حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، منذ قرابة عشرة أشهر، ليست فريدة من نوعها، إذ أنها من صلب العقيدة الفاشية الأمنية الساكنة في العقل الإسرائيلي، وهي امتداد للعقلية التي أديرت بها الحرب الأولى (1948) التي شنتها العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، ونجم عنها النكبة، المتمثلة بإقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين، وتدمير مئات القرى والبلدات العربية. على ذلك فإن إسرائيل تعتبر أي حرب تقوم بها، ولو كانت حربا هجومية تضرب بها الآخرين، أو تحتل أراضيهم، أو تخوض حرب إبادة ضدهم، بوصفها حربا أخلاقية وضرورية وكحرب دفاع عن نفسها، باعتبار ذاتها كالضحية الوحيدة التي يحق لها استخدام كل قوتها، من دون اعتبار لأي معايير أو قوانين. في حربها الراهنة ضد فلسطينيي غزة، وهي أتت ضمن سلسلة من خمسة حروب مدمرة، فإن إسرائيل ظلت ترى نفسها، حتى قبل هجوم حماس في 7 أكتوبر، تدافع عن نفسها، بعد أن غادرت غزة وفكّكت مستوطناتها (2005)، وبعد أن باتت تتعرض لضربات صاروخية منها، متناسية أنها تحاصر القطاع، منذ 17 عاما، وأن الفلسطينيين فيها جزء من الشعب الفلسطيني، الذين قامت على حسابهم (1948)، علما بأن ثلثي سكانها من اللاجئين، بالإضافة إلى أنها دولة احتلت الضفة والقطاع منذ 1967. أيضا، وفي ذات الإطار فإن إسرائيل تخوض حربها ضد الفلسطينيين، في الضفة وغزة باعتبارها جزءًا من حرب أكبر، كحرب ضد أعدائها في الخارج، سواء كانت دولة عربية، أو دولة إقليمية بخاصة إيران، ومؤخرا باتت تعتبر أي حرب ضد الفلسطينيين كحرب خارجية، وكجزء من الحرب ضد نفوذ إيران الإقليمي، لخلط الأوراق، وأيضا، في محاولة طمس مكانتها وطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية ضد الفلسطينيين، في الضفة كما في غزة. فهذا دان شيفنون (رئيس مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا) يقول: «ليست حماس، ولا غزة، ولا القسام هي أهداف الحرب ومعيار نجاحها. في غزة نحن نحارب للبت بمصير التطرف في المنطقة وأسطورة المقاومة. هذا ما يعرفونه جيدا في طهران وبيروت ودمشق، وكذلك في القاهرة وعمان.. إن خراب غزة يسهم في منع الحرب مع لبنان وسوريا، ويساعد مصر والأردن في مكافحة العناصر المتطرفة ويعطي إشارة لإيران حول حدود ضبط النفس الإسرائيلي» (يديعوت أحرونوت 15/1/2009) وكانت إسرائيل، تصرفت على هذا النحو في حربها في لبنان (2006)، في ما بات يعرف بـ «عقيدة الضاحية»، التي نجم عنها تدمير أجزاء كبيرة من الضاحية الجنوبية لبيروت، وعشرات القرى في جنوبي لبنان. وفي كل الأحوال فإن سياسة إسرائيل تلك تقوم على مبدأ «السور والقلعة»، لتحصين نفسها والحفاظ على وضعها كدولة يهودية في محيط معادي، وهو ما كان عبر عنه بنيامين نتانياهو رئيس حكومة إسرائيل، بعيد حرب إسرائيل الأولى ضد غزة (2008 ـ 2009) إذ أكد أنه «في نهاية المطاف لن يكون هناك من مفر سوى إغلاق دولة إسرائيل من كل جوانبها». (يديعوت أحرونوت 11/1/2010). وللعلم فإن هذه العقلية لا تقتصر فقط على نتنياهو، وسموتريتش وبن غفير، وأوساط اليمين الديني والقومي المتطرف، فهي تشمل معسكر الوسط في إسرائيل، إذ شهدنا أن بيني غانتس، الذي يحسب على المعارضة، والذي قدم استقالته من الكابينت الأمني مؤخرا، صرح بأنه يعترض على كيفية إدارة نتنياهو للحرب، وأن وجهة نظره كانت تؤيد استمرار الحرب في الجنوب أي رفح، دون توقف، كما أكد على أن حرب إسرائيل في غزة ستستمر لسنوات؛ أي أن خلافه مع نتنياهو ثانوي، فضلا عن طابعه الشخصي. أما الجنرال غادي ايزنكوت، وهو الشخص الثاني، الذي استقال مع غانتس (وهو من معسكر الدولة)، وكان قائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي، في الحرب الأولى على غزة، ثم شغل منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي (2015 ـ 2019)، فهو يتبنى عقيدة «الجدار الحديدي»، في مقابلة أدلى بها إلى صحيفة يديعوت أحرونوت، بوقت مبكر (3/10/2008)، وهي منبثقة من عقيدة صاغها زئيف جابوتنسكي زعيم «التيار التنقيحي» في الحركة الصهيونية، في عشرينيات القرن الفائت، وتبناها بعده بن غوريون، ومفادها خلق قناعة لدى الفلسطينيين بعدم جدوى التجرؤ على إسرائيل، من خلال تدفيعهم ثمنا باهظا، يجعلهم فيما بعد يحجمون عن مهاجمتها؛ وهذه هي أسطورة، أو نظرية، الردع الإسرائيلية. وبرأي دان شيفنون فإن هذه العقيدة تتطلب «زرع دمار غير قياسي في النقاط والبؤر الحساسة لمطلقي الصواريخ على إسرائيل. الهدف ليس اصطياد الصاروخ الأخير، وإنما فرض تغيير جوهري في معادلة الكلفة والجدوى للمقاومة عن طريق رفع عنصر الكلفة بشكل دراماتيكي.. إن ما سيحدد نتائج الحرب استعداد إسرائيل لفعل الأعاجيب بحماس خلالها، وبصورة أساسية الرد بشكل منفلت العقال ضد إطلاق الصاروخ الأول بعدها.» (يديعوت أحرونوت 15/1/2009) وهذا الوضع سيجعل «حماس – هكذا يأملون – تفكر عشر مرات قبل أن تقرر تنفيذ عملية إرهابية ما من قطاع غزة. بعد أن ترى كيف تبدو غزة – ينبغي لها أن تكون مجنونة كي تضغط مرة أخرى على الزناد». (أليكس فيشمان هآرتس 22/1/2009) ولعل اكثر توضيح لتلك الاستراتيجية العسكرية، أتى من البروفيسور مارتين فان- كرفيلد (أستاذ الدراسات العسكرية في كلية التاريخ في الجامعة العبرية، وهو متخصص في الاستراتيجية العسكرية) وقد طرح هذا الخيار، بوقت مبكر، داعيا إلى توجيه ضربة قاسية للفلسطينيين للانفصال نهائيا عنهم: «لا جسور مفتوحة ولا علاقات اقتصادية ولا سياسية. فصل مطلق على مدار جيل أو جيلين، أو وفقاً لما يحتاجه الأمر.. لإعادة ميزان الردع.. هذه الأمور يجب أن ننفذها بسرعة مطلقة وبقوة دون أن نتأسف.. أنا في هذه الحالة سأستعمل المدفعية وليس الطيران لأنني أريد أن أنظر إليهم في عيونهم إذ لا فائدة من هذه الحملة إن لم تبرهن بأعمالك أنك يمكن أن تعمل كل شيء.. علينا أن نضربهم بقسوة بكل ما بوسعنا حتى لا نعود إلى ذلك وحتى لا يهاجموننا من الخلف عند خروجنا، علينا أن نضرب بكل قوة وقسوة بحيث لا نحتاج إلى ضربة ثانية.. من الأفضل جريمة واحدة وثقيلة نخرج بعدها ونغلق الأبواب من خلفنا.»(إمتساع حضيرة 8/3/2002 ). ــــــــــــــــــ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :