إن المستقبل هو للجغرافيا كعلم دخل صيرورة التطوّر التاريخي. وقد يكون متعذراً على الجميع مواكبته على نحو تام. بيد أن ذلك لا يعني عدم بذل الجهد بل التأكيد على أهميته. وإن عموم الباحثين في الحقول الإنسانية معنيون بمتابعة التطوّر المذهل في الدراسات الجغرافية كيف يُمكن مقاربة الواقع الجديد للبحوث (أو العلوم) الجغرافية؟ لماذا حدث تحوّلها الكبير والتاريخي في هذا الوقت بالذات؟ وأي ملامح يحملها المستقبل؟ بداية، لابد من التنويه إلى اننا بصدد فضاء معرفي واسع، يضم بين جناحيه عدداً كبيراً من الاختصاصات، التي تبدو مستقلة عملياً عن بعضها. وبالنسبة لخبراء العلاقات الدولية، وقضايا الدفاع، فإن تطوّر البحوث الجغرافية، بشقيها الطبيعي والبشري، يُمثل ضرورة كبرى لفهم الواقع، واستشراف المستقبل. ومن دون هذا التطوّر، فإن مهمة الجميع تبقى صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وما يُقال عن مجتمع الباحثين في مجالي العلاقات الدولية والدفاع، يُمكن قوله بدرجة أو أخرى على مجتمع باحثي علم الاجتماع العام والاقتصاد، والباحثين في علوم تطبيقية مختلفة، كالبيئة والزراعة والبيولوجيا والصحة. وهذا فضلاً عن الباحثين في الفروع الجغرافية أنفسهم، من الفضاء إلى المناخ، وصولاً إلى خبراء الجيولوجيا والموارد المائية والنفطية، وعلماء الديموغرافيا وغيرهم. وفي الأصل، فإن الجغرافيا العامة هي الركيزة الأم لمجموعة كبيرة من الاختصاصات التطبيقية والإنسانية. ومن دون الوعي الجغرافي، فإن الباحث في هذه الاختصاصات يجد نفسه أمام فجوة يصعب تخطيها. وهذه حقيقة نقولها من واقع التجربة. هناك مقولة مفادها ان الجغرافيا هي العنصر (أو العامل) الثابت في التاريخ. وهذه المقولة يحفظها دارسو العلاقات الدولية والدفاع، وتبقى راسخة في مدركاتهم، ومنطلقات تفكيرهم. والحقيقة، إن الجغرافيا لم تعد عنصراً سكونياً، وإن بدا ثابتاً بالمعنى الفيزيائي والمورفولوجي. إن معطيات الجغرافيا اليوم لم يعد لديها من الديمومة والثبات ما يُمكن التعويل عليه. بل إن مستوى التغيّر فيها يكاد يغدو خارج السيطرة في حالات معينة، كما هو حال التغيّر المناخي، أو سريعاً على نحو غير معهود، كما هو الحال بالنسبة للموارد الطبيعية، أو في سيولة دائمة، كما هو بالنسبة للجغرافيا السياسية وجغرافيا السكان. في الوقت الراهن، قد لا يكون هناك من عالم أو خبير يُمكنه التعويل على مقولة ان الجغرافيا هي العنصر الثابت في التاريخ. كما أن طلاب العلاقات الدولية والعلوم العسكرية والاجتماع لا يجوز تلقينهم هذه المقولة وكأنها بديهة علمية لا جدال فيها. والآن، ما هي أبرز الاتجاهات الجديدة للبحوث (أو العلوم) الجغرافية؟ سنعود بداية إلى التقسيم التقليدي للجغرافيا، أي الجغرافيا الطبيعية والاجتماعية (المتعارف عليها بالبشرية). بالطبع، تحتل الجغرافيا الطبيعية الحيز الأوسع من الاهتمام الأكاديمي، وتبدو اختصاصاتها عديدة ومتشعبة. ومن هنا، كان منطقياً أن نجد وفرة كبيرة من الدراسات التي تعنى بتطوّر هذا الحقل، وإيضاح اتجاهاته الجديدة. الجغرافيا الاجتماعية (أو البشرية) لديها هي الأخرى اختصاصاتها الكثيرة، وإن قلت نسبياً عن نظيرتها الطبيعية. إنها أكثر تمازجاً بالعديد من العلوم الإنسانية، بل هي متداخلة كلياً مع علم الاجتماع العام، والأنتروبولوجيا. كما لا يُمكن فصلها عن علم السياسة بنطاقه العام. على مستوى البحوث الجغرافية عامة، جاء التطوّر في الاتجاهات والاهتمامات متأثراً، على نحو كبير، بظاهرة التغيّر المناخي، وما أفرزته من ظواهر تابعة وحقائق جديدة، على الصعيدين الطبيعي والاجتماعي – الإنساني. ومن ناحية أخرى، تأثر تطوّر هذه البحوث بتغيّر بيئة النظام العالمي، وما تبعه من إعادة رسم جزئي للخارطة الجيوسياسية للعالم، لناحية ظهور دول جديدة واندثار أو تفكك أخرى. كذلك، فإن تطوّر نظريات الحرب، بأبعادها الأربعة (الأرض والبحر والجو والفضاء)، فرض نفسه، على نحو غير مسبوق، على الجغرافيا العسكرية، وأعاد تعريف طيف عريض من مقولاتها، بل ومسلماتها التي كنا نعرفها يوماً ما. اليوم، يُمكن أن نلحظ بأن عديداً من الكليات العسكرية حول العالم قد دخلت في إعادة بناء لمقرراتها الجغرافية، بل وحتى بعض من نظرياتها الشهيرة، التي كان الطالب يتعلمها في المراحل الأولى لانتسابه لهذه الكليات. على صعيد رابع، جاء تطوّر البحوث الجغرافية مدفوعاً بالتحديات المستجدة التي برزت على مستوى التكوينات الديموغرافية، وبروز مسائل المجتمعات المحلية، (ومجتمعات الغابات)، والخيارات (أو المدارس) الجديدة ذات الصلة بالسياسات الإنجابية، وتوازن الكتلة السكانية، وتطوّر دور المرأة، أو إعادة تعريف دورها، والمعضلات الخاصة بالأمراض السارية. وإضافة لذلك كله، هناك أسباب ذاتية (أو خاصة) لتطوّر البحوث الجغرافية، تتمثل بصفة أساسية في الزيادة الكبيرة التي طرأت على عديد المعاهد المعنية بهذه البحوث، ولا سيما بحوث الجغرافيا الطبيعية، وخاصة خلال العقد الأخير. إن آسيا أضحت بدورها موطناً لعدد بارز من هذه المعاهد، على النحو الذي بات معروفاً للجميع. كذلك، يُمكن أن نلحظ الآن بأن هناك وفرة في عدد المجلات التي تحمل مسمى "الجغرافيا الوطنية". وبعد أن كان المرء يعثر بالكاد على مجلة خاصة بهذه الدولة أو تلك، بات بمقدوره العثور عليها على مستوى المدينة وليس الدولة فقط. وهذا الأمر يشمل حالياً معظم مدن العالم، حتى الصغيرة منها. ولاحظوا حجم المادة العلمية المتاحة في هذه الإصدارات مجتمعة. وحيث أصبح بمقدور الباحث الاطلاع عليها مجاناً عبر الشبكة العنكبوتية. ودعونا الآن نلحظ بإيجاز ماهية الاهتمامات الجديدة في البحوث الجغرافية عامة. بداية، لا بد من الإشارة إلى أن البحوث الجغرافية، حالها حال العديد من الدراسات الإنسانية والتطبيقية المختلفة، قد شهدت تطوّراً تاريخياً على مستوى المناهج البحثية (واستتباعاً أدوات التحليل) فرضته ذات المعطيات التي دفعت باتجاه تطوّر هذه الدراسات ذاتها. وقد ساهمت في تطوير هذه المناهج والأدوات مؤسسات علمية مرموقة، بما في ذلك وكالات تابعة للأمم المتحدة. بالعودة لقضية الاهتمامات الجديدة للبحوث (أو العلوم) الجغرافية ذاتها، يسهل على الباحث اليوم العثور على العديد من هذه الاتجاهات في النطاقين الطبيعي والاجتماعي (أو البشري). على المستوى البشري، هناك عودة لإعادة تعريف العلاقة بين النمو السكاني والتطوّر، لمصلحة القول بهذا النمو. وهناك استشهاد بالتجربة الأوروبية التي يُمثل النمو الديموغرافي السلبي الثغرة الأكبر خطورة فيها. لقد طُرح السؤال التالي: ماذا لو كانت ألمانيا ذات كتلة سكانية مساوية لإندونيسيا؟ ولماذا نجحت اقتصادات بعض الدول النامية ذات الكتلة السكانية الكبيرة نسبياً، مثل تايلاند؟ في إطار الجغرافيا الاجتماعية (أو البشرية) أيضاً، يُمكن للمرء أن يلحظ، خلال العقدين الماضيين، تركيزاً على تأثير الأمراض السارية على مجتمعات بعينها، مع إشارة للآليات التي تواجه بها هذه المجتمعات مخاطر أمنها الصحي. وعلاقة ذلك بالتقاليد والأعراف، والمكون الايكولوجي العام. على صعيد بحوث الجغرافيا الطبيعية، يُمكن القول إن التغيّر المناخي قد مثل العامل المركزي لطيف واسع من الاهتمامات المستجدة، التي تداخلت مع كل تفاصيل الحياة تقريباً. لقد فرض الاحتباس الحراري نفسه على الدارسين في حقول عديدة، بما في ذلك الزراعة والاقتصاد والصحة والتربية والاجتماع، فضلاً عن الدفاع والعلاقات الدولية. والبحث في تأثير الاحتباس الحراري على كل حقل من هذه الحقول إما مستجد كمنهج، كما في حالتي التربية والاجتماع، أو مستجد كمضمون، كما في حالات الصحة والدفاع والعلاقات الدولية. ونحن هنا بصدد قضية كبيرة للغاية، ترتبط بمصير البشرية وأمنها الوجودي، والاهتمام بها اليوم هو اهتمام كوني شامل، لا يستثنى منه أحد. وهناك حالياً عدد لا يحصى من الباحثين العاملين على تحليل تأثيرات ونتائج الاحتباس الحراري على القضايا المختلفة لبني البشر. وتموّل الأمم المتحدة، ومنظمات دولية كثيرة، عدداً من هذه الدراسات والبرامج البحثية. هذا الواقع المستجد، جعل من دراسات المناخ سيدة البحوث الجغرافية دون أدنى منازع. بل إن الجغرافيا نازعت، في هذه الحالة، فروعاً دراسية عديدة، وفرضت نفسها كمدخل الزامي لمقارباتها. إن المستقبل هو للجغرافيا كعلم دخل صيرورة التطوّر التاريخي. وقد يكون متعذراً على الجميع مواكبته على نحو تام. بيد أن ذلك لا يعني عدم بذل الجهد بل التأكيد على أهميته. وإن عموم الباحثين في الحقول الإنسانية معنيون بمتابعة التطوّر المذهل في الدراسات الجغرافية. وفي المقدمة منهم مجتمع الباحثين في حقول الدراسات السياسية والعلوم العسكرية. abduljaleel.almarhoon@gmail.com
مشاركة :