة المستوردة. وأبرز خلاف، حالياً، هو الصيني / الألماني، والسوق الأوربي عموماً، حول فرض الإتحاد تعريفة جمركية مرتفعة جداً ضد صادرات الصين من السيارات الكهربائية: 38%). فعلى سبيل المثال، كما يشير الكتاب، فرضت الولايات المتحدة تعريفة على السلع المصنّعة المصدرة إليها بلغت 35-45% عام 1820، و40-50% عام 1875، و44% عام 1913، و37% عام 1925، و48% عام 1931، و14% عام 1950. في حين فرض بريطانيا للسنوات المذكورة تباعاً: 44-55%، و0%، و0%، و5%، غير متوفر، 23%. وهيكل حمائي مشابه لبقية الدول المذكورة. والأكثر دهشة أن أول من استخدم مفهوم حماية «الصناعة الناشئة Infant Industry» هو الأميركي ألكسندر هاملتون A. Hamilton، في تقاريره للخزانة حول الصناعات التحويلية، عام 1791، وليس الاقتصادي، كما يشاع، الاقتصادي الألماني فردريك ليست F. List. وأن بريطانيا لم تنتهج الدعوة لحرية السوق إلا بعد أن ضمنت قيادتها للثورة الصناعية 1760-1870، وبدءاً من عام 1850. كما أنها حظرت استيراد السفن من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وفقاً لقانون الملاحة لعام 1651. كما حظرت بريطانيا استيراد القطن الهندي (المنافس للبريطاني)، عام 1700. وبحلول عام 1873، مثّلت الصادرات البريطانية من الأنسجة القطنية إلى الهند حوالي 40-45% من إجمالي الصادرات البريطانية. الأمر الذي اثّر سلباً على التصنيع الهندي. كما أن اليابان، كبلد مصنّع حديث، أجبرت على فتح تجارتها الخارجية، عسكرياً، عام 1854، وفرضت عليها اتفاقية 1854، بحيث لا تزيد تعريفتها الجمركية على 5%، في حين أن تعريفة الولايات المتحدة كانت 50%. وبعد انتهاء الاتفاقية عام 1911، اعتمدت اليابان على السياسة الحمائية بشكل كبير. والأمثلة الأخرى عديدة في الكتاب. الخلاصة، أن الإدارة الاقتصادية الجيدة لا تستلزم فقط الإحاطة بالأساليب الفنية، وهو متطلب أساسي، وتوفير الشروط المسبقة المؤسسية والإدارية، بل الإحاطة بالتاريخ الاقتصادي للأمم، خاصة المتقدمة، وكيف تقدمت. كما أن هذه الإحاطة مهمة جداً خلال المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف بين الدول النامية والمتقدمة، حتى لا يتم تسويق الكثير من المعلومات المضللة، وتقديمها على شكل حقائق، وما يترتب على ذلك من إضاعة العديد من الفرض التفاوضية والحصول على مكاسب اقتصادية أفضل. ومفاوضات الدول النامية مع الدول المتقدمة، في جولة أورغواي مثلاً، التي كانت الأساس لإعلان منظمة التجارة العالمية WTO عام 1995، هي من أفضل الأمثلة، وغيرها الكثير.

مشاركة :