بينما تدب الحياة في أروقة المدارس و تحتدم المنافسة السياسية، و ذلك مع اقتراب شهر شتنبر، يبقى السؤال مطروحاً: ماذا عن "الدخول الثقافي" في المغرب؟ هل نحن إزاء حدث يتناسب و غنى إرثنا الثقافي وتنوعه؟ أم أنّنا أمام فرصة مهدرة لتحقيق انطلاقة ثقافية حقيقية تستثمر في طاقتنا الإبداعية وتجعل من الثقافة رافداً أساسياً للتنمية؟ أسئلة و أكثريحاول الاجابة عنها و مقاربتها، الباحث في السياسات العمومية و الاجتماعية رضوان جخا. هل يوجد في المغرب ما يمكن أن نطلق عليه "دخولا ثقافياً" وإذا كان موجوداً، لماذا لا يحظى بنفس الزخم والاهتمام والمتابعة مقارنة بالأنشطة الأخرى في البلاد؟ أعتقدُ بأنّنا لم نصل بعد إلى مرحلة يمكن وصفها بـ"الدخول الثقافي" بالمعنى الدقيق للمصطلح. ومع ذلك، يمكننا الحديث عن بدايات انطلاق موسم ثقافي بمفهومه التقليدي. يعزى هذا الوضع إلى عدة عوامل، أبرزها الشروع في صياغة استراتيجية سوسيو-ثقافية شاملة. وتقع مسؤولية هذه المهمة على عاتق الوزارات المعنية، سواء السابقة أو الحالية أو المستقبلية. الجدير بالذكر أن النشاط الثقافي هو في جوهره إرث مجتمعي متكامل، تتشابك فيه أدوار المؤسسات الرسمية مثل وزارات الثقافة والشباب والتربية الوطنية والتضامن والأسرة، مع جهود الفاعلين المدنيين في المجال الثقافي كدور النشر والشعراء والكتاب والفنانين... هذا التداخل يطرح تحديات في تنسيق الجهود وتوحيد الرؤى، لكنه في الوقت ذاته يفتح آفاقاً واعدة لتطوير المشهد الثقافي المغربي، شريطة وجود إرادة حقيقية وتخطيط استراتيجي سليم. و لتحقيق "دخول ثقافي" شبيه بالزخم المماثل للدخول المدرسي أو السياسي، يتعين على المغرب وضع خارطة طريق شاملة ذات بعدين: راهن واستشرافي. هذه الخطة يجب أن تتصدى لأسئلة محورية: هل استثمرنا بشكل فعال في إرثنا السوسيو-ثقافي؟ وهل نمتلك رؤية وأجندة محددة زمانياً ومكانياً تواكب كل موسم ثقافي جديد؟ لنأخذ أمثلة عالمية: تشهد فرنسا إصدار أكثر من 500 رواية مع كل موسم ثقافي. أما الولايات المتحدة والهند، فقد حولتا هوليوود وبوليوود إلى منصات عالمية لتسويق مقوماتهما الثقافية بنجاح باهر. من وجهة نظري، قبل الحديث عن دخول ثقافي بمفهومه التقليدي، يجب صياغة استراتيجية ثقافية وقانون إطار ثابت، لا يتغير بتغير المسؤولين أو الحكومات. هذه الرؤية لن تتبلور بشكل سليم إلا من خلال حوار وتشاور عمومي موسع، يشارك فيه جميع الفاعلين في المجال الثقافي.إن تطوير مشهد ثقافي نابض بالحياة في المغرب يتطلب التزاماً طويل الأمد وتخطيطاً استراتيجياً. فالثقافة ليست مجرد نشاط هامشي، بل هي محرك أساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعليه، فإن الاستثمار في البنية التحتية الثقافية وتشجيع الإبداع وتعزيز الصناعات الإبداعية يجب أن يكون أولوية وطنية. وإذا كان لنا أن نقترح فأتمنّى ان تكون اثنى عشر مناظرة جهوية ومناظرة للجهة الثالثة عشر وهم مغاربة العالم، وفي الأخير تكون مناظرة وطنية جامعة للتوصيات التي أفرزتها المناظرات الجهوية، لتخلص لميثاق يعلن بزوغ إستراتيجية ثقافية مندمجة، لا ننسى كذلك طابع الاستقرار داخل الحقيبة الوزارية أعتقد بأنه مهم جدا لوضع لبنات إستراتيجية، وهذا ما لا نجده في وزارة الثقافة التي تعاقب عليها أزيد من ست وزراء في حكومتين تقريبا. ما هو الدور الذي تلعبه الصناعات الثقافية والإبداعية في تعزيز مكانة الثقافة كعنصر حيوي وأساسي في الديناميكية الاقتصادية؟ وكيف يمكن لهذه الصناعات أن تساهم في تحويل الثقافة إلى محرك للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ بالتأكيد تلعب الصناعات الثقافية والإبداعية دوراً محورياً في تعزيز الهوية الوطنية والاقتصاد على حد سواء. فنماذج عالمية كالولايات المتحدة وبريطانيا والهند تشهد على نجاح استثمار هذه الصناعات في الترويج لمقوماتها الفنية والسياحية والسينمائية. ويعد توجه وزارة الثقافة نحو هيكلة وتشجيع الصناعات الثقافية الوطنية خطوة استراتيجية واعدة. غير أن هذا المسعى الطموح يتطلب رؤية طويلة الأمد وجهوداً متضافرة. فالنجاح في هذا المجال لا يعتمد فقط على مبادرات الوزارة، بل يستدعي تنسيقاً محكماً مع طيف واسع من القطاعات والمؤسسات. من السياحة إلى التعليم، ومن الإعلام إلى التكنولوجيا، تتشابك الثقافة مع كافة مناحي الحياة المجتمعية. وهنا تكمن التحديات والفرص على حد سواء. فالثقافة ليست مجرد قطاع منعزل، بل هي نسيج يربط المجتمع بأكمله. يزخر المغرب بإرث ثقافي عريق يمتد لقرون، يستدعي استثماراً وترويجاً دولياً عبر الصناعات الإبداعية المعاصرة. فمن الإرث السينمائي والسياحي في الجنوب الشرقي (الواحات، القصبات، القصور)، إلى التراث الشفهي الغني بمراكش، والعراقة التاريخية لفاس ومكناس والصويرة وسوس والعيون وواد الذهب، كلها تشكل أرضية خصبة لتأسيس حراك ثقافي يوازي عظمة هذا الإرث. إن استثمار هذا التنوع الثقافي عبر الصناعات الإبداعية، مدعوماً بالتقنيات الحديثة، من شأنه أن يخلق فرصاً اقتصادية ويعزز مكانة المغرب على الخريطة الثقافية العالمية.
مشاركة :